1,949 عدد المشاهدات
إعداد : مريم أحمد قدوري
بدأت رحلة التطور والتشييد والبناء في المساجد بدولة الإمارات منذ مئات السنين، ومنذ تشييد المسجد النبوي في المدينة المنورة، كان هناك رحلة طويلة تبلورت عنها صورة جديدة للمساجد، تميزت بجماليات عمارتها، واختلاف معالمها وملامحها التي ارتبطت في مسيرة التغيير وفق خصائص سكان المنطقة واحتياجاتهم الوظيفية والمناخية، وتوافر الإمكانات المتنوعة التي ساعدت على إقامة مساجد جامعة تمأ الآفاق ببنائها الفخم، وزخارفها التي تمأ العين جمالًا وتأملاً في قدرة الخالق الذي ألهم عباده بالقدرة على الإبداع والإنجاز.
ومن أهم ما تميزت به مساجد الإمارات، احتواؤها على عناصر تدعم وتؤكد الهوية الوطنية؛ فالمتأمل لمساجد الإمارات يلاحظ أنها مساجد صرحية تتشابه من حيث الطراز، قامت مؤسَّسات الحكومة الاتحادية بتصميمها وتنفيذها بتمويل من المخصصات المرصودة لذلك من الميزانية الاتحادية. وهذا الواقع يعكس انعقاد الإرادة السياسية في الدولة على تجسيد هوية معمارية وطنية على النمط العمراني الذي تبنته المدن الإماراتية، سواء على مستوى تشكيل الفراغات الحضرية أو مستوى المباني المنفردة التي نتجت عن إرادة السكان وأصحاب القرار، وهذه الهوية لها روح وتتميز بالديناميكية والتغير، بتغير معطيات الحياة اليومية، ما يدفع بنا إلى التأكيد على أن مساجد الإمارات المعاصرة ارتبطت بالإرادة المجتمعية السائدة وليس بالتاريخ، وإن كان التاريخ حاضراً في هوية المسجد الإماراتي.
عمارة بالغة الثراء
نلاحظ نقطة مهمة، هي محدودية استخدام العمارة المحلية في مساجد الإمارات؛ إذ نجد نسبة قليلة من المعماري المحلي البحت. فإذا فهمنا
العمارة المحلية باعتبارها تلك العمارة التي تتحدد الأبنية في إطارها، من خلال مفردات معمارية محلية تقليدية، فإننا سنجد أن الإمارات تتمتع بعمارة محلية بالغة الثراء، تندرج في إطار تيارين أساسين:
أولًا: النمط المتسم بالطابع العربي، والذي يستمد جانباً من مؤثراته من شبه الجزيرة العربية، ونجد امتداداً له في العديد من مناطق شبه الجزيرة العربية، التي تشكِّل أرض الظهير لساحل الخليج، أو تطل عليه في جانب منها، وفي مقدمة هذه المناطق الهفوف، الإحساء، الدمام، القطيف والجبيل.
ثانيا: النمط المتسم بالطابع الهرمزي، والذي يستمد تأثيراته من أرجاء الخليج، وزنجبار وشرقي إفريقيا، حيث هناك مصادر الكثير من المواد التي استخدمت في تشييد أبنية هذا النمط، وفي مقدمتها أشجار اللنج والمانجروف. فيما المساجد المشيدة في إطار معطيات هذه العمارة المحلية الإماراتية، لا تزال قائمة وتؤدي وظيفتها في النسيج الحضري الذي نشأت فيه.
نجد أيضاً من أهم الملامح الجمع بين المساجد الصرحية ومساجد الأحياء الصغيرة؛ إذ لا بدَّ لكل من يتأمل عمارة مساجد الإمارات أن يلاحظ تنوعها الكبير، ومن أبرز ملامح هذا التنوع الجمع بين المساجد الصرحية الكبرى ومساجد الأحياء الصغيرة، التي يقترب بعضها من أن يشكِّل الزوايا التي تشيد لإقامة الصلاة اليومية، وخاصة على الطرق الخارجية وفي القرى والبوادي.
المسجد الجامع
وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن نجد في الإمارات المسجد الجامع، الذي يُعدُّ ثالث أكبر مسجد بعد الحرمين الشريفين، كما نجد العديد من المساجد الكبرى، ومن بينها مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الجامع الكبير في الفجيرة، الذي صمِّم ليتسع لثمانية وعشرين ألف مصلٍّ. ومعظم مساجد الإمارات تتسع لأكثر من ألف مصلٍّ، وخاصة تلك المقامة في قلب المناطق الحضرية بالمدن.
في الوقت ذاته، نلاحظ أنَّ هناك ظاهرة امتداد وتوسعة للمدن مرشحة للاستمرار في جميع الإمارات، يقابلها تزايد كبير في عدد المساجد باعتبارها جزءاً من النسيج الحضري للمنطقة.
ويعدُّ الحرص على إبراز عناصر الصورة الإسلامية للمسجد من أهم مميزاتها، فإذا كانت الصورة الإسلامية للمسجد هي مجموعة العناصر التي استقرت في وعي أجيال متتالية من المسلمين ووجدانهم لتتكامل وتقدم المسجد كما يتصورونه، فإنَّ من الواضح أنَّ مساجد الإمارات كانت ذات نمط تقليدي ما قبل النفط، مجردة من الكثير من العناصر التي تدخل في هذا التصور.
مآذن وقباب
يكفي أن نتذكر في هذا الصدد أنَّ مساجد دبي كانت جميعها با مآذن باستثناء مسجد واحد في الشندغة، والأمر ينطبق على مساجد الشارقة، وهذه المساجد كانت جميعها تقريباً بلا قباب، وبالتالي فإنَّ الذاكرة البصرية لأبناء الإمارات كانت خالية من العديد من العناصر، وعلى الرغم من هذا كله فإنَّ بيئة الإمارات وموقعها على الخليج وحياة الساحل والبحر جعلت منها بيئة مميزة لها كيان خاص بمدن وقرى مميزة، لها مزاجها وطابعها وجمالها رغم بساطتها، نابعة من تقاليد عريقة وتراث قديم وانسجام مع الطبيعة والمناخ، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأوضاع الاجتماعية بصورة عامة. وهذا هو الأساس في مقومات الأصالة التي تتعاطف لا محالة مع نمط العمران العربي الإسلامي.
السياق الاجتماعي والحداثة
لدينا معيار آخر، هو مخاطبة السياق الاجتماعي في تصميم المساجد، وكانت الحقيقة الأساسية في دولة الإمارات، مع إطلالة عصر النفط في التعامل مع النسيج الحضري، وجود تيار يرى أنه من الضروري تبني منهج إزالة ما هو قائم بالعتاد الثقيل، باعتباره مرادفاً للتخلف والفقر والانتماء إلى الماضي المرير، ثمَّ البدء بعملية بناء شاملة، والاستقرار على وضع بنية أساسية متكاملة عقب اللجوء إلى منظمات استشارية متخصصة في وضع مخططات المدن.
هكذا برزت في الإمارات ظاهرة التوجه نحو الحداثة، وتوسَّعت المدن وتضاعفت مساحاتها في فترات زمنية قصيرة جداً، وكانت معدلات النمو السكاني من أعلى المعدلات في بداية السبعينيات، حيث بلغ معدل النمو لسكان المناطق الحضرية بين عامي 1968 و 1975 ، نحو 20 في المئة. وقد عكس هذا حراكاً هائاً على الناحية العملية، من بينها انتقال المواطنين من مساكنهم التقليدية إلى أحياء جديدة متكاملة شيدتها الدولة، وما بقي من السكنات القديمة بعد موجات الهدم التي عمَّت المدن القديمة، سكنه الوافدون الذين عمروها من جديد.
وفي خضَّم هذه الحركة العمرانية الجديدة، بُذِلت جهود مكثفة لمخاطبة السياق الاجتماعي في تصميم المساجد، حيث شيدت المساجد ذات السعة الكبيرة لاستيعاب عدد المصلين الهائل، بينما امتدت مساجد الأحياء الصغيرة لتواكب امتداد أحياء المدن الجديدة وتوسيعاتها الكبيرة.
التراث الإسلامي
نجد في عمارة المسجد الإماراتي معلماً آخر يعنى بالعلاقة المركبة بين التراث الإسلامي في تصميم مساجد الإمارات والحداثة؛ إذ سبق أن أشرنا إلى الأهمية القصوى بتأثير التراث الإسلامي في العمارة العربية الحديثة، وخاصة في سياقها المسجدي، وإن التراث كما نعرفه عملية مستمرة وديناميكية بعيدة عن الجمود والثبات، وهذا يعطينا أفكاراً ويقدِّمُ لنا مقاييس عامة المطلوب احترامها، في أنَّ الفن الإسلامي عموماً لا يعطي الشكل، وإنما يقدم روحاً، وأنت الذي تقدِّم الشكل مادامت الأشكال تتعاطف مع المقياس الإنساني الذي لا يخلو من العاطفة والأحاسيس والضمير. إلا أنه على الأرجح، كانت العلاقة في عمارة المساجد تبدو بعيدة عن التراث، والملاحظ يرى أنَّ هناك قطيعة بصرية بين الشكل والروح، بوجود محاولات بسيطة لاستحضار عناصر التراث في مساجد الإمارات، ولعلَّ المرحلة المقبلة من مسيرة عمارة المساجد في الإمارات ستكون أكثر اهتماماً بالجانب التراثي من سابقتها.
الميل إلى الجمع بين البساطة والقوة من مميزات المسجد وتستمدان مبرراتهما المنطقية من العديد من العناصر المرتبطة بأذواق أبناء الإمارات والموقع الجغرافي الذي تقام فيه المساجد، وبالتالي فإنَّ الحرص على إطالة عمر المسجد كمبنى وكعمارة يفرض نفسه بقوة.
البعد الجمالي
أخيراً يظهر السعي لتحقيق البعد الجمالي من أهم مميزات المساجد في الإمارات، إلا أنَّ تحقيق البعد الجمالي يعاني من مشاكل في الإمارات كما في باقي دول الخليج، بسبب المعماريين الذين اهتموا بجمال المساجد التي صمموها على أنها تشبه الحصون أو القاع أو غيرها من المباني الضخمة، ولا محالة أنها شديدة الجمال، لكن ما تفتقر إليه في الكثير من الأحيان هو النظر في التأثير المتبادل بين المساجد وبيئتها العمرانية والطبيعية، إلا أنه بدأ أخيراً استدراك بعض هذه النواقص، وأصبحت التصاميم الجديدة تحمل روح التراث، وتعكس نمط الثقافة الإسلامية في عمارة المساجد في الإمارات.