1,785 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
هذا العنوانُ كان موضوعَ محاضرةٍ* ألقيتُها في مجلسِ أخي المرحوم محمد خلف المزروعي، بحضور أخي معالي فارس المزروعي ومجموعةٍ من المسؤولين المهتمِّين بالتاريخ. وإتماماً لحفظِ الفائدةِ أُذِيعَت المحاضرةُ على قناة بينونة، وقد اخترتُ لكم بعضاً ممّا جاء فيها.
الأمنُ القوميُّ
عندما نتحدَّثُ عن التاريخِ وتوثيقِه، فإنَّما نتحدَّثُ عن أمنِ دولتِنا القوميِّ، ومن يرَ أنَّ التاريخَ حكاياتٌ وسِيَرٌ وأخبارٌ ماضيةٌ فقط، فإنَّه يرتكبُ خطأً كبيراً؛ لأنَّ علمَ التاريخِ من الأهمية بمكان، كونه يشكِّلُ الأسسَ التي قامت وتقومُ وستقومُ عليها دولٌ في الماضي والحاضر والمستقبل.
ونتذكَّرُ هنا مقولةً لوالدِنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، «إنَّ العلمَ والتاريخَ يسيران جنباً إلى جنب، فبالعلم يستطيعُ الإنسانُ تسطيرَ تاريخه وحفظه للأجيال المقبلة، ليطَّلعوا عليه ويعرفوا ما قام به الآباءُ والأجداد«.
فى هذه الدولة المعطاء، ومنذُ تأسيسِها في عام 1971، أدركنا بعضاً من المؤرخين المحقِّقين، ولكنَّهم كانوا قلَّةً قليلة، وبعضهم كان مقرَّباً من أصحاب السمو الحكّام آنذاك، وكانوا أصحاب رأي مسموع لديهم، لكنهم رحلوا بغير جهود تُذْكَرُ في مجالِ توثيقِ التاريخ؛ إمّا لخوفِهم منه وإمّا لتحرُّجِهم من بعض الأحداث، وإمّا لانشغالاتهم في الأعمال الرسمية أو لانشغالهم في توثيق أمور أخرى ليست بأهمية هذا الموضوع .
فأستاذُنا الرّاحل حمد بو شهاب، رحمه الله، انشغل بالشعر وجمعه ونشر الدواوين، بدلاً من الاهتمام بجمع تاريخ الدولة ونشره، وكان يعلمُ مجريات الأحداث وأخبار هذه الدولة من أبوظبي إلى الفجيرة، بالتاريخ الهجري والميلادي واليوم والساعة في بعض الحالات، لكنه رحل عنّا، رحمه الله، فى العام 2002 ولمّا نأخذ من علمه إلا القليل، وغيره من أهل العلم بالتاريخ، مثل الأديب والشاعر أحمد بن سليّم، رحمه الله، الذي بثَّ بعضاً من التاريخ في أشعاره، ولكنه رحل عنّا في أكتوبر عام 1976 بعد تأسيس لجنة التراث والتاريخ التي وُلِدَت بوجوده قويةً واندثرت من بعده.
قلَّةُ الاهتمام
مضت السنوات وتاريخُ هذه الدولة لا يعلمُه إلا قليلٌ منّا، ونحن فى حيرة من أمرنا؛ لأنَّ الطلبة الذين درسوا في الجامعات، سواء في الداخل أو الخارج، لم يهتموا بهذا العلم ولم يخرجوا لنا إلا الفتات، وأنا لا ألومهم؛ لأنَّ التاريخَ ليس مهمّاً في عرفهم وفكرهم وفي تجربتهم العملية.
اليوم، يتحدَّثون عن الأمنِ الغذائيِّ والأمنِ الصحيِّ وعن أمنِ كذا وكذا، ولكنِّي لم أسمعْهم يتحدَّثون عن «الأمنِ التاريخيِّ» وهذا مؤسفٌ جداً.
يقول الشاعر والفيلسوف الروماني شيشرون الذى مات سنة 43 قبل الميلاد: «التاريخُ شاهدُ الأزمنة، ونورُ الحقيقة، وحياةُ الذاكرة، ومعلمُ الحياة، ورسولُ القدم»، إذاً فالتاريخُ شاهدٌ على كلِّ الأحداثِ ونحن سنكونُ عصراً من العصور فيما يأتي من الزمن، وسنكون شاهدين على عصرنا إذا وثَّقناه بالطريقة الصحيحة ولَمْ ندعه لأعدائنا أو للجهّال ليقوموا بتشويهه.
ولا أدلّ على ذلك من قلّة المؤلفات عن تاريخ الدولة، حيث إنَّنا لو دخلنا إلى فهرس مكتبة دبي العامة مثلاً، وبحثنا عن تاريخ الإمارات لوجدنا 671 نتيجة تقريباً، ولو استعرضنا هذه النتائج لاستخلصنا أنَّ معظمَها دواوينُ شعريَّةٌ أو كتبٌ ثقافيَّةٌ في الأدب والتراث.
ولو عرجنا إلى فهرس المكتبة العامة في أبوظبي لوجدنا 903 من نتائج البحث؛ أكثرها دواوين شعريَّةٌ وكتبٌ ثقافيَّةٌ في التراث والأدب، ولا شكَّ أنَّ كلَّ هذه كتبٌ مهمة، ولا أقلِّلُ من أهميتها، لكن لا نجد عن تاريخِ دولتِنا المحقّق إلا القليلَ النادر.
عظمةُ التاريخ
هل تعلمون أنَّ ثلثَ القرآن الكريم تاريخٌ، اقرؤوا كتابَ الله وتدبَّروه لتعلموا هذه الحقيقة، ولولا أهمية التاريخ لما خصَّه الله سبحانه وتعالى في كتابه بقرابة الثلث؛ إذ قال سبحانه وتعالى «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»، ومن لم يتعلَّم من التاريخ فممَّ سيتعلَّم؟ والتاريخُ لا يعيدُ نفسَه إلا على من لم يدرس التّاريخ، ويتعلَّم منه العِبَر.
يقول أبوجعفر الطبري صاحبُ أقدم كتاب في التاريخ الإسلامي: «العلمُ بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائنٌ من أنباء الحادثين غيرُ واصلٍ إلا ما لم يشاهدْهم، ولم يُدرِكْ زمانَهم إلا بأخبار المخبرين، ونقل المخبرين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس».
ويقول عبد الرحمن الجبرتي فى كتابه المسمّى «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»: «اعلم أنَّ التاريخَ علمٌ يُبْحَثُ فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ودياناتهم، وموضوعه الذى يبحث فيه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم» فما الغرض منه؟ يقول: «الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت. وفائدته: العبرة من تلك الأحوال والتنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلُّبات الزمن، ليحذر العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة والسالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني ويجتهد في طلب الباقي».
ويقول ابن خلدون: «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكن في باطنه نظر وتحقيق».
نصيحة
إننا في دولة الإمارات بحاجة إلى بناء جيش من المؤرخين والعلماء والأكاديميين، لحماية تاريخنا من التشويه والتحريف، تماماً كما نجحَ قادتُنا الكرام؛ صاحبُ السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأخواه؛ صاحبُ السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وصاحبُ السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، من بناء جيش قوي يذود عن الأوطان، ويحمي الشعب ومكتسباته، ويتمتّع بسمعةٍ وخبرةٍ واسعتين قلَّ مثيلُهما في الوطن العربي والعالم.
والتاريخ يفصل بيننا ويظهر الحقائق ويميز بين الشعوب، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وآثار الرجال إذا تناهت
إلى التاريخ خير الحاكمينا