17,946 عدد المشاهدات
الكاتب: محمد أبو عيطة – صحفي وباحث في تراث المجتمعات الصحراوية
إرث ذاخر من الموروث لتقاليد وثوابت من الزمن الماضي، يحافظ بدو «شبه جزيرة سيناء المصرية»، على استمراره في يوميات حياتهم، في تمسُّك فريد من نوعه بقيم إنسانية، تمثِّل ثقافة مكان ورمزية بقاء رغم كل عواصف ملاحقات إغراء حداثة العصر. أستعرض جوانب من هذا الموروث الباقي، وفقاً لمشاهدات ومعايشات لها، والتي يلخصها مثل شعبي تتوارث ذاكرة أجيال بدو سيناء ترديده بقولهم «قطع الورايد ولا قطع العوايد»، أي إنَّ قطع أوردة الدم من الجسد أهون من قطع «العوايد» وهي العادات والتقاليد المتوارثة.
وشبه جزيرة سيناء، بحسب تعريف رسمي لـ«هيئة الاستعلامات المصرية»: «تقع في الجزء الشمالي الشرقي من أرض مصر، على شكل مثلث رأسه إلى الجنوب، وقاعدته إلى الشمال، يحده من الشرق خليج العقبة، ومن الغرب خليج السويس، وإلى الشمال من هذا المثلث يكون الجزء الباقي على هيئة متوازي أضلاع، حدُّه الشمالي ساحل البحر الأبيض المتوسط، وحدُّه الجنوبي خط فاصل يصل بين رأسي خليج العقبة وخليج السويس، وحدُّه الشرقي خط الحدود لمصر، وحده الغربي قناة السويس، وتبلغ مساحة شبه جزيرة سيناء نحو 61 ألف كيلو متر مربع، أي ما يعادل نحو 6% من جملة مساحة مصر».
قبائل سيناء
ويصف نعوم شقير في كتابه «تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها» الصادر عام 1916 سكان سيناء بقوله: «يسكن بلاد الطور (جنوب شبه جزيرة سيناء) قبائل: العليقات، ومزينة، والعوارمة، وأولاد سعيد، والقرارشة، والجبالية، ويطلق على العوارمة وأولاد سعيد والقرارشة اسم الصوالحة». ويتابع المؤلف سرده لقبائل سيناء بذكر سكان قبائل بلاد التيه، وهي مناطق وسط سيناء وهي: «قبائل التياها، والترابين، والأحيوات، والحويطات». ويذكر المؤلف أنَّ سكان بادية العريش، وهي مناطق شمال سيناء قبائل «السواركة، والرميلات، والمساعيد، والعيايدة، والأخارسة، والعقايلة، وبلي البررة، وأولاد علي، والقطاوية، والبياضيين، والسماعنة، والسعديين، والدواغرة».
كل هذا التنوع في مجتمع القبيلة في سيناء لا يزال حتى اليوم ماثلاً في تلك المناطق؛ حيث تحافظ كل قبيلة على موروثها، وإن كان السواد الأعظم منها ودَّع حياة الترحال وركن للاستقرار في بيوت ثابتة من الحجر بعد أن كانت خياماً من الشعر. هذا الاستقرار كان دافعاً أكثر لهم للحفاظ على ما يعتبرونها هُوِيَّتَهم، فنجد أنَّ الرجال يحافظون في ثبات على ارتداء ملابسهم التقليدية، وهي «الثوب العربي» المعروف، وغطاء الرأس، ويسمونه «العقدة»، والعقال، ويسمونه «المرير»، وبالإمكان من غطاء رأس الرجل تحديد منطقة مسكنه الجغرافية. وفي حين يميل سكان مناطق الساحل الشمالي لسيناء لارتداء الغطاء باللون الأبيض، يكون الأفضل من أغطية الرأس لسكان مناطق وسط سيناء وجنوبها المزركش بالأحمر «الشماغ».
وتحافظ السيدات بقوة على ارتداء ثياب تقليدية جرت العادة على أن تطرز عليها خيوط تمثل أشكالاً من البيئة المحلية بشكل جمالي متَّسق، بينما يغطي الرأس «قنعة» والوجه «البرقع». وكما هي حال الرجال في اختلافات بسيطة في ملابسهم يدركها أكثر ابن المكان، حيث إنَّ سيدات المناطق الساحلية الشمالية الشرقية يملن في التطريز إلى اختيار الأصفر والألوان المشرقة، في حين تختار سيدات مناطق الساحل الغربية للون الأزرق المشبع بالخيوط على أجزاء كثيرة من الثوب، وفي مناطق وسط وجنوب سيناء، تبدو الألوان على أثواب السيدات أكثر وضوحاً وتنوعاً في اختيار أكثر من لون، بينما تفضل سيدات مناطق شمال سيناء أن تغطي البراقع كل الوجه وتصبغ باللون الأحمر، وفي المناطق الجبلية بوسط وجنوب سيناء، يلاحظ أنَّ البرقع يتركز في إخفاء مساحات أقل من الوجه ومصبوغ بألوان داكنة، وعلى كل البراقع تحرص السيدات أن تظهر ثروتها من القطع الذهبية والفضية والعملات القديمة التي تعلَّق على جانبي البرقع وتظهر لمن يراها وتكون الحلى الأخرى هي الأساور الذهبية والفضية.
مجالس إكرام الضيف
إحياء بدو سيناء لتراثهم يعتبرونه يوميات حياة طبيعية يعيشونها ويفتخرون بها، ومن بين مفرداتها «الديوان» وهو بالنسبة إليهم أهم من البيت، إذا كانوا مجموعة من عائلة واحدة يقيمون ديواناً واحداً، وإذا كان شخص بمفرده فله ديوانه، وجرت العادة أن من يسكنون القرى والمناطق البعيدة عن الأماكن الأكثر ازدحاماً، حيث متسع المساحات، يقيمون الديوان بعيداً عن المنازل ويفتخرون بهذا التجمع لهم بقولهم «ربعك ربيعك» في إشارة إلى تقاربهم ووجودهم مع بعضهم وهم أقارب، وللديوان واجبات وحقوق، ومن هم أهل الديوان يسمون «المحلية»، وغيرهم من يأتي زائراً أو عابر سبيل فهو الضيف، وداخل الديوان يبقى أهم ما يحرصون عليه ليلاً إشعال النيران، وطبخ القهوة العربية على جمرها، ويعد القهوة أهل الخبرة من كبار السن بأدواتها التقليدية المعروفة، ويناولها الشباب الصغار للضيوف وكبار السن أولاً، وللضيف وفقاً لعرف أهل سيناء فقط 3 فناجين قهوة، كما أن واجب الضيف وإكرامه فرض، ويقولون «الضيف أسير وإن رحل شاعر» ولا يركنون لقلة الحيلة في إكرام الضيف بقولهم «الضيف رزقه معه»، ويقدم له الواجب في الديوان، الذي تقام فيه ولائم الطعام، حيث يحضر كل فرد طعامه، ويتناولون معاً الطعام بشكل جماعي. وللديوان مسميات أخرى منها «الشق»، «المقعد»، «المجلس».
أعراف التقاضي
ووحده بناء مجتمع القبيلة في سيناء قائم على رموز لكل عشيرة، ويسمون «الكبار»، إليهم يرجع الرأي في حال النزاعات وضمان أحد أفراد العشيرة والعائلة، ولا يزال كثير من بدو سيناء يفضلون في نزاعاتهم الركون إلى «القضاء العرفي».
ويعرف يحيى الغول في كتابه «القضاء العرفي في شبه جزيرة سيناء» هذا النوع من القضاء بقوله: إنَّ من يفصلون بين المتخاصمين قضاة وفقاً لنوع كل قضية وهم : قضاة «منقع الدم» ويختصون بالفصل في قضايا القتل وقصاص الجروح، وقضاة «المنشد» ويختصون بالفصل في قضايا الأعراض، و«العقبى» للفصل في قضايا تخص النساء وحقوقها، و«الأحمدي» للفصل في قضايا الاعتداء على البيوت، و«الزيادي» للفصل في قضايا الاعتداء والسرقة وكل ما يتعلق بالإبل والمواشي، وقبل الوصول للقاضي يحدد كل طرف كفيلاً له يضمن التزامه بما يصدره القاضي من أحكام، ويحضر للجلسة كل طرف ومع كل منهم كفيله، يطلب القاضي بعد قيامه بتقديم الواجب من الضيافة للطرفين، أن يحدد كل طرف من يتحدث عنه وإلزام الجميع بالصمت وعدم المقاطعة، ويستهل جلسته بقراءة الفاتحة، ثم يقدم عرضاً عليهم بالتصالح بعيداً عن التقاضي، وتقال عبارة شهيرة وهي «الخير في الصلح والعفو شيمة الأكرمين»، وإن لم يقبل الطرفان الصلح يبدأ إجراءات جلسته، بالتأكيد أن كفيل كل طرف ليس «مكبوراً» بمعنى أنه أكبر قومه وليس هناك من يتحدث عنه ومشهود له بالأمانة وقادر على الوفاء بالالتزام بما يصدر من أحكام، وبدوره يطلب الكفيل من القاضي أن يستمع إليه ليعلن أمام الحضور على من يكفله أنه كفيله وفي حالة أي مراوغة في السداد بقوله «قرشي بقرشين وجملي بجملين ورجلي برجلين»، ويشهد الحضور على ذلك.
بعدها يطلب القاضي من كل طرف عرض حجته دون مقاطعة الطرف الآخر له، بعدها يعيد القاضي على مسامع الحضور عرض ما سمعه من الطرفين من حجج ليؤكد للحضور استيعابه وفهمه لكل طرف.
ويأتي حكم القاضي بعد ذلك، بالأحكام العرفية، وهي ما بين أحكام مادية أو معنوية، ومنها غرامات وتعويض، أو رفع راية بيضاء في أكثر من مكان على مقدمة مجلس وديوان دلالة على اعتراف بخطأ.
ومن حق أحد الأطراف الطعن على الحكم أمام القاضي في ذات الجلسة بقوله للقاضي «ارفعني لمعدوفي»، وهو القاضي الثاني الذي اتُّفق عليه سلفاً، وتستأنف الجلسة العرفية عند القاضي الثاني الذي يصدر الحكم بتأييد حكم القاضي الأول أو بغيره. فإذا كان بالتأييد أصبح واجب التنفيذ، وإذا كان غيره تنتقل الجلسة لقاضٍ ثالث، وهو من يحسم الأمر وقراره لا يرد وينفذ.
وترافق الإجراءات رسوم قضائية تسمى «الرزقة» وهي مبلغ مالي يحدده القاضي من كل طرف، وبعد انتهاء الجلسة يكون الخيار للقاضي، إما استرجاعها أو قبولها أو قبولها من طرف دون آخر.
مصطلحات التقاضي
ويحافظ بدو سيناء على حفظ مصطلحات في مجريات القضاء العرفي، وهي أدلة إثبات للقاضي، ومنها «شهود نقالة النعش»، وهم من يشهدون على أقوال المحتضر وتوصياته بكل أمانة ويسمون «نقالة النعش»، ومصطلح «شاهد الخبرة»، وهو من يمتلك الخبرة في علوم معينة ويشهد له بالأمانة كمعرفته بحدود الأراضي، ومناطق الرعي، ويتم قبول شهادته برضا الطرفين المتنازعين، ولأحد الأطراف حق الاعتراض على الشاهد إذا ما تبين له أنه يحمل صفات محددة لا تقبل وفقها شهادته بحسب الأعراف القبلية.
ومنها «من خان مضيفه»، أي من غدر بضيفه بأي صورة غير أخلاقية، و«من سرق جاره»، و«المعتدي على جارته»، و«سارق ضيفه»، و«من غدر بصاحبه ورفيقه»، و«الغادر بالمستجير به»، و«من سبق له شهادة الزور»، و«الفار من المبارزة عن أصحابه»، و«عاق الوالدين»، و«المفطر في رمضان»، و«من سبق القيام بأعمال محرمة».
أعراف الأفراح وتقاليده
عادات الزواج عند بدو سيناء وإن كانت ودَّعت نقل الزوجة في الهودج على ظهور الإبل بحكم تطور الزمن، إلا أنهم يحافظون على ملامح تراثية فريدة من نوعها في مجمل أفراحهم، ويبدأ العرس بوليمة تقيمها بعض القبائل إحداها غداء وأخرى عشاء، حيث يدعى لها أقارب وذوو «العريس فقط»، ويعتبرون أنه من «العيب» حضور أحد من ذوي العروس، وكل قادم يبادر بتقديم التهنئة بقوله «يجعلها مبروكة»، وقبل رفع أدوات المائدة يرددون وراء أحدهم الدعاء للعريس بصلاح الحال ومباركة زواجه، ويحضر العريس عروسه في موكب سيارات جماعي، وينشغل أصدقاؤه الشباب ليلاً بإقامة حفلات فنية تقليدية، يقدمون خلالها عروض السامر البدوي، وهو أحد ألوان الفنون التقليدية المتوارثة القائم على ترديد أشعار في قالب غنائي بين الشعراء وهم يحركون أقدامهم ويصفقون.
ويسبق اختيار الزوج لزوجته نصائح وقيم تناقلتها الذاكرة الشعبية ومنها قولهم «عرب وليدك عربه، النار من مقابسها» أي اختر لولدك أماً من أصل عربي، لأن كل شيء يعود لأصله، كما أن أصل النار من شرر صغير. وفي مثل آخر «ما تجيب الولاد غير عوج البراقع» أي لا تنجب الشجعان غير النساء الأصيلات.
سباقات الهجن
ومن الملامح التراثية التي لا يزال يحافظ عليها بدو سيناء، سباقات الهجن، ويعتبرونها إكراماً للإبل التي رافقتهم في الماضي وأيضاً في الحاضر، ويفتخر بدو سيناء أنهم «أهل أرسان» أي أصحاب إبل من سلالات أصيلة يحافظون على عدم التفريط في نسبها، ويقولون في أمثالهم «الرجال خمسات والإبل خمسات»، أي إن الرجال معروفة أنسابهم حتى الجد الخامس وكذلك الإبل، ويقولون عن الإبل «عند أهلها ركوبها عز وامتلاكها فخر».
وفي التقاليد السينائية تنظم سباقات الهجن في الأفراح وخلال الأعياد على رمز وشارة يحددون من يصل إليها أولاً، حيث التشجيع لمن يسبق. وقد تحولت السباقات من نشاط تراثي شعبي لنشاط رسمي، حيث شكل المهتمون بالتراث من أبناء بادية سيناء أندية رياضية من خلالها يمارس نشاط سباقات الهجن في مضامير مجهزة أشهرها مضمار شرم الشيخ لسباقات الهجن بجنوب سيناء، وإليه يحضر ملاك الهجن من كل أنحاء مصر ليتنافسوا مع ملاك هجن من بدو سيناء، وتجمع السباقات عشاق سباقات الهجن، كما أن كل قبيلة تقيم مخيماً خاصاً بها يحمل اسمها.
ومن ملامح التراث الثقافي عند بدو سيناء نظم الشعر النبطي، ويقولون عنه القصيد، ومن أمثلته قول شاعر سيناء الكبير عنيز أبو سالم، رحمه الله، في وصاة لابنه واسمه كما جاء في القصيدة «عشيش» وفيها يقول الشاعر:
«ياونـة ونيتـهـا عـقـب نيـمـه
والعين تتنوش مـن النـوم تنويـش
يا عشيش لك عندي وصاة مقيمه
وصيّة اللي جـرب المـر يا عشيـش
يا عشيش لا تاكـل عقـاب الوليمـه
ولا تمـثـل للـرجـال الـدراويـش
وخلك صبور وخل نفسـك عزيمـه
وأرضى بكومك لو عطوك الكراكيـش».