811 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
تنكّروا للغتنا الخالدة والعالمية لغةِ المجد والعزّةِ والكرامةِ والأصل العريق، وتفاخروا بلغة غيرنا لغة المستعمرين الذين لم يضعوا حجراً واحداً لبناء مدرسةٍ ولا جامعةٍ في بلادنا، ولم يشقّوا طريقاً لخدمة الناس، ولم يضعوا لنا أيّ أساسٍ للنهوض من عصر الجهل والفقر، ولكنّ الله منّ علينا بحكّامٍ مخلصين حكماءَ رفعونا إلى أعلى قمّة المجد في سنواتٍ معدودة، وغمرونا بحبِّهم وحرصهم حتى صرنا اليوم إلى ما صرنا إليه؛ من نعمةٍ وفضلٍ وخيرٍ وأمنٍ وتقدّمٍ، يقرُّ به كلُّ من له لبٌّ (عقلٌ) وقد خلا قلبه من الضغائن والحقد، فلن ينصفك قلب حقود ولن تعينك نفس حسود.
بعد أن رأى الناس من كل مكان الخير الذي نعيش فيه بفضلٍ من الله، بدأت وفودهم تأتينا تترى (متتابعة)، وكانت في بدايتها قليلةً، وما لبثت أن زادت أعدادها وبدأت تستقر وتنتظم في الأعمال وأسست لأبنائها مدارس، ثم لما فُتحت المناطق الحرة قاموا بالشراء فيها والاستثمار، وكان المتوقّع الذي يقبله فكر أهل العقل أن يقوم هؤلاء بتعلّم لغتنا العربية والوقوف عند عاداتنا، ونحن بدورنا نقوم بمساعدتهم على تعلّمها، وهذا هو المتعارف عليه في العالم المتقدّم والمتخلّف على حدٍّ سواء؛ وشعبنا والحمد لله شعبٌ طيبٌ وكريمٌ يحبّ الخير للبشرية حكّاماً وعامةً، ولكن – واأسفاه – قُلبت الصورة عندنا فصرنا نحن نتعلّم من أجلهم الإنجليزية، وبدأنا نهمّش لغة وحدتنا ومجدنا العربية شيئاً فشيئاً، حتى أُلغيت العربية من الجامعات الوطنية وأصبحت لا أهميّة لها البتّة!
وعن الأمن اللغوي الذي لا يقلُّ أهميّة عن الأمن الغذائي والسياسي والاقتصادي، يقول الدكتور موريس أبو ناضر: “إذا كان وضع اللغة العربية اليوم يشكل مؤشراً إلى مقدار تخلّفنا أو تقدمنا، فإنّ اللغة عند الشعوب المتقدمة هي الطريق الى الهيمنة، وهي البوابة التي تدخل منها الأطماع، وبسط النفوذ على الشعوب الفقيرة، والنفوذ هنا ليس نفوذاً اقتصادياً أو سياسياً فحسب، إنمّا ثقافياً وفكريّاً بالأساس”. قلتُ: إن الدكتور موريس بهذه الكلمات يضع يده على الداء مباشرةً ويصفه لنا ويعرّف خطره، وقد بيّن أنّ اللغة عند الشعوب المتقدمة طريقٌ إلى الهيمنة الفكرية على الناس، هذا إن كانت فقيرة، أما إذا كانت غنيّةً فالأمر أخطر وأفظع، لأنّها ستتعرض إلى ضياعٍ سريعٍ لكلّ ما اكتسبته من إنجازات وسوف تذهب هيبتها واستقلالها تدريجياً عند ضياع لغتها وهُويّتها.
فهل يعي ذلك من فرض اللغة الإنجليزية لتكون لغةً للتدريس وهمّش العربية وجعلها لا تفيد ولا تضر، مخالفاً بهذا الأمر قانون دولتنا التي تأمر بالحفاظ على اللغة العربية وتدافع عنها، وهناك مادة في الدستور تنصُّ على أنّها اللغة الرسمية التي لا تشاركها لغة، وبها سُمّيت الإمارات العربية، فلولا اللغة العربية هل سنكون عرباً أيها الأعزاء؟ ولأنّ هذا الأمر صار حقيقة، رضخ له أبناؤنا وبناتنا حتى نسوا الكتابة والقراءة بالعربية، وأصبحوا يتحدثون بلغةٍ أجنبيةٍ عنهم ويكتبون بها رسائلهم وأبحاثهم، فهل يعي هؤلاء أو يشعرون بهذا الخطر الكبير على فكر الأبناء والبنات وتوجّهاتهم السياسية والعلمية والثقافية في المستقبل القريب، عندما يختفي الجيل الذي تعلّم المناهج القديمة العربية وتربّى على الولاء والإخلاص؟ أم أنّهم فعلوا هذا من غير شعورٍ فأدخلوا الأفاعي والضباع إلى مدارسنا وجامعاتنا، وهم في كلتا الحالتين سوف يَصْلَوْن (يكتوون) بلظاها (بنارها) عندما تتغير الأفكار ويترسّخ في قلوبهم حبُّ الغرب واتباعه وتقليده ويفكرون بلغته، لأنّهم سيكونون وبالاً ونقمةً علينا إذا لم نتدارك الأمر في أسرع وقتٍ ونصلح الخلل قبل أن يضيع هذا الجيل ولا ينفع حينئذٍ ندمُ نادم!
الأمن اللغوي في وحدة اللغة العربية والاعتناء بها وألا يكون التدريس إلا بها، وعلى المسؤولين استخدام كل الطرق لترسيخها في قلوب الناشئة حتى يشعروا بأهميتها ويفتخروا بها، فيكتبوا ويقرأوا ويعرفوا القواعد النحوية والإملائية كما كان الرعيل الأول. ولنمكّن لغتنا من نفوسهم يجب علينا أن نقلل الاهتمام بالإنجليزية ونجعلها لغة ثانويةً كما كانت، وليتعلّمها من لا يمكن أن يستغني عنها في مثل كليات الطب والهندسة والتقنيات مع فرض تعلّم علوم العربية عليهم.. هذا هو المنطق الصحيح، ومن غفل عن أمنه فلا يلومنّ إلا نفسه، ورحم الله الشاعر مبارك العقيلي عندما قال:
صبأتمْ للرطانةِ وهي تيهٌ
بها للدينِ والعربِ الضياعُ
تقولونَ التمدّن يقتضيها
كذبتم أيّها الهمَجُ الرِّعاعُ
قلت: لقد قال العقيلي هذه الأبيات في تلك السنوات التي لم تشهد بعدُ كلَّ هذا التغريب، ولكنّه بحسّه الصحيح وحكمته شعُر بأنّ التغريب فيه ضياع للأمن وللعرب وللدين.