3,498 عدد المشاهدات
الخليج العربي يحوي تاريخه كثيراً من الأحداث والأخبار التي نعرف بعضها ونجهل أكثرها، بسبب قلة التدوين أو لِنَقُلْ: لغفلة المؤرخين عنه؛ فهو بعيد عن مركز الخلافة ولا يتمتَّع بأهمية كبيرة لدى أهل السلطة، بسبب الفقر المدقع وقلَّة موارده وخَراجه الذي يُجلب إلى الخلفاء والأمراء على مرِّ تاريخ الإسلام، وإن ذكرنا أهمَّ مصدر للثروة في تلك الأيام فلن نجد إلا مهنة الغوص لاستخراج اللؤلؤ، ومع ذلك فإنَّ دار الخلافة لم تنظر إليه بنفس الأهمية التي كانت تنظر إلى العراق والشام ومصر والبلدان الزراعية الأخرى ذات الأنهر والموارد الطبيعية والصناعات.
يُقال إنَّ المنتصر القوي هو الذي يملي أخباره وأحداث تاريخه، ولو كانت كذباً؛ لأنه الأقوى ولا بدَّ أن يصدّقه الناس فيما يقوله ويرويه، وهذا ما حصل على مرِّ العصور حتى يومنا الحاضر، ولم يكن المؤرخون في الأزمان الماضية يعرفون الطرق الحديثة لتدوين التاريخ التي أسَّسها المؤرخون المعاصرون، ولا يعرفون أيضاً الأساليب الأكاديمية التي أصبحت في العصر الحديث السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة أو الدخول في شكٍّ مطلقٍ، ولم تتوافر لهم الخرائط الجغرافية والمكتبات العالمية كما توافرت هذه الأيام، بل اعتمد الأوائل على التاريخ السردي بالأسانيد مرات ومن غير رواية الأسانيد وذكر المصادر مرات أخرى، وكانوا يذكرون الأحداث سنة بعد أخرى حتى يصلوا إلى عصرهم، ثمَّ يأتي من بعدهم من يكمل حتى عصره وهكذا دواليك.
إذا علمنا بأننا نجهل كثيراً من تاريخ خليجنا العربي، وأنَّ المؤرخين الإسلاميين لم يذكروه إلا لماماً بسبب بعده عن مركز الخلافة، وعدم وجود الثروات التي تجعل الخلفاء يهتمون به، وكذلك وجدنا أنَّ معظم ما وصلنا من هذا التاريخ تغلب عليه صفة الأساطير التي كتبها مؤرخو سلاطين فارس والغزاة من أمم أخرى، فإننا نحتاج اليوم إلى مراكز بحثية محكَّمة لتجمع لنا تاريخنا من جميع مصادره وتحلله وتظهر صوابه من محاله، لتعلمَ الأجيال القادمة بأنَّ هذا الخليجَ عربيٌّ بساحليْه منذ العصور الأولى، وكلُّ من يدَّعي غير ذلك فإنَّ هذه المراكز تستطيع تكذيبه وإظهار الحقيقة التي يعرفها جميع أهالي الخليج الكرام، ولكن لا يملكون الأدلة العلمية الواضحة، بسبب بعدهم عن الدراسات التاريخية.
وجزيرة “قيس” نالها ما نالها من هذا التذبذب في تاريخها؛ لأنَّ هناك من يسميها “كيش” ويظن أنَّ الاسم الصحيح هو هذا، والحقيقة ليست كذلك، بل هي جزيرة “قيس” ولن نسميها إلا بهذا الاسم كما توارثها أجدادنا عن أجدادهم، وسنناقش أوَّلاً ما كتبه الجغرافي الأديب ياقوت الحموي، صاحب كتاب “معجم البلدان” (574-626 هـ): “قيس جزيرة، وهي كيش في بحر عمان دورها أربعة فراسخ، وهي مدينة مليحة المنظر ذات بساتين وعمارات جيدة، وبها مسكن ملك ذلك البحر صاحب عمان وله ثلثا دخل البحرين”.
وذكر الحموي أنه زار جزيرة (قيس) والجزر التي حولها مرات عديدة، فهو يصفها كما رآها في القرن السابع الهجري، وهو ليس رحَّالة من جملة أهل الرحلات فحسب، بل هو عالم وأديب ومؤرخ، وكان يحرص، رحمه الله، على التحقيق والدقة ولهذا بدأت بكلامه.
ومن المعلوم أنَّ سلاطين فارس في زمن ياقوت الحموي، قد تغلَّبوا على كثير من المناطق الساحلية في الخليج من جهة فارس وجزرها، ولكن هذا لا يعني أنَّ العرب الذين انتقلوا للعيش في ذلك الساحل منذ قديم الزمان وحكموا الساحل وجزره، تركوا عروبتهم وأصبحوا فرساً، فهم، وإن أتقنوا الفارسية إلا أنهم لم يتخلوا عن عروبتهم وطبائعهم التي ورثوها من أجدادهم، ولهذا وقع في ظن ياقوت أنَّ كلَّ أهالي هذه الجزيرة العربية “قيس” من الفرس، وهذا وَهْمٌ أسقطه فيه غلبة الفرس في تلك الأيام، فقال: “كيش هو تعجيم قيس، جزيرة في وسط البحر تعدُّ من أعمال فارس؛ لأنَّ أهلها فرس، وقد ذكرتها في قيس، وتعدُّ في أعمال عمان”.
قلت: قول الحموي: كيش تعجيم قيس دليل على أنَّ الأصل في اسم هذه الجزيرة هو “قيس” ، ثمَّ لمَّا لم يستطع الفرس نطق هذه الكلمة، بسبب عدم وجود القاف في لغتهم قالو :”كيش”، وهو الصواب والأقرب إلى الحقيقة؛ لأنَّ العرب سموا هذه الجزيرة “قيس بن عميرة “، ولم يستطع أهل فارس نطق هذا الاسم؛ فنطقوها بلفظ قريب، ولهذا قال ياقوت: “تعجيم قيس”.
أما قول صاحب القاموس المحيط: وقيس: “كُورَةٌ (بلدة) بمصر، سمّيَت بِمُفْتَتِحِها قيس بن الحارث، وجزيرة ببحر عمان، معربة كيش”، فهذا وَهْمٌ منه، رحمه الله.
والصواب هو العكس، فالتعريب لا يكون بتعريب الاسم وإضافة اسم والد مثل قولهم جزيرة “قيس بن عميرة”، بل الأقرب إلى الصواب أن يكون الفرس سمعوا هذا الاسم وعجَّموه بلغتهم ليسهل عليهم، كذلك لماذا ينسب بلدة قيس المصرية إلى مفتتحها قيس بن الحارث، ولم تنسب جزيرة “قيس” إلى من نسبت إليه وصارت مشهورة به مند القدم “قيس بن عميرة”؟!
ذكر أيضاً ياقوت الحموي هذه الجزيرة باسم ″قيس بن عميرة″ عدة مرات في معجمه، مما يدل على أنَّ العلماء يعرفونها بهذا الاسم في كتبهم، وإن شاع مسمى “كيش” عند العامة، بل ذكر مرة بصيغة الجزم أنَّ قيساً هذا هو أوَّلُ من عمرها، فقال عند ذكره خراب مدينة (سيراف) وكيف طغت على تجارتها جزيرة قيس: “كذا كان في أيام أبي زيد، فمند عَمَر ابنُ عميرة جزيرة قيس صارت فرضة (ميناء) الهند، وإليها منقلب التجار لما خربت سيراف”.
وهذا يشير إلى القصة التي يرويها أهل قيس عن أجدادهم حول تسمية الجزيرة بقيس بن عميرة.
لم يكتفِ ياقوت الحموي بذلك؛ فقد ذكر الجزيرة مرات عدَّة أيضاً باسم (قيس) ثمَّ يشير إلى الاسم الذي تُعْرَف به في وقته، ومنه قوله عند ذكره الجزيرة جاسك: “جزيرة كبيرة بين جزيرة قيس، هي المعروفة بكيش وعُمَان”، فتقديمه اسم “قيس” ثمَّ قوله “هي المعروفة بكيش” دليل على أصل عروبتها، وأنَّ أهل فارس عجَّموها لتناسب لغتهم، وشاع اسم كيش بدل قيس، ولكن العرب احتفظوا باسمها التاريخي (قيس بن عميرة) إلى يومنا الحاضر.
لعلَّ قائلاً يقول: ماذا يفيد أن نذكر أصول أسماء بلدان ومواضع خرجت من ملك العرب وأصبحت في يد غيرهم؟! وأقول له: إنَّ علم التاريخ ليس مناطاً بما صارت إليه الأحوال في وقت تسجيله، بل هو ذكر للحقائق التي حدثت في زمن ما يختاره كاتب التاريخ إمَّا لأسباب تعليمية أو سياسية أو لأجل تصحيح خطأ وفهم الأحداث وربطها مع بعضها، ليستفاد منه في شتى مناحي الحياة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحقائق إلا عن طريق الرواية الصحيحة أو الكتب المصدَّق كُتَّابها وتاريخ نسخها أوالوثائق التي لم تُزَوَّر وتُخلق من العدم- وما أكثرها هذه الأيام- أو الخرائط الجغرافية التي ثبت صحتها عند العلماء وغير ذلك من الأدلة المعينة على البحث والتحقيق.
ومن هذا الباب قد يسأل سائل: هل وجدت يا جمال دليلاً أكبر من الأدلة التي سقتها لإثبات عروبة جزيرة “قيس بن عميرة”، وأن اسم “كيش” لم يكن إلا تعجيماً لقيس؟ قلت: نعم هناك دليل وجدته، بفضل الله، وهو قديم وأقرب إلى الصحة، وتطمئن إليه قلوب أهل العلم بالجغرافيا، وقبل أن أذكره لكم أريد أن أنقل لكم من كلام علماء الإسلام ما يثبت أنَّ اسم “كيش” كان شائعاً في فترة من الزمان عند العامة، حتى وقع صاحب القاموس المحيط “الفيروز آبادي” في الخطأ، وهو من أهل شيراز، ومن أَجَلِّ علماء اللغة، وصاحب أهمِّ كتاب معجمي، ولكن الخطأ يقع فيه كلُّ أحدٍ، وجلَّ من لا يخطئ، حيث قال: “قيس معرَّبة كيش”، وقد ذَكَرْتُ وَهْمَهُ هذا، وممَّن أشار إلى تغيير الاسم من قيس إلى كيش، العلَّامة الحافظ عبدالكريم السمعاني (506-562هـ) في كتابه الأنساب، فيقول عند ذكره للنسبة إلى “كيش”: “هذه النسبة إلى كيش، وهي جزيرة قيس، في وسط البحر، جعلوا قيساً كيشاً″، وفي قوله جعلوا قيساً كيشاً دليل واضح على أصلها العربي والسمعاني من أهالي مدينة “مرو” التي تقع اليوم في “تركمانستان”. أمَّا الإمام أحمد بن خلكان (608-680هـ) فيقول في كتابه “وفيات الأعيان”: “وهذه النواحي كلها بلاد العرب، وهي وراء البصرة تتصل بأطراف الحجاز، وهي على ساحل البحر المتصل باليمن والهند، بالقرب من جزيرة “قيس بن عميرة” وهي التي تسميها العامة “كيش”، وهي في وسط البحر بين عمان وبلاد فارس، قلت: رحم الله ابن خلكان، لقد أثبت بما لا يدع للشك بأنَّ الاسم الأصيل لهذه الجزيرة العريقة هو “قيس” وإنما حدث التغيير بسبب العامة.
ومن هذا كله نصل إلى أهم دليل وَصَلْتُ إليه عن طريق خارطة قديمة تعود إلى العام 150 ميلادية موجودة في كتاب “الجغرافيا” للعالِم لليوناني بطلميوس (90 ق.م-168م) الذي أعاد طباعتها ليونهارت هول عام 1482م ومكتوب على جزيرة “قيس” باليونانية وبأحرف لاتينية: omil, tus, sabana, sinful
وإذا أردنا تعريب هذه الأسماء اليونانية، فإنَّ أقرب اسم لـ omil هو عميرة، وقيس لـ tus، أما sabana فهي واضحة وتدل على شبانة، وقد احترت في فهم الاسم sinful واحتار مثلي مكتشِف هذه المعلومة قبلي الأستاذ أحمد القبندي، وأظن أنَّ اليونانيين سموا جزيرة ″قيس″ بالجزيرة المذنبة؛ لأن أهلها خارجون عن القانون بسبب كثرة غزواتهم في البحار، وقد ذكر ذلك عنهم جمع من المؤرخين، وهو المعنى الأقرب إلى الصحة والله أعلم.