جمال بن حويرب شاعر الأصالة المعاصرة

مقالات متنوعة

 1,342 عدد المشاهدات

الكاتب: محمد علي شمس الدين

يعرف الشاعر الإماراتي جمال بن حويرب، في قصائده الأخيرة تحت عنوان «أطياف» من مجموعته الشعرية «الفاتنة» (منشورات ضفاف -بيروت ومنشورات الاختلاف-الجزائر 2015) أن يدير قصيدة حديثة إذا أراد. ذلك أنه «كلما تغيرت المدينة تغيرت الموسيقى» (كما يقول أفلاطون)، وذلك أن قصيدته المسماة «أيتها الرقيقة العنيفة العالية» هي ذات إيقاع جديد يختلف عن إيقاعه في سائر قصائد الديوان. ومثلها قصيدة «الحروف تقفز من ذاكرتي» التي ينتقل فيها من نواة وزنية إلى أخرى مغايرة ثم لينسرح بعد ذلك في إيقاع نثري مرسل، فالوزن لديه لا يلبث أن يرتحل ويسترسل نحو النثر. فبعد «مستفعلن» في قوله «أفعى على تلك الدروب» تأتي جملة فعلية على نواة مفاعلن «لتقتل القلوب» ثم تنسرح الكتابة في جملة «في زمن قاس مدع»… لكنه في قصيدة «حبر الشريان» يعود لينتظم بدقة على نواة المحدث «فعلن» بإيقاع يختلف عن إيقاع الياس أبو شبكة في قوله «اجرح القلب واسق شعرك منه»، فيقول «في قلمي حبر من صنع القلب/ يتدفق من نهر الشريان». والقصيدة هذه في الحب وتليها قصيدة أخرى في الحب أيضاً هي قصيدة «الصمت» يسود فيها وزن المحدث، ولكن، حراً، وتتنوع القوافي «في غدنا شمس ليست تشبه إلا وجهك أنت».

وإذا كنا نبتدئ هذه القراءة من ناحية «الإيقاع» فلأن الإيقاع في عمقه هذا هو الشعر. إنه المحارة التي إذا وضعنا أذننا عليها، نصغي من خلالها إلى أمواج البحر وأصواته. لم يكن ثمة من تمهيد لانتقال الشاعر في القسم الأخير من ديوانه المسمى «أطياف» وهو قسم صغير من خمسة أقسام تشكل صلب الديوان.

أقول: لم يكن ثمة من تمهيد لهذا الانتقال. فثمة أربع وأربعون قصيدة سابقة ذات أوزان خليلية تامة أو مجزوءة، يديرها الشاعر بمهارة عالية، وينتقل من الطويل إلى البسيط إلى الكامل إلى المحدث، انتقاله من الغزل إلى الوصف إلى الحكمة فالمدح فالرثاء… وهي أغراض الشعر العربي الكلاسيكية على امتداد تاريخه الطويل. ومن بيتي الإهداء: «ولم أكتب من الأشعار بيتاً/ ولم أنطق بحرف أو كلام/ سوى أني ذكرتك في ابتداء/ وأني قد ذكرتك في الختام»، ندرك أننا أمام شاعر يعود بنا للأصول الشعرية. ثم تكشف لنا المقدمة التي كتبها للديوان، والقصائد ذاتها، إننا أمام شاعر نضج الشعر في صدره على نار هادئة، وأنه يتهيب الشعر (وهو على حق)، وأنه لا ريب لديه في المكابدة، فهو ليس ممن يستخفون بالشعر، أو يستسهلونه، بل لعل للشعر في نفسه رهبة تدفعه أحياناً للبكاء، فخفة الكثير من أشعار هذه الأيام وهشاشتها تزيدان الشاعر تمسكاً بالأصيل الراسخ من الشعر، حتى ولو كان قليلاً. وهو يعرف أن الشعر سر لا يعرف كنهه، وأنه شمس الحقيقة، ويسري في الضمائر، كما يسري العقار بعقل محب ثمل. ويعرف أن الأصل في الشعر، الصعب وليس السهل.

جزالة الشعر وبلاغته

جمال بن حويرب في قصائد «الفاتنة»، يكتب بجزالة وفصاحة وبلاغة عربية تستقي روحها ولغتها من الأصالة الشعرية. وفي رأي ابن منظور،الجزالة جودة الرأي، وتمام الخلق والجزل في الشعر ضد الركيك. أما الفصاحة فمن البيان. فالفصاحة العربية هي ابتداء، لأن الشاعر العربي يبدأ فصيحاً والعي يأتي في الزمن الأعجم. وهو، إذ هو كذلك، فإنه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. والفنون التي تناولها بقصائده، هي من تلك الناحية من الأصالة من شروق شمس الشعر العربي، فثمة قصائد حب ونسيب وافتخار بالأصل والنسب، وإدخال للحبيب (أو الحبيبة) في البلاد، وللبلاد في الحبيبة. حتى كأنك لا تعرف أحياناً إن كان يتغزل ببلاده (الإمارات العربية المتحدة) أم بحبيبته، ومن أبوابه المدح والرثاء وقصائد الصداقة والحكاية الشعرية. كل ذلك من خلال صيغة شعرية مسبوكة كذهب الصحراء. تحس أن تراب هذه البلاد قد امتزج بدمه، وأن أسياد هذه البلاد قد نقلوها من مرابط الصحراء إلى ناطحات السماء… والشاعر يصحو على تلك النقلة العظيمة لبلاده من الرمل إلى الواحة، ومن الخيمة إلى الأبراج العالية. إلى ما هو أبعد في الأرض العربية. فبيروت حاضرة في قصيدة يمجد فيها مقاومة الشعب اللبناني، وهي عينية طويلة على الكامل، يقول فيها: «لبنان أبشر والذي رفع السما/ هذا أوان سقوطهم والمصرع». ولبغداد نصيب في شعره: «بغداد بغداد يا حلمي من الأزل/ ويا حنيني ويا شوقي ويا غزلي»… وهو يعرف كيف يمد تلك الجسور اللطيفة من الحب لأصدقائه. يقول لصديقه الشاعر سيف بن محمد المري: «لأنت مني مكان القلب من جسدي/ وأنت للروح بعد الله معتصم». وتظهر عاطفة صادقة نقية في المدح كما في الرثاء. فهو صاحب تأمل في الحياة وما بعدها. يقول: «قلبي يئن ودمعتي تترقرق/ والروح من فقد الأحبة تفرق/ هذا الذي أخشى وإني مؤمن/ لكنها نفس تكاد تمزق». وفي هذه القصيدة بيت تتوالى فيه سبعة أفعال أمر على التوالي، ما يشير إلى قدرة الشاعر على إدارة اللغة ببراعة فائقة. يقول: «اعمل وبر وصل واذكر في الدجى/ واصدق وثق واشكر وأنت محقق». لكن للشاعر ضربات شعرية، ترن في القصائد الطوال، رنين الصنوج في عرس. يقول في الثلج: «وإذا رأيت الثلج يصبغ عشبه/ بالشيب عاد شبابه يتجدد/ فكأنه حظي إذ لاقيتكم/ عم الحيا وإذا ابتعدتم يجمد». فهو هنا يناسب بين الثلج إذ يصبغ العشب بالشيب فيتجدد، وبين ذاته إذا التقت بالأحباب، يعمه الحيا (وهو من الحياة) فإذا ابتعدوا جمدت. والتشبيه هنا جميل وأخاذ، والنظم على سجيته أي ليس فيه تعب أو تكلف.

ويقول في الحب (على الطويل): أحبك حتى لا أريدك حاجة/ وللحب معنى ما حواه كتاب/ معاذ الذي سواك بل أنت مهجتي/ وشعري عن ذاك السؤال جواب». ولعله في المحدث الراقص: «يا روح الروح/ من بعدك تاهت أشعاري/ وارتحل العقل عن المعقول» حيث تتوغل الروح في الروح، ويلعب عطف المفردة على ذاتها أو ما يشتق منها (العقل والمعقول) دوراً في صنع لغة الشعر. وللشاعر حدس لغوي قوي، وقدرة على استعمالات لغوية نادرة مثل قوله: «وما يستوي العشاق هذا منعم/ وهذاك في بحر الغرام يذوب» حيث تبرز مفردة «هذاك»، وهي اسم إشارة مصنوع من اسمين: هذا وذاك، فدمجهما الشاعر بفنية لغوية جميلة. وهذا التصرف الشعري باللغة يبرز لدى الشاعر في أماكن متنوعة فيقول: «من ظن أن وداداً مات في كبد/ لسوف يطلب م العشاق غفراناً» فقد اختصر حرف الجر «من» بـ «م». كما أنه قادر على صب المعنى في صيغة بليغة، كما لو أنها الروح تدخل في الجسد. يجيد الغزل. ويقول: «أحبك حباً لو تفرق في الورى/ لما بقيت في الخافقين ذنوب». ويجيد الفخر فيقول: «هم الناس كل الناس من ياس/ عامر إذا اشرقوا كل الشموس تغيب/ أسود الشرى غوث الورى وحياتهم/ ممات العدى للحاسدين كروب». وله شطر صوري جميل: وعيناك برق والظلام طلاسمه». وله في البعد: آه من البعد كم في البعد من ألم/ أخفه أن تمس الجمر عريانا». وله في الحكمة على الطويل: «حياتك كالأحلام فرقها العلم/ وعمرك ساعات يقصرها الظلم».

أداء القصيدة

من البين أن هذه الصيغة الشعرية للشاعر جمال بن حويرب، هي صيغة كلاسيكية، وقد اصطلح على تسمية العصور القديمة بالكلاسيكية والمفردة هذه صفة موضوعة أساساً لمن هم في مستوى عال (classe)، بحيث استبعدت منها الطبقات الدنيا، لكأن الكلاسيكية هي الطبقة العالية في المجتمع… حتى أن الشعر الهزلي اعتبر لتسلية هذه الطبقة… بينما التراجيديا والملحمة هما للنبلاء والحكام. لكن مجرى الأيام، وقدرة اللغة على التسلل من مكان لآخر، وقدرة الشعر على أن يمس الوجدان البشري أينما وجده (لدى العامة ولدى النبلاء على السواء)… كل ذلك جعل من الكلاسيكية في الشعر، طقساً عاماً وطريقة فنية لأداء القصيدة، لا سيما أن الغنائية في الشعر بعامة، والشعر العربي بخاصة، كانت ملتصقة بالتقاء الوزن الذي هو غنائي (موسيقي) بأصله مع مواجد الذات من حب وألم وبوح للطبيعة أو للطير أو للصديق. وكان هذا الآخر غالباً ما يحضر في الشعر. يقول مجنون بني عامر: «خليلي فيما عشتما هل رأيتما/ قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي». ويقول جمال بن حويرب: «عيون القوافي دمعها اليوم مسجم/ على ما مضى تبكي ويبكي المتيم/ على مربع للشعر غيره البلى/ وباتت شموس الحق منه وأنجم/.

إن هذا الإيقاع الشعري للشاعر في هذه الأبيات، هو قديم متجدد، حار، مشغول بالحنين، ومنسوج بتلقائية إبداعية، تجعل اللغة طيعة للمعنى طواعية مطلقة، وتجعل النفس تنسرح مع الأبيات انسراحاً ليناً وحزيناً وعاطفياً. تقول إنه زمن جميل. مضى. لم يمض. ولكنه حاضر معنا وبيننا وفي هذا الشعر، وفي هذه القصيدة. وتقول أيضاً: الجمال قديم وهو حاضر، وغداً.

 جريدة الحياة