5,583 عدد المشاهدات
الكاتب: د.غازي مختار طليمات
تُدِلُّ بعض الدول وبعض المدن بما لديها من آثار ومعالم تاريخية تميزها من الدول والمدن الأخرى؛ فروما تعتزُّ بالبارثنيون، وأثينا تفاخر بالأكربول، والقاهرة تباهي بأهرامات الجيزة.
ولا ينكر السائحون ما في هذه الآثار التاريخية من نحت وتصوير، وإبداع وإقناع، وضخامة وفخامة تستهوي الأنفس وتلذُّ الأعين، غير أنَّ العربي المسلم يعترض على ما في بعض هذه الأوابد التاريخية من إثارة للغرائز الجنسية كمعبد كاجراو، ومن ملامح وأغراض وثنية كالآثار الأخرى، ويستهويه ماضيه المجيد البريء من أوشاب الشرك والرذيلة، ولا سيما ما خلفه أجداده المجاهدون، أو ما حفظ الحفدة من آثار الأجداد.
وفي مدينة حمص السورية بعض ما يستجيب لهذه الرغبة؛ فهي تباهي المدن الأخرى بمكرمة تميزها من المدن الشامية كلها، وهي أنها تحتضن رفات عدد كبير من الصحابة والتابعين ولا نبالغ إذا قلنا: إنها في حفاظها على مقابر الصحابة ومقاماتهم تشبه بقيع المدينة المنورة من بعض الوجوه.
لقد فُتِحَت حمص في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، واتخذها كثيرٌ من الصحابة والتابعين موطناً لهم بعدما هدأت حركة الفتوح؛ فتشرَّفت المدينة بهم في حياتهم وهم أئمة ورادة وقادة، وبعد وفياتهم وهم أموات ورفات.
توقير و إجلال
ومن أشهر الصحابة الذين اتخذوها وطناً لهم لاعتدال مناخها وجمال طبيعتها، وماتوا فيها أو في أمكنة أخرى، وبقيت ذكرياتهم تعمر قلوب الحمصيين بالبر والتقوى فأقاموا لهم مقامات تخلدهم، سيف الله خالد بن الوليد الذي اتخذ مدينة حمص غمداً له.
وعبدالله بن بسر المازني، وشرحبيل بن السمط الكندي، وسعيد بن عامر الجهني والي حمص، ودحية بن خليفة الكلبي، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، ووحشي بن حرب، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الأعلام الذين شرّفوا المدينة بإيثارهم إياها أحياءً وأمواتاً.
ولما كان أهل حمص يتفرّدون بنقاء السرائر، وصفاء الضمائر وبالوفاء لمن يعايشون، فقد عظموا من جاورهم من الصحابة والتابعين؛ فسمّوا كثيراً من المساجد بأسمائهم وأقاموا لبعضهم مقامات يحوطونها بالتوقير والإجلال، سواء أكانوا قد دفنوا فيها أم في أمكنة أخرى، ومنهم دامس أبو الهول، وأبو موسى الأشعري، وزيد الخير، وعبدالله بن جعفر الطيار.
مقبرة “الكتيب”
أمّا المقبرة التي تحتضن رفات الصحابة والتابعين، وينظر إليها أهل حمص بالعين التي ينظر بها أهل المدينة المنورة إلى البقيع فهي مقبرة الكتيب. ولعلَّ التسمية جاءت من لفظة الكثيب؛ أي الهضبة أو المرتفع من الأرض، ثمَّ أبدل العامة الثاء تاء. وممّا يؤيد هذا الافتراض ارتفاع المقبرة عمّا يجاورها.
تقع المقبرة في الجانب الشرقي من مدينة حمص خلف باب تدمر، وهو أحد الأبواب السبعة القديمة التي تحيط بالمدينة القديمة.
لقد ظلَّ أهل حمص حتى أوائل القرن الماضي يعتزون بهذه المقبرة لاحتضانها رفات الصحابة والتابعين، ولمّا كانوا معروفين بالبر والوفاء للآباء والأجداد فإنهم عظموا ضرائح السلف الصالح؛ فلم يسمحوا لموتاهم بأن يدفنوا فيها، وقد بالغوا في هذا التعظيم حتى إنهم كانوا حينما يزورون المقبرة في شهري مارس وإبريل من كلِّ عام كانوا يتباركون بالضرائح، بل كان بعضهم يخلع نعليه ويمشي حافياً بين القبور كأنه يتمثل قوله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} (طه12). ولله في خلقه شؤون!!