خالد بن عبد العزيز – الملك المخلص والقطب الفذ في مدرسة آل سعود السياسية

أعلام الراوي مجلة مدارات ونقوش – العدد 5

 5,052 عدد المشاهدات

من أعلام الراوي – خاص – مدارات ونقوش

نكتب التاريخ لتتعلم منه الأجيال القادمة وليأخذوا منه  العبر والعظات ولم نكتبه للتسلية واللعب وتضييع الأوقات أو ليساعدنا على النوم، إنما التاريخ هو ما يبني عليه الاقتصاد ويوجه السياسات العالمية ويقوي من ترابط المجتمع ويستفيد أهل المعالي من تجارب السابقين ليصلوا إلى منزلتهم، ولهذا فإنّ علم التاريخ علم لا يقل أهمية عن علوم الرياضيات والهندسة والكيماء إذا عرفنا هذه الحقيقة.
ولم يُدوّن تاريخنا بالشكل الذي يتمناه كل مؤرخ في هذا العصر الحديث بسبب عدم انتباه الناس في القرون الماضية أهمية التدوين وإذا دونوا لم تتهيأ ظروف ملائمة لحفظ ما تم تدوينه بل ضاع أكثره نهب الرياح والأمطار والتنقلات وما تبقى أكلته الأرضة التي نسميها الرمه وواأسفي عليه، ولهذا فقد أصبح لزاماً علينا توثيق كل شيء يمر علينا وأن لا نهمله، فما ترونه غير مفيد في بعضه ولا يحتاج إلى كتابه فإنّ غيركم يطير به فرحاً عندما يظفر به ليكمل به أبحاثه وكتاباته.

“مدارات ونقوش” تسجل بعض الأحداث تحكي قصة علَمٍ كبير وملك من الملوك الخالدين الكرماء المخلصين، وكان في نفس الوقت من أهم  أقطاب السياسة في العالم؛ ألا وهو الملك السعودي الراحل خالد بن عبدالعزيز آل سعود  رحمه الله تعالى.

تاريخ المملكة
وقبل أن نشرع في رواية سيرة الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز نتتبع لمحات من تاريخ المملكة السعودية العربية الحديث وأصفَ لكم حالة المجتمع السعودي في تلك السنين التي سبقت ولادة الملك لكي نعرف كيف نشأ وما هي العوامل التي صقلت موهبته وخبرته، لنتعرف على ذلك الزمان الماضي وتلك الأيام الخوالي من تاريخ الرياض الطيبة.
فليس بالأمر السهل حصر تاريخ المملكة السعودية في بحث واحد ولا حتى تاريخ الرياض لأن لها تاريخا كبيرا جداً وحافلاً، ولكني سأكتفي بالإشارة إلى أهم تاريخ في حياتها ألا وهو يوم استعادة الملك عبدالعزيز آل سعود  مدينة الرياض في الخامس عشر من يناير من عام 1902م، وهو يوم من أيام الدهر لا يمكن أن يُنسى لأنه تم فيه النصر الذي مهد لقيام هذه الدولة الكبيرة والحديثة التي ترونها بعد سلسلة انتصارات عجيبة كونت مملكة مترامية الأطراف متماسكة قوية بفضل الله ثم بفضل عزيمة الملك المؤسس الباني طيب الله ثراه .

الميلاد الخالد
أثناء انشغال الملك عبدالعزيز بإخراج الحامية العثمانية من الأحساء في ربيع الأول من عام 1331هـ، الموافق لفبراير من عام 1913م وردته الأنباء من  الرياض بأن قصر الحكم استقبل مولوداً جديداً  فاختار له اسم “خالد” تيمناً بهذا الاسم وتفاؤلا بأنه سينتصر على أعدائه، وهذا ما حصل حقا فقد استسلمت الحامية العثمانية، وقام بترحيل الأتراك إلى العقير ثم إلى البحرين في 6 مايو من نفس العام.

عاد الملك إلى الرياض بعد انتصاره الكبير وقد اعترفت به الدولة العثمانية والياً على نجد ومتصرفاً على الإحساء ومنحته رتبة “الباشوية” لتحتفظ بماء وجهها الذي لم يبق منه إلا القليل جداً بعد فقدانها لأراضيها الشاسعة أرضاً بعد أخرى. رجع الملك ليهنأ زوجته الأميرة الجوهرة بنت مساعد بن جلوي رحمها الله بسلامتها، بعد أن رزقهما الله “خالد”  التي كانت ملهمة له أثناء معاركه لاسترداد الأحساء يقول محمد أسد النمساوي يروي عن الملك عبدالعزيز قصة حبه للجوهرة: “كنا على مرأى من الهفوف، ومن الرابية التي كنت جالساً عليها، استطعت أن أرى بوضوح أسوار القلعة الحصينة التي كانت تشرف على البلدة. كان فؤادي مثقلاً بالحيرة، كنت أوازن بين فوائد هذا العمل وأخطاره، لقد شعرت بالملل وبالشوق إلى السلام والحنين إلى البيت، وعندما فكرت في البيت رأيت وجه زوجتي جوهرة ماثلا أمام عيني.. وبدأت أفكر في بعض الأبيات التي يمكن أن أقولها لو كانت حينذاك إلى جانبي. ودون أن أشعر وجدتني منشغلاً بنظم قصيدة لها، ناسياً بالكلية أين كنت، ومبلغ الخطورة في القرار الذي كان علي أن أتخذه، وحالما أصبحت القصيدة جاهزة في فكري كتبتها على ورقة ووضعتها في مظروف ختمته وناديت واحدًا من سعاتي وأمرته قائلا: خذ أسرع ذلولين سلم هذا إلى أم محمد”.
وعن هذه الزوجة الكريمة والأم الحانية يقول أنطوان زيشكا في كتابه: “ابن سعود ملك الجزيرة العربية  :”تزوج الملك عبدالعزيز كثيراً، وطلق كثيراً لأنه منصرف إلى أمور الحروب والسياسة..ولكن هذه الحال تغيرت منذ تزوج بفتاة من أسرته هي: الأميرة الجوهرة وهي شقيقة الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي أحد أبناء عمومته الذين شاركوه في معركة الاستيلاء على الرياض. إن الكلام أو الحديث هو متعة العرب الكبرى، لا الرسم ولا النحت ولا الموسيقى، وما زال العرب وبخاصة البدو تسحرهم الكلمة الحلوة؛ لأن كل قبيلة لها لهجتها، ولكن العربي الذي تتجاوز شهرته قبيلته هو العربي الذي يتكلم اللغة الفصحى الصافية لغة كبار الشعراء. كان عبدالعزيز يعرف كيف يملك قلوب سامعيه بكلماته، كان يخاطبهم بلهجاتهم، ولكن الأميرة الجوهرة جاءته بلون آخر من الكلام، كانت تقرأ تراث الشعراء المشاهير في الجاهلية والإسلام، ومتى عاد عبدالعزيز إلى قصره من معركة أو مفاوضة، حدثته حديثا شائقًا ممتعًا ترتاح إليه نفسه، وروت له من محفوظاتها الشعرية ما يطربه ويسعده فأحبها حباً فوق الحب وأصبحت صفيته ومستشارته المفضلة، وموضع سره لذا كان أثرها في حياته عظيماً جدًا، وقد ملأت مدة من حياته هي أكثر الفترات دقة وخطورة في حياة الملك، عنيت بها الأعوام ما بين 1324-1330هـ / 1906-1912م”.

حروب التوحيد
نشأ الملك “خالد” في كنف هذه الأسرة المتدينة الكريمة، وفي ظل هذا التفاهم المبني على المحبة والتقدير بين الوالدين وبدأ يخطو خطواته الأولى بكل ثبات في بيت المُلْك ووالده لا يزال في معمعة حروب توحيد المملكة، وكان يرافق والده ومعه إخوانه الذين سبقوه، ولكن يشاء الله أن ترحل والدته الأميرة الجوهرة في سنة 1919م، بعد زواج من نوع العشق والهيام دام لمدة أربع وعشرين سنة، ليعيش الأب والابن مرحلة جديدة دون هذه الأم الفاضلة، والتي يذكر النمساوي محمد أسد عنها ما سمعه من زوجها الملك فقال: “إنها كانت حب ابن سعود الأعظم، وحتى الآن بعد مضي 13 سنة على وفاتها لا يذكرها الملك إلا وتقف الغصة في حلقه، وقد احتفظ بحبه الحقيقي لها وحدها، من دون نسائه جميعاً، وكان ينظم لها الأشعار”.

كان الملك خالد في السادسة من عمره عندما رحلت عنه والدته فاعتنى به والده ليعوضه عن حرمانه  ثم أدخله مدرسة “المفيريج” وهي مدرسة أسسها الشيخ عبدالرحمن المفيريج رحمه الله في عام 1879م تقريباً مقرها مسجد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف في حي “دخنة” وهي على شكل “كتّاب” وكانت تعلم القراءة والكتابة وتحفظ كتاب الله وتدرس مباديء الحساب.
ظهر نبوغ الملك خالد منذ صغره فقرأ القرآن الكريم وأتمه  قراءة وحفظاً وهو في الحادية عشرة من عمره وكان من زملائه في المدرسة عمه الأمير مساعد بن عبد الرحمن والملك فهد، والأمير سعود بن هذلول أمير القصيم سابقاً، والأمير فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود أمين الرياض سابقاً.
بعد اتمامه الدراسة في الكتّاب انتقل إلى أكبر جامعة في بلاده في تلك الأيام يمكنه أن يتعلم منها وهي جامعة أبيه الملك الذي خرجت كبار رجال الدولة الناشئة وبقي معه يلازمه أكثر من أربعين سنة، وأهم مميزات هذه الجامعة هو تعلم تقدير الذات وتقدير الآخرين ممن هم أكبر منه أو من أقرانه، تقول نوال الخياط عن أسلوب الملك في تنشأته لأبنائه: “ورث أبناؤه عنه الحب والاحترام المتبادل بينهم، فالكبير يعطف على الصغير، والصغير يوقر الكبير ويجله، وهذا نابع من تصرفاته هو شخصياً مع والده، فقد كان يوقره ويحترمه ويتعامل معه بأدب جم وتواضع شديد، فعندما يزوره والده الإمام عبدالرحمن آل سعود بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع يقفز الملك عبدالعزيز من مكانه فيقبله ويقدمه إلى صدر المجلس (مقعد الإمام) ويجلس هو بين يديه، وكان حين يخاطب أباه يجعل لنفسه صفة المملوك، ويجلس بين يديه صامتاً ينتظر ما يأمره به.
كما كان الملك عبدالعزيز في أثناء إقامته في الرياض يقوم بزيارة والده الإمام عبدالرحمن آل سعود كل يوم، وكذا سائر أقاربه، ولم تزل هذه عادته في مكة أيضاً.
وبلغ من بره بوالده أنه عندما قصد الملك عبدالعزيز آل سعود المسجد الحرام يوما وكان مريضاً جداً؛ بادر الملك وحمله على كتفيه من باب السلام ودخل به إلى حيث مصلاه، ولم ير في ذلك غضاضة عليه، بل إنه لم يشأ أن يتولى أحد من الخدم والعبيد حمل والده عنه وهو موجود، وما ذلك إلا لأنه أراد أن يظفر برضائه، ومن ثم رضا الله واكتساب ثوابه في شخص والده من جهة، وليلقي على أبناء شعبه درساً عملياً في طاعة الله وبر الوالدين  فضرب لهم بذلك أحسن الأمثلة في الأخلاق الإنسانية وعلو النفس.

مدرسة عبد العزيز
يقول الأستاذ أحمد الدعجاني عن هذه الفترة المهمة من حياة الملك خالد والتي مهدت لكل الأعمال الكبيرة التي قام بها بعد ذلك:”إن تعليم الملك خالد – يرحمه الله – ومصادر ثقافته تعود بالدرجة الأولى إلى والده الملك عبدالعزيز، فقد سعى لغرس القيم التي آمن بها في نفوس أولاده، وعلمهم تاريخ عائلتهم، وساعده في ذلك إخوانه من أعمام الأمير خالد: عبدالله بن عبدالرحمن، ومساعد بن عبدالرحمن. أما عبدالله بن عبدالرحمن، وهو أسن من خالد قليلاً فكان ذا اطلاع مبكر وقراءة وسماع، وكان يضرب به المثل في حدة الذكاء وحفظ الأنساب، ومعرفة التاريخ. وعني من وقت مبكر بجمع الكتب والمخطوطات، ولا تنقطع مجالسه عن أهل العلم والأدب من داخل الجزيرة وخارجها”.
وأما مساعد بن عبدالرحمن فكان ترباً لخالد، ويكبر سن خالد أعواما قليلة عن عمه مساعد، وقد نشآ معًا في بيئة واحدة، ولكنه انصرف إلى طلب العلم والقراءة على المشايخ منذ يفع، وكان أعجوبة زمانه في شدة الحفظ وحدة الذكاء ونهمه في القراءة، واتجه كأخيه عبدالله إلى جمع الكتب غير أنه لم يهتم بالمخطوطات، ويحدثك في كل فن وفي كل علم كأنه تخصص فيه. ومنذ ولي خالد الملك كانت صداقته لعمه مساعد هي العلاقة الغالبة على هذه الروابط كلها، ولم ينقطع بينهما التواصل والود حتى لقي الملك خالد ربه فكان مما يردده الأمير مساعد: “كان يرحمه الله سريع الغضب لكن الرضا أسرع إلى قلبه قبل لسانه”، كما أن عمته نورة المستشارة الكبيرة للملك عبدالعزيز بالإضافة لكبار أفراد الأسرة كانوا مصادر الثقافة والتعليم والقدوة الحسنة للأمير خالد.
استمر الملك عبدالعزيز بن سعود في معارك توحيد الدولة المترامية الأطراف وكان ابنه خالد يكبر ويشتد عوده وهو يرى والده المؤسس يبني قواعد مملكته الحديثة بشكل لم يسبق له نظير من قبل، ولعلي أستطيع أن ألخص قصة الملك عبدالعزيز بكلمات كتبها عنه المؤرخ خيرالدين الزركلي في كتاب القيّم “الأعلام” حيث يقول عنه: “عبدالعزيز بن عبدالرحمن ملك المملكة العربية السعودية الأول، ومنشئها، وأحد رجالات الدهر”.
وخلال السنوات الأربعين التي قضاها الابن مع والده المؤسس حصلت أمور كثيرة وأحداث جسام وتم تشييد بناء عظيم للدولة بعد أن عم الأمن والأمان أرجاء المملكة.
وكان الملك خالد يتابع كل أعمال والده منذ صغره مشغوفاً بإنجازاته وانتصاراته، وقد زرعت هذا والدته الأميرة الجوهرة في أعماق نفسيته منذ طفولته وللأم دور كبير في عقلية الولد وأسلوبه منذ سنواته الأولى.
وتقول الأستاذة نوال الخياط عن طبيعة مجالس أسرة آل سعود العلمية التي عاش فيها الملك خالد وأجداده، وأثرت في شخصيتهم جميعا وصقلتها واستفادوا منها كثيراً: “أسرة آل سعود أسرة علمية، وغالب مجالسها كانت تدور على هذا النهج، وكان للملك عبدالعزيز رحمه الله دور مهم في تربية الملك خالد وثقافته، فقد كان القصر الملكي في عهد الملك عبدالعزيز مقصد العلماء والفقهاء، فاستفاد الملك خالد من هذه المجالس، وبعد ذلك كان الملك خالد يزور العلماء في مجالسهم ويستفيد من مجالستهم، وممن كان يزور الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري أبو حبيب، فكان يزوره في رمضان في كل ليلة بعد التراويح”.

تربية قويمة
وعن أسلوب تربية الملك عبدالعزيز رحمه الله لأبنائه وكيف أنشأهم على حب الدين والصدق ومعالي الأمور، تتابع الأستاذة نوال فتقول: “فالملك عبدالعزيز آل سعود له مزايا وخصائص وسجايا جعلته مربياً فاضلاً وقديراً، فقد اجتمعت فيه قوة الإيمان بربه والدعوة إليه، فقد تحدث عنه ابنه الملك فيصل قائلاً: (البيت السعودي بيت دعوة قبل أن يكون بيت ملك)، والدعوة في جوهرها تعليم، وتعاليم الدعوة يتبناها الفرد يتحمل معها مسؤولية نقلها إلى أمته ومسؤوليات نشرها، والجانب الروحي في الإنسان يمثل القاعدة والركيزة التي بمقتضاها يتجه الإنسان إلى عمل الخير أو الشر”.

وكان الملك عبدالعزيز ينبّه على ذلك غير مرة، فها هو يقول ذات مرة: (إن أعد المسلمون والعرب آلة واحدة من آلات الحرب، أعد لهم أعداؤهم مئات وألوفات، ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون والعرب لا يمكن أعداؤهم أن يأتوهم بمثلها هي إيمانهم بربهم، هذه القوة لا قبل لأحد بها) فهذا الإيمان والثقة بالله أحد جوانب عظمة هذه الشخصية؛ إلى جانب ورعه وتقواه وزهده وتقشفه وعدله.
لذا حرص الملك عبدالعزيز على تربية أولاده وتنشئتهم نشأة إسلامية صحيحة؛ لأنها الأساس الذي تقوم عليه بقية العلوم، فكان يردد على مسامعهم دوما: (الدين والصلاة؛ ترى من نسي الله نساه)، وبهذا الأسلوب المتميز نشأ الأبناء وهم أكثر ارتباطاً بالله سبحانه وتعالى، كما حرص الملك عبدالعزيز آل سعود على ملازمة أبنائه لصلاة الجماعة من صغرهم  وكان الهدف من ذلك تربيتهم على التقوى والترفع عما يغضب الله.

نشأ الملك خالد وقد تهيأت له جميع الظروف التي تعينه على حياته العملية فقد نشأ في بيت كريم وعريق وفي أسرة عريقة في العلم والأدب والأخلاق والكرم والفروسية والشجاعة فأخذها أخذ شاب مقتدرٍ فهي في جيناته من طرف والده وأمه رحمهما الله ثم صقلها بمواهبه التي وهبها الله له منذ صغره فقد حفظ القرآن أو جلّه وعمره لم يتجاوز الحادية عشرة وهو أمر لو فكّرنا فيه قليلا لعلمنا أن أولاد الملوك والأمراء يكونون أكثر رغبة في الفروسية والرمي وممارسة الألعاب من أي شيء آخر ولكن الله ألهمه ويسّر له حفظ كتابه الكريم ودراسته وبقي معه طيلة حياته هادياً له ومرشداً.

فروسية
ولا شك أن الفروسية وتعلم مهارات القتال والتدرب على الشدة والحياة القاسية هي من عادة أبناء الملوك والأمراء خاصة في تلك الأوقات الصعبة التي كانت تمر بها المملكة والأخطار تحدق بها من كل مكان وتأمين هذه المساحات الشاسعة يحتاج إلى تظافر أبناء الملك المؤسس مع والدهم والوقوف معه ومناصرته مثلهم مثل شيوخ القبائل وجماعاتهم وكذلك باقي المواطنين ولكن المسؤولية تقع أولا على الحاكم وأبنائه ويجب عليهم الأخذ بأسباب القوة والدخول في تدريبات قاسية حتى يقوموا بأعباء الحكم أفضل قيام وهذا ما صنعه الملك خالد.
وعن فروسيته وشجاعته يقول الأستاذ أحمد الدعجاني في كتابه القيم عن الملك خالد: “يعد الملك خالد من الفرسان المبرزين، وهل في ذلك من عَجَب؟! فهو سليل بيت كانت الفروسية عنوانه، والشهامة رائده، فقد نشأ على ظهور الخيل يمتطي صهواتها في ساحات القتال أسدًا مُهابًا، وخاض بها غمارَ الحروب بطلا مقدامًا، وشارك مع والده المغفور له الملك عبدالعزيز منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره في معارك عديدة، فكان الفارس المجلَّي، والقائد الذي يقود جنوده إلى النصر، والبطل الذي يسجل ببطولاته أنصع الصفحات”.

بعد بلوغ الملك خالد مبلغا يسمح له أن يُرافق والده وقد أخذ نصيبه من التعليم وتدرب على الرماية وكان مشهوراً بها وصار أحد فرسان أبيه وهو في أول صباه، بدأ في الالتحاق بركب والده الملك عبدالعزيز في رحلاته وحروبه لتأمين الدولة وأعماله في البناء والتطوير، ولم يكتف الأمير الشاب وهو في هذه السن المبكرة بكل ما حصل عليه بل أحب عصمة نفسه فطلب الزواج فزوّجه والده من ابنة خال الملك عبدالعزيز وهي الأميرة لطيفة بنت أحمد السديري وكان في سن الخامسة عشرة، ولكنه لم ينجب منها، ثم تزوج من بعدها الأميرة طرفة بنت عمه عبدالله بن عبدالرحمن آل سعود، ولم ينجب منها أيضاً، وقد يكون ذلك لصغر سنه آنذاك لأنّه تزوّج بعد ذلك من الأميرة نوره بنت تركي حفيدة الأمير عبدالله بن جلوي، وأنجبت له ولديه: الأمير بندر والأمير عبدالله.

في هذه الفترة المبكرة من حياته شارك والده كما ذكرت في كثير من الأحداث المهمة التي هيأته لتولي المناصب العالية التي نالها بعد ذلك، يقول الأستاذ أحمد الدعجاني: “فقد شارك الأمير خالد في حصار جدة عام 1928هـ، ومعركة الدبدبة عام 1929هـ، وقد أبلى فيها جميعًا بلاءً حسناً، وتميز بحسن رمايته حيث اشتهر بها، وأثناء معركة السبلة جعل الملك عبدالعزيز يراقب المعركة بمنظاره، ووصل الأميرُ خالد ومعه الأمراء فسلَّم على والده ثم أستأذنه في الذهاب والمشاركة في المعركة، لكن الملك أبى وشَرَعَ في إقناعه بالبقاء إلى جانبه وذلك لصغر سِنَّه، لكن الأمير الشاب خالدًا أصرَّ على خوض غمار المعركة فامتطى صهوة جواده مُتَّجهًا إلى الخيل التي على يسار المسيرة، فنهض الملك من على كرسيه، وأخذ يصيح بأعلى صوته: يا خالد، ست أو سبع مرات، يعني ذلك أن يا أهل الخيل انتبهوا له..لصغر سِنَّه”.

رجل الدولة
كما اختار الملك عبدالعزيز الأمير خالداً رئيساً للوفد السعودي عام  1934م لتمثيل بلاده في مفاوضات الصلح مع اليمن، في مدينة الطائف، وتمَّت صياغة معاهدة الطائف في ذلك الوقت والتي أدَّت إلى إقرار السلام ورسم الحدود بين البلدين وذلك في 19 مايو 1934م.
وقد تولى الأمير خالدُ آنذاك تبادل الرسائل مع المفاوض اليمني، وحرص على أن ينفَّذ رؤية والده، وقد اشترط على المفاوض اليمني أن يتمَّ تسليم الأدراسة، وإخلاء جبال تهامة من أفراد الجيش اليمني، وإطلاق رهائن أهلها حالاً، وذلك في مراسلة رسمية أظهر فيها الأمير خالد حزمه وقوة شخصيته، في عبارات واضحة تبرز ما كان عليه الأمير من رصانة وحكمة حنكة، وأجابه الطرف اليمني بالقبول، ولم يتم الاتفاق وتوقيع المعاهدة إلا بعد تأكد الأمير من موافقة الطرف اليمني للشروط التي وضعها الملك عبدالعزيز، وقد فصّل الأمير تركي بن محمد بن ماضي، أمير نجران آنذاك، في مذكراته أحداث توقيع المعاهدة.
في سنة 1926م وبعد ضم الملك عبدالعزيز لبلاد الحجاز لمملكته عيّن ابنه فيصل ليكون نائباً عنه هناك وأميراً بعد ذلك على مكة ولم يكن عمره يتجاوز التاسعة عشرة ثم قام بعد ذلك بتعيين ابنه خالد ليكون نائبا عن فيصل وقد تولى بعد ذلك إمارة مكة ووزارة الداخلية نيابة عن أخيه حتى سنة 1932م حيث أسند الملك الأب مهام الإمارة لخالد عندما سافر فيصل لبعض أعمال والده خارج السعودية، كلُّ هذا أكسب الملك خالد مهارات إدارية كبيرة ساعدته فيما يأتي من الأيام والاعتماد على الشباب في مقتبل عمرهم خاصة من الأمراء يودي إلى صقل مواهبهم وترقية معارفهم وجعلهم أكفاء لمواجهة أعباء الحياة.

ولاية العهد
‫وقد مرّت أحداث كثيرة في المملكة العربية وكان الملك خالد مشاركاً فيها بعمله ورأيه أو كان قريباً منها واقترب كثيراً من أخيه الفيصل حتى عُد ساعده الأيمن، ولما وافى القدر المحتوم أباهم المؤسس في سنة 1953م وتولى مُلك البلاد الملك سعود بن عبدالعزيز واختار الفيصل وليا لعهده بناء على وصيّة والده وبقي الملك خالد مشاركا لأخويه في أعمالهما حتى سنة 1964 عندما دعا خالد مجلس الوزراء للإنعقاد في الأول من شهر نوفمبر وتم مبايعة الفيصل ملكا للمملكة خلفا لأخيه الملك سعود وفي سنة 1965م اختار الملك فيصل أخاه خالد وليا لعهده فوجه رسالة لأخيه الأمير محمد يخبره بهذا الاختيار، فردّ عليه الأمير محمد فقال في آخر رسالته ما نصه: “إذا جاز لي أن أرشح أحدا لشغل منصب ولاية العهد فإنني أرى في أخي الأمير خالد بن عبدالعزيز من الصفات ما يجعله أهلا لذلك راجياً من الله أن يلهمكم التوفيق والسداد ويحفظ جلالتكم من كل سوء مولاي”.‬
وقام أيضا الملك فيصل بتوجيه رسالة لشعبه عبر الصحف والإذاعات هذا نصها :
“من فيصل بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، إلى إخواني أبناء الشعب العربي السعودي الكريم. تحية وبعد:
” فإنني أحمد الله على نعمه وأسأله المزيد من فضله وكرمه، هذا ونظراً لأن ولاية العهد هي عنصر أساسي من عناصر استمرار الحكم ورسوخه، وبعد أن تمتعت البلاد بنعمة واستقرار وسارت في طريق التقدم والازدهار بفضل تماسكها بدينها الحنيف وشريعتها السمحاء فإنه ليسرني أن أعلن لإخواني أبناء الشعب السعودي الكريم بأنني قد اخترت أخي الأمير خالد بن عبدالعزيز وليا للعهد يحكم من بعدي بكتاب الله وسنة رسوله وكلي ثقة بأن الشعب سيكون لـه خير ناصر ومعين والله ولي التوفيق”.
عندما وجد الملك خالد نفسه ولياً للعهد نظر في الأمانة العظيمة التي استلمها وهو قادر عليها فهذه مملكة ليست كباقي الممالك والدول فيكفي أنها تقع مكة المكرمة والمدينة المنوّرة في أراضيها ويوجد فيها أكبر احتياطي للنفط ويعيش فيها كثير من الناس من قبائل وأسر مختلفة وأطرافها مترامية وكل الأنظار موجهة إليها وإلى حكامها ولهذا أجمع أمره أن يتقي الله في هذه الأمانة وهو الرجل التقي وعزم على القيام بالمهمة على أحسن وجه.

فالملك خالد منذ أول شبابه وهو يعاون أخاه الفيصل، فلما عيّنه وليّا لعهده زادت هذه العلاقة ترابطاً وتعاوناً في كل ما ينفع الشعب السعودي والعالم الإسلامي ولم تكن من طبيعة الملك خالد أن يعارض في شيء إلا إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك.

مبايعته ملكاً
بعد مرور عشر سنوات على ولاية خالد العهد وقد أخذ بزمام القيادة بكل كفاءة وعرف مداخل الحكم ومخارجها وفهم السياسة العالمية الجديدة وخبر سياسة الشعب وخدمتهم توفي الملك فيصل في الخامس والعشرين من مارس من عام 1975م فأصبح رابع ملوك المملكة السعودية، وأعلن ملكا بعد ساعة من وفاة الفيصل واختار الملك فهد ولياً لعهده وتم مبايعتهم من قبل أسرة آل سعود أولاً ثم من باقي الشعب.
سار الملك خالد في الناس بسيرة أخويه من قبله ووالده رحمهم الله، وظهرت في البلاد طفرة كبيرة في الاقتصاد والأعمال وتسارعت عجلة التطوير في شتى المجالات الصناعية والتعليمية والثقافية والسياسية بفضل الله ثم بفضل صدق الملك وإخلاصه واهتمامه بشعبه منقطع النظير.
أما سياسته الخارجية فلم تتغير عمن سبقه بل زادها قوة في الحق وترابطاً مع المجتمع الدولي وكان ولي عهده الملك فهد رحمه الله هو الذي يقوم بكثير من أعبائها، وهذا من حكمة الملك خالد لأنّ ولي عهده يجب أن يتعود على جميع أعمال الحكم حتى إذا حكم سهل الأمر عليه، ومن الأسئلة الجريئة التي سألها الإعلامي الكويتي أحمد الجار الله للملك خالد في إحدى المقابلات الصحفية أنه سأله عن سبب إعطاء الملك فهد صلاحيات واسعة فكان جواب الملك خالد :
” إن الأجهزة العاملة في المملكة تحكمها نظم ولوائح تنفيذية تعمل بموجبها وهذه النظم يقرها مجلس الوزراء للتصديق عليها، وقد عهدنا لولي عهدنا الأمير فهد بالإشراف على تطبيق ما تقتضي به هذه النظم التي حددت صلاحيات ومهام كل جهاز من أجهزة الدولة”.

ذاكرة الأدب
في يوم 13 من يونيو من عام 1982م فقدت الأمة الملك الكريم الحنون الذي يحبه القاصي والداني، فصفات الملك خالد لا تخفى على أحد فهو رجل أجمعت القلوب على تقديره ومحبته، يقول الأمير سلطان بن عبدالعزيز: “المطالع لسيرة أخي الملك خالد يجد صفات جليلة وعديدة منها: الديانة القويمة، والتواضع الجم والأدب العالي، والخلق الحسن، والصدق في الحديث، والرحمة بعباد الله، والشفقة على الضعفاء، ونصرة المظلوم وإعانة دعاة هذا الدين في كل مكان، والاهتمام بأحوال المرافقين والموظفين الخاصة، والرغبة في الوقوف على أحوال المواطنين مع القناعة وصدق التوكل على الله”
وفي خصال الملك خالد رحمه الله يقول سعيد إبراهيم العيد:

تجــلّى بــك الإيمــانُ فـي كـلّ لحظـةٍ
            فقلبــك يخشــى اللــه والعيــنُ تـدمعُ
صلاحــك مشــهودٌ بــه فــي عبـادهِ   
                 رحـــيمٌ تقـــيٌّ بالمكارم مـــولعُ
فكــم مــن فقــيرٍ قـد شـددت بـأزرهِ
            وأعطيتــه فــوق الــذي كــان يطمـعُ
وكــم مــن يتيــمٍ فـي الحيـاة مشـردٍ
                علــوت بــه عمّــا يكــون وأرفــعُ
وأرملـــةٍ عاشـــت حيــاةً كريمــةً
               بظلـــك تجـــني الخــير لا تتجــزعُ
وفــي النهضــة الكـبرى دليـلٌ وممسـكٌ
                بـــأنك بـــاني العـــز أب وأروعُ
بعــدلـك تزهـو النـاس بـالخير غبطـةً
             وتــرفلُ فــي ثــوب الســعادة أجـمعُ

ومن جميل شعر الشاعر عبدالله حامد خطيري يذكر مآثره:

حـــويتَ المجـــد كـــنزاً أيَّ كــنزٍ 
                     وصنـــتَ الــدين والشــرعَ المتينــا
أضفــت إلــى التليــدِ طــريفَ مجــدٍ 
                      فـــزدت رصيـــدكَ الغــالي الثمينــا
وربيـــت الشـــبية خـــير جـــيلٍ
                       ليســــتلموا الأمانــــةَ قادرينــــا
يـــرى الجــبلَ الأشــمَّ لــه ثبــوتٌ
                       تعــــاظم أن يُهــــزّ وأن يلينــــا
وإنّ الـــــدين ملتجــــأٌ أميــــنٌ
                     وطـــودُ اللـــه يُحـــيى المؤمنينــا

ويعدد المؤرخ الأديب محمد أحمد العقيلي بعضا من صفات الملك خالد فيقول

الغـــارسُ الحـــبَّ الصميــمَ لأمــةٍ
         والمغـــدقُ العطِـــف العميــم جنــاهُ
أغـــرودةُ الإعجــاب يصــدحُ لحنهــا 
              ترنيمـــةُ التقديـــر فـــي دنيـــاهُ
شــخصيةُ الإســلام غــير مــدافعٍ
           فــي عصــرهِ مـن قـد شـأ نظـراهُ
مثـــل لإنســـانية جـــبلت علــى
           النفـــع العظيـــم لشــعبه وســواهُ
قــد عــاش إلهامــاً، يوجــه شـعبهُ
            وشـــعاع نـــبراس ينـــير دجــاهُ
وإرادة شــــمّا المضــــاء طليقـــةٌ
            كـــالبرق ضـــآء ســناؤه وســناهُ
متحـــملاً مجـــد النضــال موشــحا
            بالتضحيـــات إلـــى لقـــى مــولاهُ
ملـــك تغلغـــل حبّـــه وجلالـــهُ 
                فـــي كـــل قلـــب يُســـتزاد ولاهُ