2,534 عدد المشاهدات
الكاتب: عبد الغفار حسين – كاتب إماراتي
إذا قلنا، دبي، هبة الخور، كما يقولون عن مصر، أنها هبه النيل، فإننا لا نبتعد عن الحقيقة، فلولا الخور، لكانت دبي مثلها مثل أي من المدن الساحلية البحرية على الشاطئ العربي من الخليج، حيث الموقع الجغرافي الوسط لمدينة دبي، والمنظر الطبيعي الجميل الذي يمثله الخور..وكلنا نعرف ان الخور القديم في عمره الذي يربو على آلاف السنين لا يقتصر فقط في إضفاء الجمال الطبيعي على مدينة دبي التي يقسمها الخور إلى قسمين أو شاطئين، بل الخور هو شريان دبي الحيوي ورئتيها وسبب عمرانها ورونقها منذ أن بدات دبي تأخذ مكانتها كمدينة تجارية من قرابة مائة وخمسة عشر عاماً. أي منذ مستهل القرن الماضي وحتى اليوم.
حيث أقيمت على ضفتي الخور المباني التجارية والسكنية للتجار وأصحاب المال والثراء الذين توافدو من كل حدب وصوب يشاركون أهالي دبي في النمّاء التجاري، من قبيل تجارة استخراج اللؤلؤ، وتسويقه، ثم التجارة العامة من بيع وشراء في الصادر والوارد..وعندما جاء القس الأمريكي صامويل زويمر إلى دبي قادماً إليها من مدن الخليج الآخرى ومنها مدينة لنجة على الضفة الفارسية من الخليج عام 1902، وصف دبي بأنها العاصمة الحقيقة لساحل عمان وتنبأ بأنها ستحل محل لنجة في العمران والتجارة، وكانت دبي في تلك الأيام تخطو خطوات ثابتة نحو العمران وتشاهد بدايات نهضتها على يد الحاكم الرشيد مكتوم بن حشر بن مكتوم، الذي تولى بين عام 1894 و1906..وكان هذا الحاكم الرشيد طموحاً وعالي الهمة وأدرك بفهم ودراية أن الخور يمثل روح دبي ومستقبلها واستطاع خلال سنين حكمه القصير أن يبني الأسواق ويعمر المدينة ويشجع التجار على الأستثمار ويتفاوض لأقامة مشاريع ذات أبعاد استراتيجية مهمة كخدمات البريد الذي استكمل بعد وفاة هذا الشيخ الجليل رحمه الله بعام تقريباً عام 1907.
وبجانب ما يفعله الخور في جسد هذه المدينة، مدينة دبي، كالرئة التي تتنفس منها كما أشرنا فيما سبق، فإن الخور يمثل في الوقت نفسه العلامة الفارقة كمنظر جمالي طبيعي تنفرد بها دبي بين مدن الخليج والجزيرة العربية، وقد شبهها الرحالون الأوروبيون بفينيسيا أو البندقية، وهي المدينة الإيطالية المشهورة .. وقال عن دبي وخورها الشيخ السالمي المؤرخ العماني في كتابه «نهضة الأعيان»:
«دبي مرتع النواظر ومتنفس الخواطر، طيبة البقعة، وواسعة الرقعة، تقع على ساحل ( الخليج)، قد مرر البحر بها لسانه الطويل، فهي أشبه شيئ بمصر، يتخللها النيل تتفوق على كل بلاد ساحل عمان بالتجارة والثروة والعمران».
وليس هذا الوصف بعيداً عن واقع الخور في بداية تكوين هذا الحوض المائي منذ ما يقرب من مليون عام، حيث كان الخور جزء من نهر يتدفق ماؤه من أعالي الجبال المجاورة في أراضي عمان الحالية ويصب في بحر الخليج العربي، وبمرور الأحقاب والسنين ونتيجة لتغيير المناخ وشح الأمطار والسيول التي كانت تهطل بغزارة وتراكم التلال الرملية والحجرية في مجاري الوديان والبطاح وتحولها إلى أحواض مائية متقطعة الاوصال، ثم حدوث الجفاف في هذه الأحواض بحيث لم يبق بعد ذلك إلا الحوض القريب من البحر وأدى اختلاط مياه البحر بالحوض نتيجه حركات المد والجزر او ما نسميه خليجياً بـــــ (السقي والثبر) إلى جعل الخور بعد ذلك وحتى أيامنا هذه جزءاً متفرعاً من البحر…
وبالقضاء الكامل على الوجود البرتغالي في بحر عمان والخليج بعد طردهم عن آخر معاقلهم في هرمز بواسطة قوات الشاه عباس ومعاونة الأنجليز، تمكن الأنجليز من زحزحة المنافسين كالهولنديين والفرنسيين، أصبح الأنجليز أصحاب الحول والطول، وخاصة في مستهل القرن التاسع عشر، وأصبح من النادر أن يجابهه الإنجليز مضايقات تذكر من الدول المنافسة، واختصرت المضايقة على القوى المحلية كالتحالفات الوهابية والقرصنة البحرية من الهولة في السواحل الفارسية وحلفائهم على الشواطئ العربية من الخليج، وأصبحت هذه المضايقات على أشدها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وما بعده وتعرضت تجارة الأنكليز مع فارس ومواني العراق ومنها إلى بلاد الشام معرضة للمخاطر واحدة تلو الآخرى، كذلك كانت مصالح آل بوسعيد سلاطين عمان حلفاء الأنكليز تتعرض للمخاطر، مما جعل القرار لوضع حد لها، بالغزو العسكري، والسيطرة، موضع التنفيذ..
وأعد الانكليز العدة للغزو، ولكن طوال عشر سنوات أو يزيد قليلاً قبل الغزو، كانوا يرسلون البعوث الكشفية لاعداد التقارير ورسم البيانات والخرط الطبوغرافية الدقيقة.. للسواحل العربية والفارسية على السواء ويقومون بأعمال عسكرية محدودة كما حدث في عام 1808.. وكان غزو يناير 1820، وهيمنة الانجليز على الخليج العربي، وعقد المعاهدات التي سميت بمعاهدة “السلام الدائم” بين حكام الخليج، الإمارات المتصالحة وبين قائد القوة الانجليزية جنرال جراهام كر، أولى الوثائق المعتمدة بين الإمارات وأحدى الدول الأجنبية.. وكانت دبي احدى الإمارات ذات الشأن التي وقعت على هذه المعاهدة. بجانب أبوظبي والشارقة ورأس الخيمة..
العودة إلى الخور
ونعود إلى خور دبي، الذي أعدّت بعثة (جوجن) رسومات طبوغرافية له ولما حوله من المساكن في عام 1819 أي قبل الغزو الأنكليزي للمنطقة بعام، ولكن هذه الرسومات لدبي ولغيرها من المناطق في الإمارات لم تنشر إلا في عام 1823، أي بعد أربع سنوات من إعدادها، وتنشر لإطلاع القارئ الكريم على صورة الرسمة المشار إليها من ضمن الملف الكامل الذي أعده الفريق جوجن والمكون من 3 مجلدات محفوظة في المكتبة البريطانية والتي توجد صورة منها في مكتبة كاتب هذه السطور..وهذه الرسومات هي الأولى ولم يسبق لأحد على ما أعلم أن رسم هذه المواقع قبل هذا الفريق الطبوغرافي.. ويلاحظ أن دبي، كانت بلدة صغيرة يتجمع سكانها القليلون في ذلك الوقت على موقع بر دبي المطل على الخور والمحاذي لحصن الفهيدي الذي بني قبل انقضاء القرن الثامن عشر بقليل.
واستمر خور دبي زاهياً بموقعه الفريد الذي يشق مدينة دبي كما أشرنا إلى شقين، ديرة وبر دبي، هذا الموقع الذي لا مثيل له في المحيط الخليجي، ويجعل من دبي المدينة التجارية الأولى في هذه المنطقة التي تتوسط الساحل الجنوبي الخليجي العربي بين عمان ورأس الخليج من الغرب، الكويت، وتمثل الميناء المعوّل عليه، ليس للساحل الخليجي العربي وحده، بل للساحل الشمالي الفارسي من مضيق هرمز شرقاً وحتى بو شهر غرباً..وكان لحفر الخور و تعميقه وإزالة الرمال التي تعيق مداخله في وقت المد والجزر، بداية تاريخ جديد للخور في عام 1955 – 1956، حيث كان هذا المشروع الحيوي الهام إحدى العلامات الفارقة في تاريخ دبي بقيادة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد وبداية لنهضة عمرانية شاملة، ووضع الخور بشكله الجديد بداية لإنشاء مواني ضخمة كميناء راشد وميناء جبل علي في الشرق الأوسط والدول الاقليمية المحيطة، بالإضافة الى الميناء الجوي، مطار دبي الذي أصبح اليوم من أكبر الموانئ الجوية وأكثرها حركة في العالم.