1,845 عدد المشاهدات
الكاتب: د. شهاب غانم – كاتب وشاعر من الإمارات
هناك دور للشعر العربي في إعاء قيم السام معروف منذ الجاهلية، ولعلَّ أشهر الأمثلة في الجاهلية هو معلقة زهير بن أبي سلمى عن حرب نتجت عن رهان سباق بين داحس فرس قيس بن زهير من قبيلة عبس، والغبراء فرس حمل بن بدر الفزاري (أو أخيه حذيفة) من قبيلة ذبيان، مع العلم أنَّ عبس وذبيان فخذان من قبيلة غطفان؛ فهما أبناء عمومة. وجرى غش في السباق؛ فقد أفزعت داحس من خال كمين ذبياني. وأدى ذلك إلى حرب يقال إنها استمرت أربعين عاماً وقتلت فيها نفوس كثيرة من القبيلتين، ثمَّ تحمَّل الديات لإحال السام، هرم بن سنان والحارث بن عوف، وقد مدحهما زهير وخلَّد ذكرهما في معلقته الشهيرة ومنها:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافاً ثم تنتبح فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم
كأحمر عاد ثمَّ ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
وقد تحدَّث الشاعر الجاهلي الإسامي المخضرم عمر بن معد يكرب عن الحرب وهو البطل الشهير في المعارك فقال:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهولِ
حتى إذا استعرت وشبّ ضرامها
عادت عجوزاً غير ذات خليل
شمطاءُ جزّتْ رأسَها وتنكرتْ
مكروهةً للشمّ والتقبيل
والسام من أسماء الله الحسنى والقرآن الكريم يقول في الآية 25 من سورة يونس
“وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلىَصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”
ومع ذلك لا نجد تركيزاً في الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى بداية العصر الحديث على السام، بل على البطولة والعزة والكرامة. يقول المتنبي:
ومراد النفوس أصغر من
أن نتعادى فيه وأن نتفانى
بيد أنَّ الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
ويقول:
عِشْ عزيزاً أوْ مُتْ وأنت كريمٌ
بين طَعْنِ القَنَا وخفقِ البنودِ
ولا شكَّ أنَّ مثل هذه القيم تغلغلت في طبائع الإنسان العربي عبر العصور.
عندما نأتي إلى القرن العشرين الذي عرف أعتى حربين عالميتين حصدت عشرات الملايين، نجد عدداً من الشعراء العرب المعاصرين يدينون الحرب ويحلمون بالسام؛ فعلى سبيل المثال يقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في إحدى قصائده، وهو مِمَّن عاصروا الحرب العالمية الأولى:
في الحرب لا تلقى من الفئتين من لا يخسر
وفي الحقيقة عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى، خرج كثير من الشبان في بعض الدول الأوروبية يرقصون في الشوارع من الفرح؛ فقد كانوا يظنون الحربَ فرصةً لتسجيل البطولات والشهرة، وكانوا ينظرون إلى الحرب برومانسية؛ بسبب ما كانوا يقرأون عن الحروب في العصور الغابرة، ولا يدركون بالشكل الكافي أنَّ الحرب في العصر الحديث تغيَّرت وأصبحت حرب خنادق وغازات سامة وطائرات. وقد عرف بعد الحرب العالمية الأولى عددٌ من الشعراء الإنجليز «بشعراء الحرب » وتفنَّنوا في وصف بشاعة الخنادق ومآسي الحرب، ومنهم ولفريد أون، وروبرت بروك، وسيجفريد ساسون وبعضهم قتل في تلك الحرب.
– يقول والدي د. محمد عبده غانم- رحمه الله- عن الحرب العالمية الثانية التي عاصرها:
إنها الهيجاء في عصر الترقي والتقدُّمْ
لم تعد كرًّا وفرًّا بل ديارًا تتهدَّم
وصغارًا تهجر الأوطان والعيش المكرم
ونساء تلبس الصوف على الجسم المنعم
وتخوض الغارة الشعواء كالجند المنظم
إنها الحرب وليس الحرب إلا النار والدم
– ويقول الشاعر المصري محمود غنيم:
إن تكتبوا للسلم عهداً فاجعلوا
دمع الثكالى بالمدادِ مَشوبا
صوغوه عدلًا للبرية شاملًا
وضعوا هلالًا فوقه وصليبا
لن يستقيم لكم سلامٌ ما شكا
شعب ضعيف حقه المغصوبا
والبيت الأخير من هذا الكلام الموجَّه إلى الغرب، ينطبق تماماً على القضية الفلسطينية، لذلك ليس عجيباً أن نرى تلك السخرية السوداوية في قصيدة محمود درويش في قصيدته «خطاب السام » الذي يبدو واضحاً من خلال القصيدة، أنه يرد فيها على مشروع السام كما يسوّقه قادة إسرائيل. ودرويش يقول في تلك القصيدة الطويلة التي كتبها بعد اتفاقية كامب دافيد: «فإن السام المقام على الظلم ظلم .»
ويقول الشاعر الإنجليزي هنري فان دايك في قصيدة قصيرة:
السلام بدون عدالة حالة متدنية ولكن السلام مع العدل أمر عظيم
– وكان المتنبي قد قال:
واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسامُ
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
– يقول الشاعر الإفريقي من المارتينيك إيمي سيزار (2008-1913 )، وهو مؤسِّس حركة «الزنجية » في الشعر الفرانكفوني مع الشاعر الكبير ليوبولد سنغور، رئيس السنغال الأسبق، في نهاية إحدى قصائده:
«على عكس ما يقول العنصريون، لا يوجد شعب يحتكر الجمال والذكاء والقوة فهناك محل للجميع في ملتقى النصر.
– وفي العصر الحديث ظهر دعاة مهمون للسام مع العدالة؛ فغاندي مثاً استطاع أن يقود الهند إلى الحرية عام 1947 بعد كفاح طويل بالطرق السلمية، ودون أن يضطر للجوء إلى الكفاح المسلح، وكان قدوة لآخرين أمثال مارتن لوثر كنج، ونلسون مانديا، والمفارقة أنَّ لجنة جائزة نوبل للسلام رفضت أن تمنحه جائزتها بينما؛ منحتها لإرهابي كان مطلوباً للعدالة مثل مناحم بيجن.
– والشاعر الياباني دايساكو إيكيدا الحائز على جائزة الأمم المتحدة للسام، نشر أكثر من مئة كتاب أغلبها عن السلام، ومنها ديوان شعر كنت قد ترجمته ونشر مشروع كلمه ترجمتي بعنوان «من أجل السام ». وإيكيدا عاصر الحرب العالمية الثانية، ورأى منزل والده يدمَّر تماماً من قِبَل الطائرات الأمريكية مرتين، وعاصر قنبلتي هيروشيما ونيجازاكي، ويقول في إحدى قصائده الطويلة عند استسام باده في 15 أغسطس عام 1945 :
اليوم الذي سقطت فيه الأمة اليابانية مهزومة
تحت قيادة قادة متغطرسين وأغبياء،
يوم كان علامة بداية حقبة جديدة.
يوم بدأت فيه قلوب الشعب
تخفق بالفرح من جديد
نحو مستقبل جديد.
يوم توبة
يُتذكر فيه كل القتل بدون هدف
على ساحات القتال
لكل الملايين الكثيرة
من الأحباب.