6,214 عدد المشاهدات
الكاتب : خليل البري
الأمن، الاقتصاد، التعليم والصحة، أربعة مبادئ أساسية كانت تقوم عليها فلسفة الحكم لدى المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. في الأعداد السابقة تحدثنا عن اهتمامه الذي لا حدود له، رحمه الله، ببعض أوجه دعم الاقتصاد والتجارة، وإعلاء مبدأ الأمن، انطلاقاً من مقولة: «أمنك بخير… أنت بخير».
وفي هذا العدد سنتناول اهتمامه بصحة المواطن والمقيم على حد سواء، ليس في دبي وحدها، بل في معظم إمارات الدولة.
من ذاكرة «أخبار دبي» رصدنا مدى اهتمامه، رحمه الله، بصحة المجتمع، بمواطنيه ومقيميه، وكلامنا يعود إلى فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وعدد السكان كان أقل من نصف مليون نسمة، كان يوجد 4 مستشفيات حكومية، هي: المكتوم «تحوَّلت الآن إلى سوق شعبية تراثية»، الكويت، التي تحوَّلت لاحقاً إلى “البراحة”، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أمر في فبراير من العام الماضي 2019 بإعادة اسمها إلى «مستشفى الكويت» تقديراً لفضل دولة الكويت الشقيقة التي بنت المستشفى على نفقتها الخاصة. إضافة إلى مستشفيَيْ «راشد» و«دبي الجديد».
مستشفى المكتوم
في العام 1939 تبرَّعت بريطانيا ببناء مستوصف صغير في دبي، ولكنها عجزت عن تطويره أو توسيعه بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية.
في العام 1949، تمَّ توسيع المستوصف وتحويله إلى مستشفى بمبادرة من الشيخ سعيد بن مكتوم، رحمه الله، حاكم دبي آنذاك، الذي تحمّل الجزء الأكبر من تكاليف إنشاء المستشفى، وتمَّ افتتاحه رسمياً في العام 1950 بتكلفة إجمالية بلغت 28.125 ألف جنيه إسترليني، وبسعة 38 سريراً تحت إشراف طبيب بريطاني، كما أسهم حكّام مشيخات الإمارات في تغطية المصروفات التشغيلية للمستشفى، نظراً إلى أنَّ الخدمات التي يقدمها هذا المستشفى كانت لجميع إمارات الساحل، وليس لإمارة دبي فقط، ثمَّ تمَّ تشكيل لجنة إدارية تدير أعمال المستشفى يتكوَّن أعضاؤها من كل مشيخات الإمارات، وكذلك المعتمد البريطاني ومدير المستشفى البريطاني، وفي العام 1952 تمَّ إطلاق اسم «آل مكتوم» على هذا المستشفى إكراماً للشيخ الجليل سعيد بن مكتوم، طيب الله ثراه.
ومع مرور الأيام زاد إقبال الناس على هذا المستشفى، ولم يكن يحقق أي مدخول لقاء خدماته؛ لأنها مجانية من الأساس، وكان الشيخ سعيد يضخ بسخاء أموالاً طائلة بلغت وحدها عام 1952 أكثر من 75 ألف روبية هندية، مع تخصيص مبلغ 40 ألف روبية سنوياً للمستشفى، حتى أصبح يضم 157 سريراً، وذلك حرصاً منه على استمرارية خدمات المستشفى لجميع رعايا الإمارات، وعاماً بعد عام كان الشيخ سعيد يحرص على توسيع المستشفى وإضافة أقسام جديدة إليه حتى قبل وفاته في العام 1958.
مستشفى الكويت
افتتحه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم سنة 1966، بحضور المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح، أمير الكويت حينذاك. وقدَّم المستشفى خدمات الرعاية الصحية المتميزة لسكان دبي وما حولها، إضافة إلى توفير العلاج والأدوية.
بدأ المستشفى في دبي كمستوصف صغير افتتح عام 1962، ثمَّ توسَّع وأعيد تنظيمه ليكون مستشفى مركزياً يضمُّ 19 سريراً، وتمَّ افتتاحه رسمياً، وحضر الافتتاح أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح خلال زيارته للإمارات في مايو 1966.
وبدأ المستشفى بأقسام للجراحة والعظام والنساء والولادة والعيون والأنف والأذن والحنجرة، والأمراض الباطنية والأطفال والتخدير والمختبرات والصحة المدرسية. ونظراً للإقبال الشديد على المستشفى الذي حضر طاقمه الطبي من الكويت، ويضمُّ مجموعة من الأطباء العرب، توسَّعت الأقسام بصورة سريعة، حيث سجلت إحصائية قسم الجراحة والعظام عام 1968 علاج 6550 حالة، وسجَّل عام 1970 علاج 8419 حالة، وكان المرضى يفدون من جميع الإمارات، والعلاج والأدوية مجاناً، وبدأت كثير من النساء يلدن في المستشفى. وتشير إحصائية عام 1968 إلى 407 حالات ولادة، وعام 1969 سجَّلت فيه 490 حالة. واهتم قسم الصحة المدرسية بالمستشفى بتقديم الخدمات الصحية بالمدارس التي أنشأتها الكويت.
مستشفى راشد
تعالج المرضى وهم يستمعون إلى الموسيقى
في العدد 14 للسنة الثامنة، الصادر يوم 15 مارس 1973، نشرت «أخبار دبي» تحقيقاً موسّعاً أعده المحرر رمزي الشيخ حسن بعنوان «المعنى الكبير لافتتاح مستشفى راشد»، جاء فيه:
«لقد أصبح من الأمور المنوعة لدى المقيم في دبي أن يستمعَ إلى كلمات الإطراء تتدفّق على ألسنة الوافدين إلى هذا البلد معبِّرين فيها عن دهشتهم لما يشاهدونه فيه من مظاهر النهضة والعمران المتمثلة بالعديد من المشاريع الضخمة التي يجهل عنها العالم الشيء الكثير… ولكن كل الأنظار اتجهت هذه الأيام إلى مشروع جديد أنجزته إمارة دبي بقيادة قائدها صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي ونائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة».
ذلك المشروع هو مستشفى راشد الذي أصبح يستقبل من الراغبين في التعرُّف إليه بمقدار ما يستقبل من المرضى الذين يطلبون الشفاء فيه.
- 6,250,000 جنيه بلغت تكاليف مستشفى راشد
- 393 سريراً تقدِّم الخدمات الطبية المجانية الكاملة
- علاج المرضى في مستشفى راشد وهم يستمعون إلى الموسيقى
- المستشفى يحوي بنكاً للدم وبنكاً للعيون وأريحية المواطنين هي الودائع المطلوبة
ذهبت إلى مدير المستشفى الدكتور هانيمان لأسأله عن تكاليف المستشفى، وأقسامه، والعاملين فيه، وما أبرز الأجهزة الطبية الحديثة التي يشتمل عليها، وما هي مشاريعه المستقبلية؟ وكيف يتسنّى للمواطن أن يستفيد من خدمات هذه المستشفى، وما شروط ذلك إن كان هناك شروط؟
كنت أضع في ذهني أن أقابل مريضاً أو أكثر في المستشفى لأقف منه على رأيه؛ فهو ربما يكون خير من يعطي الصورة الواقعية.. ثمَّ كان لا بدَّ من مقابلة مدير البلدية لأتحدَّث معه عن الأثر الذي يحدثه إنشاء هذا المستشفى في دبي على الصحة العامة، وما مكانة المستشفى بالنسبة للخدمات الطبية العلاجية والوقائية في الإمارة؟
طبيب لكل ألف شخص
قال الدكتور هانيمان: يشير المقياس العالمي إلى توفير طبيب لكل ألف شخص.. هذا هو الهدف الذي تسعى إليه جميع الأمم.. وإذا ما أخذنا ذلك بعين الاعتبار فإننا نجد أنَّ منطقة الشرق الأوسط هي دون ذلك بكثير، وفي المنطقة حالياً 50,000 ألف طبيب، فقط وهي بحاجة إلى ضعف هذا الرقم، وتخرج المنطقة 2500 طبيب، وهي بحاجة إلى تخريج ضعف هذا العدد سنوياً.
ومن هنا يتبين لماذا أمر صاحب السمو الشيخ راشد بإنشاء هذا المستشفى. علماً بأنَّ في دبي، إلى جانب هذا المستشفى الكبير، ثلاثة مستشفيات، هي مستشفى آل مكتوم، ومستشفى الكويت، والمستشفى الإيراني.
لقد بلغت تكاليف مستشفى راشد 6 ملايين و250,000 جينه إسترليني بما في ذلك تكاليف إنشاء مباني المستشفى وتكاليف تجهيزه بالمعدات الطبية وتزويده بكافة احتياجاته الأخرى.
بدأ إنشاء المستشفى في فبراير 1970 وانتهى في سبتمبر 1972، ويضمُّ أجنحة للمرضى تتسع لـ393 سريراً، بينها عدد من الأسرة الخصوصية التي أفردت غرفة خصوصية لكل منها، وهو يشتمل كذلك على مساكن للموظفين، وجميع أبنية المستشفى مكيفة تكييفاً مركزياً.
لقد خُصِّصَ الطابق الأول للرجال، وخُصِّصَ الطابق الثاني للنساء، ويتبع المستشفى عدد من المرافق الحديثة بينها مكتبة طبية وقاعة للمحاضرات، إلى جانب البرادات والمخازن والمطابخ وغيرها.
أما أقسام المستشفى فهي تشمل حالياً الأقسام التالية:
الباطنية – الجراحة – العيون – البنج – الأطفال – الأشعة – الحوادث والطوارئ – المختبر. وضم المستشفى قاعات وغرف لإضافة أقسام أخرى، هي أقسام الأنف والأذن والحنجرة – أمراض النساء – الولادة – الأمراض الجلدية.
ومضى مدير المستشفى فقال: إنني لا أريد أن أطيل لكنني أحبُّ أن أشير إلى ما يشتمل عليه قسم المختبر على سبيل المثال من تفرعات، فهذا القسم يشتمل على قسم للدم، مختبر للطفيليات، ومختبر للبكتيريا، وآخر للكيماويات. وقد مكَّنتنا تجهيزات هذا المستشفى الحديث من اختصار الوقت الذي كنّا نحتاج إليه في إجراءاتنا الطبية السابقة، إذ أصبحَ بإمكاننا الآن أن نتمَّ فحص الدم في ثوانٍ معدودة بدلاً مما كان يستغرقه هذا العمل من وقت طويل نسيباً فيما مضى.
خدمات مجانية
وسألت مدير المستشفى عن عدد الموظفين العاملين فيه فقال: يبلغ عددهم الآن نحو 350 شخصاً، منهم 18 طبيباً في مختلف الاختصاصات و117 ممرضة اختصاصية، وعادية، وتحت التدريب، ونحن نتطلع إلى مضاعفة هذا الرقم في المستقبل. واستدرك: في المستشفى حالياً مدرسة للممرضات، وبنك للدم، وبنك آخر للعيون.
قلت له: بصراحة إنَّ من يدخل هذا المستشفى يتيه في أرجائه، وتشد انتباهه قاعاته وتجهيزاته، فما تكاليف العلاج فيه؟
أجاب: إنَّ العلاج في هذا المستشفى رغم ضخامته وحداثة تجهيزاته وتكاليفه الباهظة، مجاني، مثل المعالجة في أي فرع من فروع الخدمات الطبية في دبي، فالحكومة أسَّست هذا المستشفى لرعاية المواطن بغض النظر عن تكاليف هذه الرعاية. إذن فالمعالجة بجميع أقسامها مجانية في هذا المستشفى، وهي كذلك باستثناء حالة واحدة، حينما يطلب المريض غرفة خاصة به فهو في هذه الحالة يدفع ثمانين ريالاً يومياً.
شهادات المرضى
التقيت بعدد من المرضى في المستشفى فوجدتهم توافدوا إليه من مختلف إمارات ومناطق الدولة، من أبوظبي، الشارقة، وأم القيوين، عجمان، رأس الخيمة، الفجيرة، إضافة إلى دبي.
لفت نظري أولئك الأطفال الذين يتناولون طعامهم على أيدي الممرضات وقد خصصت ممرضة لكل منهم، وأمام كل منهم دمية يلهو بها.
لفتت نظري السيدة الظبيانية حليمة عبدالله وهي تنظر إليَّ وعيناها يشع منهما بريق ملحوظ. ولقد علمت أنها أبصرت في هذا المستشفى بعد عملية جراحية مستعصية أجريت لها، بعد أن سعت في سبيلها إلى عدد من الأطباء والمستشفيات داخل الدولة وخارجها.
لفت نظري ذلك الشاب الذي كسرت ساقه في مباراة لكرة القدم، كان يضع السماعات على أذنيه، وحينما سألت عن ذلك قيل لي يوجد إلى جانب كل سرير سماعات مماثلة يستطيع كل مريض أن يستمع بواسطتها إلى عذب الألحان ليتسلى بها عن مرضه. سألتهم جميعاً عن أحوالهم، وعن التسهيلات التي تقدم لهم، وعن طعامهم، فلم يجيبوني بغير الدعاء لراشد وبتلك البسمات العريضة التي يستطيع الإنسان أن يفهم منها كل شيء، وأن يطمئن منها على كل شيء.
خدمات وقائية وعلاجية
انتقلت بعدها إلى مكتب السيد كمال حمزة مدير بلدية دبي؛ لأستطلعَ منه عن جهود البلدية في مجال الخدمات الصحية في الإمارة. فقال: إنَّ الخدمات الطبية في دبي تنقسم إلى قسمين رئيسين، شأنها كما في أي بلد متطور، فلدينا الخدمات الطبية الوقائية التي تمارسها البلدية بشكل مباشر لرفع المستوى الصحي في المدينة بتجنيب المواطنين أسباب المرض؛ وفي هذا الاتجاه قامت البلدية بتنفيذ مشروع المجاري العامة، كما نقلت سوق الماشية إلى خارج المدينة، وطوَّرت أساليب جمع القمامة. ثمَّ هناك القسم العلاجي، وهو يتمثَّل في العيادات والمراكز الطبية والمستشفيات، ويأتي مستشفى راشد في قمة ذلك؛ فهو بما اشتمل عليه من أقسام متخصصة وأجهزة حديثة، وأطباء، وعاملين على مستوى رفيع من الكفاءة، يحقِّق لنا مستوى متطوراً من الطب العلاجي يحقُّ لنا جميعاً أن نعتز به.
ولا بدَّ لنا هنا من أن نشيرَ بالعرفان إلى القيادة الحكيمة لقائدنا الشيخ راشد الذي لولاه ولولا أفقه الواسع، ونظرته البعيدة، ودعمه المعنوي والمادي، لما تحقَّق هذا المشروع.
وأضاف: إنَّ بلدية دبي ستمضي في رفع مستوى كفاءة خدماتها الوقائية، كما ستمضي في تعاونها الوثيق مع الأجهزة العاملة في مجال الطب العلاجي سواء في الأجهزة العاملة ضمن حكومة دبي أو تلك الأجهزة التابعة للحكومة الاتحادية. فما يهمنا جميعاً هو تحقيق المستوى الصحي الأفضل، وهو ما حقَّقنا الجانب الأكبر منه، وسنحققه كاملاً قريباً بإذن الله.
حمدان بن راشد: المستشفى علامة فارقة في تاريخ الإمارة
قال سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رئيس دائرة الصحة: إنَّ افتتاح مستشفى راشد في دبي خطوة كبيرة ومهمة في تاريخ هذه الإمارة. لقد ارتفع عدد السكان أضعافاً مضاعفة في السنوات الأخيرة، كما تسارع التقدُّم والعمران في شتى أرجاء الإمارة، وعلى ذلك فقد أصبح لزاماً أن تساير الخدمات الطبية هذا الازدهار، بل وتسبقه، لتوفِّر المناخ الملائم لكل تقدُّم حالي ومستقبلي.
وانطلاقاً من هذه النظرة، فقد أمر صاحب السمو الشيخ راشد ببناء هذا المستشفى الكبير متطلعاً إلى المستقبل المشرق، كما أمر بتجهيزه وفق أرقى المستويات.
واستطرد سموه: إنَّ هذا المستشفى لا يخدم دبي وحدها، بل كل مواطن في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو يعدُّ معلماً بارزاً من معالم دولتنا؛ فكلُّ تقدُّم تحرزه أية إمارة في هذه الدولة إنما هو تقدُّم ومصدر اعتزاز للمواطنين في سائر أرجاء الدولة.
وإننا إذ نعتز بهذا الإنجاز الكبير، فإننا نتضرّع إلى الله أن يحفظ هذه البلاد، لتحقيق كل ما تنشده من تقدُّم وازدهار برعاية صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس الدولة ونائبه صاحب السمو الشيخ راشد الذي أعطى لهذا المستشفى اسمه إعراباً عن الرعاية التي يوليها كل مشروع يستهدف خير الوطن وسعادة المواطنين.
فلنمضِ جميعاً شيوخاً ومواطنين على درب البناء لخير حاضرنا ورفاه مستقبلنا، والله ولي التوفيق.