6,764 عدد المشاهدات
الكاتب : أسعد الفارس
لا بد وأن يكون لكل مسافر أو رحالة قصص وطرائف، غرائب وعجائب عاشها في فترة الترحال، وذلك لأن اختلاف الثقافات والأصول يجلعه يعايش كل لحظة تمر عليه ويمعن النظر فيها، لأن كل ما يراه يكاد يكون جديدا عليه، وكأنه ولد اليوم ولا يعرف أي شيء في هذه البيئة الاجتماعية أو تلك. وهذا حال من زار بلاد العرب من غير العرب، والذين حضوا باهتمام الكثير من الكتاب في نقل مغامراتهم وتفاصيل حلهم وترحالهم. ومن بين المؤلفات التي انتقيناها لكم في هذا العدد من مجلة (مدارات ونقوش) كتاب (رحالة الغرب في بلاد العرب) للباحث أسعد فارس الصادر عن شركة صقر الخليج للنشر والتوزيع في الكويت، في طبتعه الأولى، سنة1997.
اهتم الباحث بنقل رحلات الغرب الذين زاروا البلاد العربية، ليكون ما كتب دليل للتعرف على انطباعاتهم عن بلادنا، إذ يعد محتواه سجلا تاريخيا وسياسيا وجغرافيا، ونمطا من الدراسات الأنثروبولوجية التي ترصد التراث والعادات والتقاليد والأحداث في البيئة العربية، موثقة بالصور والرسومات والوثائق الهامة.
جاب الرحالة الغرب ديار العرب لأسباب ودوافع متنوعة، وبغض النظر عن أهدافهم من الترحال، نجد من بينهم رجال علم وأدب، كما نجد العسكريين وذوي المهام الخاصة. في آثارهم المكتوبة كثيرا ما نجد الوصف الدقيق للسكان والعمران، والحيوان والنبات في البيئة العربية، وعلى أيديهم تم اكتشاف أهم الكنوز الأثرية في بلادنا.
استهل الباحث الكتاب بعرض مفصل عن الترحال في العصور القديمة، وذكر أن الناس عرفوه منذ ذلك الوقت، مارسوه لاكتشاف المجهول في بطون الغابات والصحارى وشعاب الأودية، وفي قمم الجبال العالية، وفيما وراء البحار. ولعل شعوب البحر الأبيض المتوسط من أوائل الشعوب التي سيرت الرحلات التجارية والاستكشافية في البر والبحر على حد سواء: أهل كريت في الماضي، والمصريون القدامى الذين قاموا برحلات استكشافية في عهد الفرعون سنيفرو، وتدل الروايات على أن أول حملة استكشافية قام بها الفينيقيون كانت عام 665 قبل الميلاد، بدعم من فراعنة مصر، إذ انطلقت الحملة من البحر الأبيض المتوسط في رحلة دائرية دامت سنين، فكان الرحالة البحارة ينزلون إلى البر لزراعة المحاصيل واختبار التربة، والتعرف على النباتات والحيوانات. والفينيقيون رحالة شجعان ولكنهم كانوا يحتكرون المعرفة، وبذلك تحاشوا المنافسة من الآخرين، ولم يكتفوا بذلك بل اطلقوا الشائعات والأساطير والروايات المخيفة عن الضباب في البحار، وعن التيارات الجارفة التي تحطم السفن وتودي بحياة المغامرين. أما الرومان فكانت لرحلاتهم دوافع عسكرية، فبعد أن استولوا على مصر عام 29 قبل الميلاد، أرسلوا رحلات الاستكشاف إلى أعالي النيل حتى وصلوا إلى مستنقعات بحر الغزال، ثم اندفعوا نحو بلاد الشرق من أجل تجارة الحرير. وقد عززت الرحلات الاستكشافية المعرفة بحدود العالم المستكشف حتى بلغت في عهد (بطليموس) شمال بريطانيا ومنها إلى الجنوب وحتى السودان والبحيرات الكبرى، ومن جزر الكناري في المحيط الأطلسي غربا إلى شرق الصين.
لكن، العرب كان لرحلاتهم أدب مختلف، وعندما نقول العرب فإننا لا نقصد بالعرب عرقا محددا من البشر، بل كل الذين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية، واتخدوا العربية لغة للتخاطب والكتابة. وكتب تراثنا الإسلامي تزخر بالقصص والأشعار والأخبار التي تروي مغامرات الرحالة العرب، وتصف الأرض وما عليها من حيوان ونبات، والسماء وما فيها من كواكب ونجوم. والترحال عند العرب مرآة الأعاجيب وقسطاس التجارب، وعين الجغرافيا المبصرة، ولهذا ارتبط أدب الرحلات عند العرب بالعلم الجغرافي وعمل على تطويره. وإذا ما أردنا استعراض أدب الرحلات العالمي نجده عند الإغريق مرتبط بالثقافة والعلم، وعند الرومان مرتبط بالحروب والفتوحات، أما عند العرب فهو يجمع بين هذا وذاك. والسفر عند العربي المسلم هو من أسباب جلب الرزق ، ومن يسافر يسمع ويرى العجائب، ويكسب التجارب، ويجلب المكاسب، والترحال يسفر عن أخلاق الرجال.
ولما جاء الإسلام أصبح الترحال مرتبطا بالفكر الإسلامي وبالفتوحات واللغة والأدب والفلسفة والاقتصاد، وفي هدي ذلك برزت مجموعات من الرجال كان يستهويهم الترحال والعلم الجغرافي في آن واحد، فالأصمعي كان في القرن الثامن عالما باللغة، وجغرافيا ورحالة. وياقوت الحموي كذلك، إذ كرس معلوماته وأخبار ترحاله في معجم البلدان الشهير.
والواقدي في القرن التاسع ميلادي كان من أوائل الذين أعطوا للجزيرة العربية أوصافا جغرافية كاملة.
ثم جاء ترحال الغرب، ولم يكن كل من زار بلاد العرب يحبها، بل كان البعض منهم يحمل الكثير من الحقد والكراهية لكل ما في بلادنا العربية والإسلامية، التي لم تشهد نشاطا مكثفا للرحالة مثلما شهدته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في أوج الثورة العلمية والاقتصادية التي شهدتها أوربا في تلك الفترة.
ومهما يكن فالترحال وأدب الرحلات عند الغرب له أيضا أسسه ومنطلقاته، فهو برأي فرنسيس بيكون (تعليم للكبير وخبرة للصغير)، ثم تطور ليصب في أكثر من مفهوم، ويأخد أكثر من تعريف، منها:
– الترحال وسيلة لجمع المعلومات الجغرافية والقيام بدراسة عادات الشعوب وأحوالهم المعيشية، وليستفيد من هذه الدراسة مختصون ينتمون لمجتمعات متطورة تملك القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبموجب هذا التعريف يرسل الرحالة ليجمع المعلومات والأخبار، وليدون المشاهدات لصالح بلده، ليرسم سياسته اتجاه البلدان المستطلعة، كما توضع هذه الملعومات تحت تصرف المؤسسات الثقافية والكوادر العلمية المتخصصة.
– الرحالة الغربي رجل متحضر، عنده تصور راق للحياة، وصاحب رسالة حضارية يريد نشرها في أوساط الشعوب المتخلفة، وفي البلدان النامية. فعن هذا التعريف وغيره نستنتج النزعة الاستعمارية الواضحة، مموهة بغلاف نشر التقدم والحضارة.
إن التسلط السياسي والاستغلال الاقتصادي، ونهب خيرات الشعوب الأخرى يحتاج إلى منطق مفبرك، فالغربيون –يتقدمهم الرحالة- لم يأتوا إلى بلاد المشرق مستغلين، إنما جاؤوا لمد يد العون للشعوب الفقيرة النامية التي لم يحالفها الحظ لبلوغ المستوى الرفيع الذي بلغته البلدان الغربية.
ولا يصلح للترحال في بلاد العرب إلا أولئلك الأشخاص ذوو الميول الخاصة، والإماكانيات الجسمية والنفسية والثقافية النادرة، وممن لديهم القدرة على تحمل المشاق واستقبال الموت والاستعداد له في كل لحظة، وأكثرهم من العسكريين ورجال المخابرات والدارسين الجامعيين والتجار ومحبي المغامرات، يليهم الدبلوماسيين ورجال المهام الخاصة.
لكن لو نطرح التساؤل: لماذا وفد هؤلاء إلى الوطن العربي في فترة حرجة من تاريخه، أيام نهاية حماية (أو بالأحرى حكم) العثمانيين في المنطقة العربية؟
كان الموت يهددهم من كل جانب، ومع ذلك جاؤوا وارتحلوا ورفعوا التقارير والأبحاث والكتب إلى بلادهم، جاؤوا بحجة شراء الخيول العربية وتعلم اللغة العربية، ومن أجل جمع المخطوطات الإسلامية، والبعد عن الحياة الأوربية الصاخبة والاستمتاع بدفء بلاد الشرق، ومن أجل التجارة. ولكن كل هذه الأهداف تعد ثانوية بجانب أهدافهم السياسية التي بدأت تنكشف يوما بعد يوم من خلال مذكراتهم المطبوعة.
جاء أكثرهم للتعجيل بنهاية الخلافة الإسلامية، وتقطيع أوصال الدولة العثمانية التي باتت تحتضر، فتسابق الأوربيون لاقتسام الغنائم وبسط النفوذ، وتأمين الطرق التجارية البرية والبحرية في آن واحد، ولهذا السبب بدأت المصالح الغربية في المنطقة تتضارب، وبدأ الصراع سرا وعلنا، فالبيرطانيون في الهند، والفرنسيون في مصر وشمال إفريقيا. والشرق العربي يعد معبرا للجيوش والقوافل التجارية، فتدفق السياح والتجار والمبشرين وعلماء الآثار والرحالة ذوي المهام الخاصة، أخذ يجوب الديار من أدناها إلى أقصاها، يرسمون الخطط، ويمسحون المناطق، ويعقدون الصفقات التجارية، فالكولونيل شيزني مسح وادي الفرات عام 1835 ميلادي، وجاءت رحلته بمجلدين من الخرائط، حتى أن بريطانيا كانت تفكر بمد خط سكة حديد آنذاك يبدأ من البحر المتوسط ويمتد في الصحراء إلى الفرات، وعلى طول الفرات حتى يصل الخليج العربي، وذلك لنقل الإمداد للجيش البريطاني في الهند، والعودة بالبضائع والمواد الخام عن طريق البحر، لكن هذا المشروع أوقف تنفيذه نتيجة لتوصية مجموعة من الخبراء والرحالة، منهم الليدي آن بلت نفسها.
وهناك الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون التي كانت تطمع في بلاد الشرق، ولهذا قادت الحملة إلى مصر (1798-1801م) بغية قطع الطريق على بريطانيا وهي في طريقها إلى الهند. إن هذه الحملة هي التي سلطت الأضواء على منطقة الشرق الأوسط ، وبينت أهميتها من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، فاحتدم التنافس الدولي على المنطقة في السر والعلن، وبدأ الرحالة الفرنسيين والإنجليز يجوبون المدن والبوادي العربية، ويتصارعون في الخفاء، يكيد بعضهم بعضا، فقتل بالسم أكثر من رحالة.
كان هؤلاء الرحالة بكرههم للإسلام والمسلمين هم من زرعوا بذور العلمانية في المنطقة العربية، وشجعوا الدعوات القومية، ومولوا الحركات الانفصالية، وأثاروا الفتن الطائفية. وكلما وقفوا عند أطلال المدن الأثرية، تباكوا على الحضارة الإسلامية والحضارة القديمة، وقالوا إن هذه المدن كانت تعج بالناس المبدعين، ولما آلت إلى المسلمين تخربت بسبب سوء الإدارة والفساد، لكن في النهاية كانت الأهداف كلها تظليلية استعمارية واستغلالية.
وسجل الترحال الغربي مليء بالأسماء الهامة والشخصيات المعروفة، فمن أقدمهم الرحالة الإسباني بنيامين التطيلي الذي ارتحل من سرقسطة عام 1165م الذي زار أوربا وسوريا وفلسطين وبلاد ما بين النهرين وبادية الشام وإيران ومصر باحثا عن اليهود في العالم، ولما عاد إلى إسبانيا كتب أخبار رحلته قبل أو يتوفى عام 1173م. ونجد أيضا الرحالة ماركوبولو (1253-1323م) الذي سافر مع عمه التاجر من البندقية إلى بلاد الشرق، وعاد إلى إيطاليا ومعه الكثير من المعلومات عن بلاد الشرق وعادات العرب.
البولوني فارتيما الذي ارتحل في ديار العرب في القرن السادس عشر ميلادي وكتب عن مناسك الحج والعمرة في مكة والمدينة. والفرنسي دارفيو (1635-1702م) الذي زار المغرب وبلاد الشام وتركيا وترك مجلدات من المذكرات عرفت بمذكرات الفارس دارفيو.
والإنجليزي إدوار بين (1801-1876م) الذي عرف في مصر بمنصور الأفندي، كتب عن أخلاق المصريين وعاداتهم. والكابتن الإنجليزي بورتن (1861-1890م) الملقب بالفهد، الشرقي الملامح العربي القسمات، الذي دخل الديار المقدسة بزي مسلم هندي.
لم يكن الرحالة في يوم من الأيام رجلا عاديا، بل هو مواطن فذ على درجة كبيرة من العلم والثقافة، وعليه أن يواجه الكثير من التحديات، كأن يتعلم لغة البلد الذي يريد الترحال إليه، واللهجات المحلية، وهو صاحب ديانة مغايرة، فعليه أن يتعلم الشعائر الإسلامية، والإلمام بالآراء والمذاهب الإسلامية، والأنساب العربية، وأن يكون مسلما عربيا في سلوكه وعاداته، وأن يرتدي الزي العربي كواحد من أبناء البلد الأصليين. نجحوا في وصف الكثير من معالم الديار العربية وآثارها، وعرفوا المجهول من أخبارها. قطعوا صحاريها، واخترقوا قفارها، وتوغلوا في مجاهيلها مدفوعين بدوافع متنوعة، وقد استهانوا بالصعاب فذللوها، وتحملوا شظف العيش وقسوة الصحراء، وصنعوا جزءا من التاريخ بمساهمات فكرية كان لها الأثر البالغ في تغير مجرى الأحداث بين الدول.