3,498 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
في زمن لم يكن في الجزيرة العربية تاريخٌ يُذكر ولا يُسجل ولا أهمية يبحث عنها الناس من خارج الجزيرة ليزوروها، وماذا سيستفيد المسافر إلى هذه الأراضي الشاسعة الخالية من الشجر والماء إلا قليلاً في مهامه (صحاري) خالية وفيها القبائل الشرسة تجوب أرجاءها ولا حكم إلا للأقوى ولا بقاء إلا من عرف كيف يقود قومه بحد الحزم ولا عيش لمن لم يكوّن له أحلافاً من القبائل التي تستطيع الذود عن أراضيها والدفاع عن حياضها وما هم إلا كما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى.
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحهِ
يُهدّم ومن لا يظلم الناسَ يُظلمِ
وما هم أيضاً إلا كقول الشاعر الإسلامي جرير بن عطية الخَطفي التميمي:
إذا نزل السماءُ بأرضِ قومٍ
رعيناه وإنْ كانوا غضابا
في هذه الأجواء الخطيرة وفي تلك السنوات العصيبة في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي أولى ملك الدينمارك فرديرك الخامس اهتماماً بالغاً بمنطقتنا آنذاك التي وصفتها لكم في مقدمة المقال وشكل وفداً من العلماء وقد اشترك معهم بدعوة من أحد أساتذته مستكشف ورياضي ألماني يدعى كارستن نيبور في عام 1760م وقد قدر الله له أن يكون هو الراوي الوحيد لهذه الرحلة الاستثنائية وكان من أهداف الملك معرفة الأقاليم العربية والبلدان المجاورة لها كمصر والشام والعراق والجزيرة العربية وإيران.
والذي يهمنا من هذه الرحلة المهمة هو ما كتبه نيبور عن الجزيرة العربية ووصفه العجيب لها وتعجبه من حالة أهلها ومدح أخلاقهم وقد ذكر معلومات مهمة كانت شائعة في وقته سمعها من العرب الذين التقاهم ولولا تقييده لها لذهبت أدراج الرياح.
من المحزن أن يكون نيبور هو الذي نجا من أعضاء الرحلة الدينماركية الذين لقوا حتفهم بسبب الأمراض وغيرها فلم يرجع إلى وطنه منهم إلا نيبور الذي قيّد الرحلة في جزأين وأصبح هو الشاهد عليها وقد وضع في كتابه خارطة للمنطقة رسمها بنفسه وكانت أقرب ما تكون إلى الصحة مما يدل على مهارته وخبرته وظلت مستخدمة لمدة مائة سنة من بعده، وإن يكن نيبور نجا من الموت وكتب مذكراته التي لاقت اهتماماً كبيراً فإنّ كتابه لم ينج من الترجمة السيئة التي طبعت به مؤخراً، فقد تعبتُ وأنا أحاول تصحيحها ولكن بلا فائدة بسبب الأخطاء في ترجمة أسماء الأعلام والأماكن مما يجعل البحث فيه من قليلي العلم والخبرة خطأ فادحاً.
ومن الطريف أن أضيف لكم أيها الأعزاء بأنه عندما تم الإعلان عن الرحلة طُلب من الناس أن يرسلوا أسئلتهم التي يريدون أجوبة عنها من خلال أعضاء هذه الرحلة بعد عودتهم وقد اطلعت على هذه الأسئلة، عجبت بل ضحكت من جهل الغربيين بنا في تلك الأيام وكأنهم يظنون أننا وحوش ولسنا من البشر وأن في بلادنا من الحشرات والحيوانات والأشجار ما لا يوجد مثله في العالم وقد تمت ترجمة هذه الأسئلة مؤخراً فمن يريد أن يضحك قليلاً فعليه أن يقتني الكتاب!. هذا وللمقال بقية.
تاريخنا القديم المجهول الذي لم يوثقه أحد، اللهم إلا ما جاء في أخبارٍ قليلةٍ وأشعارٍ نادرةٍ ووثائق للمستعمرين مفرّقةٍ هنا وهناك ورحلاتٍ قليلةٍ قدمت من الغرب، فكتبوا ما شاهدوه وكانت مشاهداتهم قليلة بسبب ضيق الوقت واضطرارهم للتنقل السريع من بلد إلى بلد، كذلك عدم معرفتهم باللغة العامية الخاصة بكل منطقة من مناطق الجزيرة العربية التي زاروها يجعل الأمر صعباً للغاية ولكنهم كتبوا وجمعوا لنا وبعضهم رسم بعض الآثار وآخرون وضعوا خرائط استفاد منها من أتى من بعدهم، مثل الخارطة التي وضعها »نيبُور« الألماني الذي تُعد رحلته من أهم الرحلات الغربية للمنطقة بعد بالبي الإيطالي، ومما يزيد الطين بَلةً وكما نقول في لهجتنا الإماراتية ( يزيد الخرس دلكة)، أنّ المترجمين الذين تعاقبوا على ترجمة الرحلات والوثائق الخاصة بمنطقتنا لا علاقة لهم بهذه المنطقة ولم يكلّفوا أنفسهم السؤال والتأكد من الأسماء التي وردت في هذه النصوص الغربية مما يجعل الأمر أبعد ما يكون عن الحقيقة والصواب، ودور النشر لا تأبه لهذه الأمور الخطيرة التي قد تدخل الباحثين في أنفاق مظلمة أو في صحراء من التيه والأخطاء والأوهام بسبب استعجالهم للطباعة دون النظر في التحقيق العلمي الصحيح وإخراج الكتاب بشكله المناسب للقراءة والبحث، كما فعلت مؤسسة الانتشار العربي التي أخرجت رحلة »نيبُور« وهي تحمل أثقالاً من الأخطاء المضحكة وعليها أوزار كل من ستخدعه هذه الترجمة غير المحققة.بداية الرحلة
يقول نيبُور: »أمر الملك فرديرك الخامس، ملك الدنمارك، باختيار الأشخاص المناسبين لهذه المهمة وأسعدني الحظ فكنت من المختارين، وقد تم اختيار خمسة أشخاص للقيام بهذه الرحلة، البروفيسور فردريك كرتيان فون هافن الذي درس اللغات الشرقية والبروفيسور بيار فورسكال عالم التاريخ الطبيعي والطبيب كرتيان شارل كرامر، وكان على جورج بورنفند رسم المناظر والمنتجات الطبيعية والملابس، وأنا كان اهتمامي بالجغرافيا«
وعن مسار الرحلة يقول نيبُور:» تلقينا الأمر قبل رحيلنا بالتوجه إلى الخليج عبر مصر وانتقلنا في الرابع من يناير عام 1761 على متن سفينة من سفن الملك من كوبنهاجن إلى سميرن، تحت إمرة القبطان فيشر وتوقفنا في القسطنطينية ثم توجهنا إلى مصر.
وفي سياق حديثه كان يتأسف على عدم مكوثه أكثر في هذه البلدان كما كان مقرراً فيقول: » كان علينا أن نمكث فيها سنتين أو ثلاث ونعود بعدها عبر البصرة وحلب، وذلك لم يحصل. فلو بقينا فيها كل هذه المدة لتسنى للعلماء الحصول على معلومات وافية ومهمة تتعلق بشبه الجزيرة العربية.
مأساة الرحالة المكتشفين
فريق هذه الرحلة العلماء لم يتمكنوا من مواصلة رحلتهم واستكمال البحث الذي بدأوا فيه على أهميته الكبرى لنا اليوم لو نجوا، فقد توفي فرديرك كرتيان في مدينة المخا في اليمن 1763 ثم فورسكال بعده بقليل في مدينة يريم اليمنية، فقرر نيبور وبورنفند وكرامر الرحلة إلى الهند. فمات رفيقهم بورنفند قرب جزيرة سقطرة. واستمر الناجيان الوحيدان في رحلتهما إلى الهند، ثم توفي كرامر في بومباي عام 1764.
وهذه مأساة للبحث والعلم فأجسادهم لم تتحمل أجواء الجزيرة العربية حتى لقوا حتفهم، يقول عن هذا كارستن نيبور: »بالرغم من أنّ الموت قضى على رحلتنا لم نتوانَ عن زيارة شبه الجزيرة العربية وكان عدد أعضاء البعثة مرتفعاً فلم نتكيف على طريقة عيش أهل البلاد وأكثر أكلنا اللحوم، وهو طعام غير صحي في البلاد الحارة. كذلك كنا نبقى طويلاً في الخارج نستمتع ببرودة الليل ولم ننتبه إلى الفرق الشاسع بين حرارة الجبال والسهول.