1,386 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش – دبي
رونالد كودراي، رحّالة بريطاني عاش في دولة الإمارات من العام 1948 وحتى العام 1955م، وكان موظفاً لدى شركة تنمية البترول «الساحل المتصالح» المحدودة، كان هاوياً للتصوير، والتقط حينذاك نحو ستة آلاف و800 صورة تغطي كافة جوانب الحياة في مختلف أنحاء الإمارات قبل اكتشاف النفط فيها.
نشر كودراي العديد من الكتب المصورة التي تمثِّل ذكرياته وتوثِّق رحلاته، ومن بينها كتاب بعنوان «أبوظبي: الألبوم العربي.. مجموعة صور من منتصف القرن العشرين». في هذا الكتاب يصف كودراي مغامراته متنقلاً بين مختلف أنحاء الإمارات، من بازار دبي وجبال رأس الخيمة إلى سواحل أبوظبي وواحات ليوا. يقول كودراي، إنه أول شخص يقوم برحلة استطلاعية إلى واحات ليوا باستخدام السيارة، مشيراً إلى أنه خلال الفترة بين عام 1953 و1955م، قام بأربع رحلات استطلاعية مكثّفة إلى واحات ليوا، فزار معظم أجزائها مسافراً بسيارة «لاندروفر»، ومرة واحدة بسيارة «دودج باور واجن». وكانت الخيارات المتاحة أمامه من حيث الطرق التي بإمكانه أن يسكلها، أوسع من الخيارات المتوافرة أمام راكبي الإبل المغادرين أبوظبي والمتجهين إلى ذات الوجهة التي يقصدها. ورغم ذلك فقد كانت لدابته «السيارة» مشكلاتها الخاصة، بحسب نوع الرمال التي تواجهها في رحلتها. وكان البدو يعبرون السبخة الساحلية عبر أقصر الطرق الممكنة، وكانت هناك عوامل عدة تؤثِّر في اختيارهم للمسارات التي يتبعونها للوصول إلى ليوا، مثل المستوطنات التي يقصدونها وتوافر المرعى وتموضع الآبار وأماكن وجود الأقارب.
يقول كودراي، إنه في كافة رحلاته إلى ليوا، كان يسافر على طول الخط الساحلي إلى أن يصل مباشرة إلى شمالي ليوا، ثمَّ يتجه جنوباً عبر بينونة، وكان هذا من شأنه أن يختصر المسافة المقطوعة فوق الرمال باتجاه ليوا، كما شكَّلت بينونة نقطة مناسبة للتزوُّد بالمياه بفضل وفرة آبارها، وكذلك للاستعانة بالمرشدين؛ إذ غالباً ما كان البدو يتواجدون في بينونة باعتبارها أقرب نقطة إلى الساحل يمكنهم ترك إبلهم للرعي فيها عندما يضطرون لاجتياز السبخة مشياً على الأقدام.
ويسرد كودراي تفاصيل رحلته عند السفر إلى الجنوب من بينونة، حيث ترتفع الكثبان الرملية بشكل تدريجي، وتبدأ الرمال بالتحوُّل إلى لون غامق وتطفو الحبيبات الأكبر حجماً إلى السطح. كما أنَّ وجود امتداد من المساحات المائلة نحو الأسفل يجعل القيادة سريعة وسهلة، إلى أن يصادفه تحوُّلٌ مفاجئٌ في تشكُّل الرمال؛ فكان يصل أحياناً إلى الحافة شديدة الانحدار من الكثبان الرملية. وفي معظم الأوقات كان باستطاعته القيادة من خلف الكثبان الرملية أو على كتف الكثبان، ولا يغامر باجتياز الجزء المنحدر إلا في حال الوصول إلى نقطة اللاعودة بشكلٍ غيرِ متوقَّع.
وكان الحظُّ يحالفه أحياناً، حيث تنتج عن المنحدرات بقعٌ صغيرةٌ من السبخات الراسخة، ولكن عندما تندمج قواعدها مع منحدر من الرمال الناعمة، كانت المشكلات تواجههم غالباً، وكان انتشال سيارة عالقة في الرمال، بل وغائصة حتى هيكلها في أغلب الأحيان، يتطلَّب جهوداً مضنية تتمثَّل بغرف الرمال الساخنة من أسفل العجلات، ودفع بدن السيارة الحديدي الذي يكون ساخناً لدرجة يتعذَّر معها لمسه بيدين عاريتين.
ويصف كودراي رحلته الأولى بأنها كانت أكثر رحلاته صعوبة، عندما تمَّ تزويده بسيارتي «لاندروفر» من الطراز القصير الذي تكون المسافة بين عجلاته الأمامية والخلفية صغيرة، ويصفهما بأنهما سيارتان رائعتان، ولكنهما تأتيان مزودتين بعجلات صغيرة فقط، إضافة إلى بعض المشكلات الميكانيكية. وإذا ارتفعت حرارة السيارة، فإنَّ الزيت يتسرَّب فيها ولا تصلح قيادتها قبل تجفيفها وتبريدها، وهي عملية لا بدَّ من القيام بها كلّما قطعت السيارة بضعة أميال. ويذكر أنه في إحدى المرات وبينما كان يقود «اللاندروفر» انقلبت السيارة على جانبها وانزلقت على طول كثيب رملي، ولم يكن لها سقف، فكان من حسن حظه أنها لم تنقلب على ظهرها.
ويقول كودراي، إنَّ آخر رحلة استطلاعية قام بها كانت باستخدام سيارة «دودج باور واجن»، مزودة بإطارات ضخمة مأخوذة من طائرة من طراز «داكوتا»، وقد أحدثت هذه السيارة فرقاً كبيراً في رحلته.
وبالحديث عن رحلاته إلى أبوظبي، يصف كودراي الطريق الذي كان يسلكه، وكيف كان المقطع يفصل بين البر الرئيس وجزيرة أبوظبي، فكان العبور لها على الجمال أسهل من وصولها بالسيارات، مشيراً إلى أنه في كثير من الأحيان وبينما كان ينتظر انحسار المد أو يقوم بالحفر في السبخة لانتشال السيارة العالقة، كان يتساءل لماذا اختار الشيوخ هذه المدينة لتكون مركزهم الرئيس؟!
يقول كودراي، إنَّ معظم رحلاته إلى أبوظبي كانت بالسيارة من دبي، منطلقاً من الجميرا ورمالها البيضاء على طول المسارات الساحلية؛ إذ لم تكن هناك طرق في ذلك الوقت. ويقول إنه من المفارقة أنَّ القيادة في هذه الأراضي القاحلة، تحكمها تحرُّكات المد والجزر، فإن كان المدُّ منحسراً استمتع بزيادة سرعته على رمال الساحل الناعمة متجنباً قوارب وشباك الصيد. وكان عادة ما ينعطف إلى الداخل عبر رمال أم سقيم ليتبع الطريق الذي يقود إلى سفح جبل علي، حيث تنتصب شجرة غاف وحيدة تسمّى «غافة النويبي» وهي آخر شجرة على طول الساحل، وكان يستمتع بالاستراحة في ظلها بامتنان في فترات الصيف. ويتابع كودراي وصف الطريق الذي يسلكه بأنه يتكوَّن من امتداد من السبخات المتقطعة، ونتوءات منخفضة من الرمل الحجري والرمال التي نمت عليها بعض النباتات، ما يضطره إلى القيادة ببطئ على تلك الطريق الوعرة. ثمَّ يتحدث كودراي عن «سبخة مطي» التي كان الناس يعبرونها للوصول إلى الساحل، إلا أنَّ الترحال على طول السبخة من الشرق إلى الغرب لم يكن ممكناً قبل ظهور السيارات.
عند الوصول إلى المقطع، إذا كان المدُّ منخفضاً كفاية للعبور، فإنَّ ذلك من حسن الحظ، إذ إنَّ التنبُّؤَ بحالات المدِّ والجزر هناك لم يكن بالأمر السهل، بسبب تأثير الرياح والتيارات القوية في القناة حول الجزيرة، وكان كودراي يضطر في كثير من الأحيان للانتظار ساعات طوال لينحسر الماء. وكان السائقون الذين يرافقونه ماهرين في اجتياز المقطع، فكانوا مثلاً يزيلون حزام مروحة السيارة، تفادياً لتعرُّض المحرِّك للمياه بفعل دوران المروحة، ولكن حتى هؤلاء ورغم مهارتهم، لم يكن بإمكانهم دائماً تفادي المشكلات عندما يتسابقون مع المدِّ لإنقاذ السيارة. وفي إحدى المرات انجرفت السيارة بشكل كامل أثناء العبور، لكنهم استخدموا مهاراتهم وارتجلوا الحلول؛ فاستعادوا السيارة وأعادوا تشغيلها. وكان السائقون يحتفلون بعبورهم بنجاح في طقوس تتمثَّل بقيام أحدهم بلف قطعة قماش من قميصه على مقبض التشغيل، ثمَّ يغمسها خزان الوقود ويشعلها ليمرِّرَ لهبها حول المحرِّك لتجفيفه من المياه، وكان ذلك طقساً احتفالياً وفي الوقت ذاته له فوائد عملية.
ولم تزل حالة عدم اليقين المرتبطة بعبور المقطع إلى أن تمَّ تكليف «خانصاحب» ببناء ممر عبره. ويقول كودراي، إنَّ «خانصاحب» كان أفضل من يقوم بهذا العمل؛ لأنه تمكَّن من دمج معرفته الواسعة بالبحر وتحوُّلات المدِّ والجزر فيه إلى جانب خبرته في المقاولات. وكان الشيخ حمدان بن محمد بن خليفة يزور «خانصاحب» وعماله في موقع العمل، ليحثَّهم على الانتهاء من المشروع بسرعة، وكان أوَّل من يعبر المقطع فوق الممرِّ الجديد وذلك بتاريخ 5 يناير 1953م.