2,146 عدد المشاهدات
الكاتب: إبراهيم حامد الخالدي
«يا كثر حكي البدو!». قال: «من كثر ترديده».
هكذا تحدث المثل الشعبي الشهير عن التكرار الحاصل في سرد الروايات الشفهية مرات ومرات في مجالس العرب – باديتهم وحاضرتهم على حد سواء -، ولا شك أنَّ كلاً منّا قد خبر هذا الأمر في مجالس قومه ومعارفه، وعايشه مراراً وتكراراً؛ فالحكايات تسرد في المجالس بتكرار لا ينتهي، وبحماسة لا تفتر، ولعلنا أيضاً لاحظنا أنَّ ثمة تفصيلات جديدة تدخل في نسق الحكاية في كل مرة تسرد فيها، وربما حرفتها عن مسارها الأصلي، وما «سالفة الحية»([1]) عنا ببعيد!
الأمر أكثر من مجرد كذب يمارسه راوية ما، أو رغبته بتمليح الحكاية وتبهيرها، ولكنَّ للأمر أبعاداً تتعلق بطبيعة الرواية الشفهية، وآلية السرد فيها، وتأثيرات التناقل الإنساني للروايات من خلال ظواهر: (التشذيب، والدمج، والتفريع) التي سأتحدث عنها لاحقاً، إضافة إلى دخول الأهواء والميول في تحريك النصوص المروية، أو التحريف في تسمية أبطالها ومكانها وزمانها.
وأحببت أن أسلط الضوء على ظاهرة أقترح تسميتها بـ «تناسخ الأحداث»، ولعلَّ كلَّ متعامل مع الروايات الشفهية لاحظها، بل وعانى منها، إذ إنه يجد نفس الرواية تتخذ أسماء وأمكنة جديدة باختلاف الراوي ومكان الرواية وزمنها، فتتكرر كثير من الحوادث التاريخية، منسوبة لأشخاص مختلفين في عصور متعددة، حتى لا يكاد المتلقي للرواية يجزم أو حتى يخمن بأساس الرواية ومنبعها الأصلي.
أصول تاريخية
ولطالما سمعنا قصصاً عن شجاعة أو كرم شخصية ما، ثمَّ فوجئنا بالقصة ذاتها أو باختلاف في بعض التفصيلات موجودة في سير شعبية مدونة كالتغريبة الهلالية، أو سيرة الزير سالم. بل إنَّ بعض الحكايات لها أصول في كتب تاريخية معتبرة، ولعلَّ حادثة طوفان نوح «عليه السلام» التي تمَّ استنساخ أحداثها أو خامتها الأساسية في أساطير شعبية عديدة، كما في الحضارتين السومرية والبابلية (ملحمة جلجامش للأخيرة)، هي دليل واضح على هذه الظاهرة.
وتكثر ظاهرة تناسخ الأحداث أو ما يسمّيه بعض الباحثين «التناص»([2]) في الحكايات الشعبية، فنجد في معظم المجتمعات الإنسانية حكاية شعبية عن زوجة أب شريرة تقسو على ابنة زوجها يتيمة الأم، ونجد لها مثيلات في التراث العربي والعالمي يوصلها بسندريلا، أو قصة عاشقين من قبيلتين متخاصمتين لها جذور أبعد من «روميو وجولييت» لتصل بنا إلى تخوم أساطير أقدم.
وعلى سبيل المثال، نجد أنَّ هناك من يروي تفصيلات عن سجن الفارس والشيخ راكان بن حثلين في تركيا، وهي حادثة تاريخية حقيقية في خطها العام، ولكن الراوي زاد عليها أنه عندما سمع صوت الحرب صار «يلكد» على الجدار كمن يعدو بفرسه، ولا شك أنَّ الراوي استعار هذه التفصيلة من السيرة الشعبية للزير سالم، إذ يتكرر هناك المشهد ذاته.
أهمية الرواية الشفهية:
«في البدء كانت الكلمة»:
تعدُّ الروايات الشفهية أحد أهم المصادر الأولية للمؤرخين عند تصديهم لكتابة التاريخ، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، فلو راجعنا كتب التاريخ فسنجد أنَّ غالب مصادرها عبارة عن روايات شفهية تمَّ تدوينها على الورق، فالوثيقة والتقرير هي في الأساس رواية شفهية لكاتبها قام بتدوينها، وكذلك مشاهدات الرحالة، وأقوال الشعراء والقصاص بدأت من الشفاه، وانتهت بالورق.
ومن هنا، لا يمكن للمؤرخ أن يتساهل في محاكمة الرواية الشفهية وتمحيصها ونقدها قبل القبول بها، لأنها في النهاية ستكون بعد تدوينها مصدراً مكتوباً تتناقله الأجيال بشكل لا يتوافر لها يوم أن كانت رواية شفهية معرضة للفناء في قبور الصدور.
والرواية الشفهية تتعرَّض في رأيي لثلاثة عوامل تحرفها عن واقعها، وهي:
التشذيب: تتعرض الرواية الشفهية عند تناقلها بين الرواة لما يشبه تشذيب الأشجار، فمن بين الرواة من يميلون إلى الاختصار إيماناً بمقولة «زبدة الهرج نيشان»، ويعمدون إلى تخليص لب الرواية من قشورها، وعندما لا يكون الراوي متمرساً في حرفته يغفل تفصيلات لها أهميتها التاريخية عند الباحث.
الدمج: بسبب الطبيعة الإنسانية وما يعتريها من نسيان وتخليط، والتشابه الحاصل في العادات والتقاليد، بل وفي طبيعة الحياة في المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً يحدث أحياناً أن يدمج الراوي – دون قصد في كثير من الحالات – بين حادثتين أو أكثر في حادثة واحدة، فقد يتحدث عن كرم أحد المتأخرين، ويدمج مع سيرته حادثة قد تكون قد وقعت لحاتم الطائي أو معن بن زائدة، أو أن يضيف لقصة في الوفاء مثل قصة المهادي تفصيلة مستعارة من قصة وفاء أخرى دون أن يعي خطورة ما يفعل، فتختلط الأحداث، وكثيراً ما وجدنا هذا الدمج في قصص التراث، ومنها الدمج الذي حصل بين سيرتي الغيهبان المري الفارس المتأخر وسيرة بهلول المجنون العاقل في عصر الرشيد.
التفريع: مع حماسة الراوي أحياناً يضيف للحادثة تفريعات من عندياته لإضافة مسحة من التشويق على روايته دون أن يكون متقصداً الكذب في كثير من الحالات، فقد تقول الرواية الأصلية إنَّ فارساً ما فعل الأفاعيل في المعركة وقتل عدداً من خصومه، فيضيف الراوي من عنده أنه قتل مئة فارس وكسب خيلهم وغنم ألف ناقة، فتعد هذه الأرقام حقائق يعتمدها الراوي التالي والمؤرخ!
تعريف تناسخ الأحداث:
«رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً»:
يُعرَّف التناسخ عموماً بأنه رجوع الروح إلى الحياة بجسد آخر، وهو عادة يتعلق بظاهرة تناسخ الأرواح التي اعتقد بها كثير من الشعوب والمذاهب عبر التاريخ، ولعلَّ أول من ربط بين التناسخ والحدث هو المفكر الكويتي الشهير د. محمد الرميحي في مقال سياسي له بمجلة الكويت (أغسطس 2014م) بعنوان (نظرة على المستقبل: تناسخ الحدث وتباعد الزمان) يتحدث فيه عن مصادفات وسياقات متكررة لأحداث تاريخية، أو توقعات خيالية حدثت فيما بعد، ليخلص للقول بأنَّ قاعدة تناسخ الحدث وتباعد الزمان هي قاعدة مؤكدة تمرُّ بنا، ولكن بعضنا لا ينتبه إليها).
أمّا تناسخ الأحداث الذي أعنيه في هذه الورقة، فهو نسبة الرواة الحادثة الواحدة لأكثر من شخص يعودون لأزمنة وأمكنة مختلفة، وهذا التناسخ في ظل غياب آلية (الجرح والتعديل) في محاكمة الروايات الشفهية – غالباً – قد لا يكون بالغ الضرر إذا كانت الرواية ليست بذات أهمية تاريخية، ولكن نتائجها تكون وخيمة عندما تتحدث عن وقائع وشخصيات لها أثرها التاريخي، فيعتمدها المؤرخ دون أن يدرك أنه وقع في حبائل رواة زيفوا الأحداث بقصد منهم أو دون قصد.
أمثلة لتناسخ الأحداث في بعض الروايات:
سمعنا في بعض المجالس حكاية عن الأمير الثري الوليد بن طلال، وكيف أنه كتب شيكاً لأحد الشعراء بمبلغ لعله مئة ألف ريال، ولكن كاتب الشيك زاد صفراً، فصار المبلغ مليوناً، فلما روجع الأمير قال: «لا يكون القلم أكرم مني»، وأقرّ للشاعر المبلغ الكبير.
بينما روى الكاتب مشعل السديري في صحيفة الشرق الأوسط الحادثة ذاتها منسوبة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله، فيقول: «حادثة رواها لي أحد شهودها عندما قال: «كنت حاضراً في مجلس الأمير في أوائل السبعينيات الميلادية، فقدم له أحدهم معروضاً يطلب فيه المساعدة مع من قدم، فشرح الأمير بقلمه على الورقة بإعطائه (5000) ريال، وكانت قيمة المبلغ في ذلك الوقت كبيرة، ويبدو أنه سها وزاد نقطة رابعة على الرقم، فأصبح (50.000) ريال، وعندما ذهب بالورقة أراد الوكيل أن يعطيه خمسة آلاف ريال فقط شأنه شأن الآخرين، فرفض الرجل أن يأخذها لأن الأمير كتب وراء الخمسة أربع نقاط، وعندما لم تصل مجادلته مع الوكيل إلى نهاية، ما كان منه إلا أن يعود للأمير مرة ثانية، قائلاً له: أنت طال عمرك أردت أن تمنحني خمسة آلاف، غير أنَّ قلمك كتبها خمسين ألفاً، ولا أدري كيف أتصرَّف؟!، فانتفض الأمير قائلاً: «أنا ولد عبد العزيز، والله لن يكون قلمي أكرم مني، هات الورقة هاتها»، وزاد على النقاط الأربع نقطة خامسة، فأصبح الرقم هو (500.000) ريال، ولكي يوثق الرقم كتب تحته خطياً: يُعطى خمسمائة ألف ريال، ويُقال إنَّ الرجل اشترى بذلك المبلغ بيتاً له ولعائلته»([3]).
بينما يروي الأديب عبد الرحمن الرويشد أنه في أحد الأيام أمر الملك عبد العزيز آل سعود لشخص بـ 200 ريال، لكن الملك عبد العزيز -رحمه الله – أضاف صفراً، فأصبحت 2000 ريال، فأبدى خازن بيت المال استغرابه: كيف يفضل هذا الشخص على غيره، ويعطى 2000 ريال؟، فقال الملك عبد العزيز «لن يكون قلمي أكرم مني»([4]).
وسمعت أنَّ القصة أيضاً تروى عن أحد شيوخ الإمارات، وفي كل مرة يتغير المبلغ، ولكن القصة ذاتها.
وعندما نقرأ كتاب (معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر) لنعمان بن العراق، وهو مخطوط يعود للقرن العاشر الهجري (970هـ) نجد القصة ذاتها، ولكنها منسوبة لشيخ المنتفق مانع بن شبيب الملقب بالصخا لكرمه، إذ يقول ابن العراق:
«أتاه -أي مانع -شاعر، وهو نازل في بادية البصرة للصيد، فمدحه بأبيات، وطلب منه الصلة، فكتب له مانع إلى وزيره يأمره أن: (أعطِ حامل كتابي هذا 500 دينار)، فجرى القلم بـ 5000 دينار، وطوى الكتاب، ولم يعاود النظر فيه، وقال للشاعر: (خذ هذا الكتاب، وامضِ به إلى الوزير بالبصرة، فإني كتبت له أن يعطيك خمسمئة دينار).
فأخذ الشاعر الكتاب ومضى إلى الوزير بالبصرة، فأخذ الوزير الكتاب وقرأه، فإذا فيه: (ادفع لفلان حامل الكتاب 5000 دينار)، فقال الوزير للشاعر: (أنت قرأت الكتاب؟)، فقال: (لا)، فقال: (كم قال لك الأمير؟). قال: (خمسمئة دينار)، ففكر الوزير ساعة، فقال له: (أظن هذا الكتاب ليس لك). قال الشاعر: (لا، والله. بل كتبه لي)، فقال الوزير: (إنه كتب لك خمسة آلاف، فماذا نفعل؟)، فقال الشاعر: (أرجع إليه؟)، فقال الوزير: (نحن أحقُّ بالبعث منك).
ثمَّ إنَّ الوزير أرسل قاصداً من عنده إلى الأمير مانع بالكتاب، فلما قرأه عرف أنه كتابه، وأنَّ الله رزق هذا الشاعر منه هذا المبلغ، ثمَّ كتب إلى الوزير: الكتاب كتابي، والخط خطي، وأردت خمسمئة، وأراد الله خمسة آلاف، وجرى قلمي بذلك، ولا يكون القلم أجود مني، فادفع إليه خمسة آلاف، فإني لا أرد ما جرى به قلمي!»([5]).
وليس هذا فقط، بل أذكر أنني قرأت القصة باختلاف المبلغ في أحد كتب التراث – غاب عني المرجع الآن – منسوبة للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.
ويحقُّ لنا التساؤل: من صاحب الحادثة في الأساس؟
– إننا لا نستبعد أنَّ تناسخاً للأحداث قد جرى هنا، ولا يستبعد أيضاً أن تتكرَّر القصة مع أكثر من شخص، فيقتدي الأحدث بفعلة الأقدم، ولكن هذه الحادثة تصلح كمثال واضح لما نقصده في ورقتنا هذه.
ويشبه ذلك ما قرأناه من أنَّ قوماً أغاروا على إبل لعشيرة الجبلان من مطير، فتمكَّن الجبلان من ردهم، ولحقوا به حتى أدركوهم، ولكن قائد المغيرين أناخ راحلته عند قبر شيخ الجبلان القديم فدغم بن لامي، وعاذ به، فقال قائد الجبلان أنهم في وجه شيخنا الميت، وتركهم([6]).
وتشبه هذه الحادثة ما حدث مع قوم التجؤوا بقبر الشيخ فهيد الصييفي السبيعي بعد انهزامهم في معركة جرت بينهم وبين قبيلة سبيع، وقد تمَّ العفو عنهم أيضاً إكراماً لذكرى صاحب القبر.
ولهذه الحادثة أصداء أقدم تعود بنا إلى صدر الإسلام، فنذكر أنَّ الشاعر الفرزدق كان يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة، فمن استجار بقبره أجاره.
فلما خافت امرأة من بني جعفر بن كلاب لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسماً ولا نسباً، ولكنه قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب:
عجوز تصلّي الخمس عاذت بغالب
فلا والذي عاذت به لا أضيرها([7])
ومثل ذلك الشاعر الأقيبل القيني، وكان قد عرّض بالحجاج في بعض شعره، فلما بلغ الحجاج شعره عاذ الأقيبل بقبر مروان بن الحكم، فأمنه عبد الملك بن مروان، وكتب إلى الحجاج ألا يعرض له، وجعله في ذمته.
وكذلك الشاعر الكميت بن زيد شاعر الهاشميين لما خشي على نفسه من هشام بن عبد الملك عاذ بقبر معاوية بن هشام، وضرب فسطاطه عند القبر، فعفا عنه.
وربما كان «تناسخ الأحداث» هنا مبرراً، إذ إنَّ العياذ بالقبور عادة جاهلية توارثها عنهم المتأخرون، فقلدوها ومارسوها في حوادث لاحقة، وهم يتعاملون معها كصورة من صور الدخالة واللجوء، وليس في الأمر معتقد ديني، بل هو تذكير بمكانة الميت طلباً لعطف ورثته دون اعتقاد ببركة للقبر.
ومن الصور المحيرة لتناسخ الأحداث ما جرى لي شخصياً عندما كنت أجمع مادة كتابي «الجامع المختصر للألقاب والعزاوي عند البدو والحضر»، فقد أرسل لي حفيد للشيخ سعدون بن عباس السويدي الشمري أنَّ جده المتوفى سنة 1396هـ كان يلقَّب بـ «ذبّاح معيده» لكونه قد ذبح معيده (الناقة أو الجمل الذي يخرج الماء لمزروعاته) عندما لم يجد غيرها يقدمه لضيوف حلوا عليه سنة 1368هـ، وفيه قال الشاعر محمد بن مناور الشمري:
سعدون شيخٍ للنواميس عنوان
ريف الضعافا بالسنين الدخايل
ذكّى المعيد وقال للزرع لا كان
وأكرم به ضيوفه كريم السبايل([8])
ثمَّ جاءتني رسالة من أحد أحفاد الشيخ نايف بن عتيق بن رمال من سنجارة من شمر أمير بلدة جبة المتوفى سنة 1340هـ، وذكر أنَّ اللقب لجده لكونه فعل نفس الفعلة قبل السويدي، واستشهد بقول للشاعر محمد الضرباح يمدحه:
ذبّاح معيده بالسنين الجواريد
يوم ان خطو اللاش شحّ بغنمها
نايف كما حرٍّ على عالي الحيد
ابن عتيق مدمّر اللي جرمها([9])
وممن ذبحوا (المعيد) – السانية – الحويطي، ومحمد الطريف الزايد من أهل الجوف الذي ذبح سانيته لضيوف حلوا عليه، وعندما علموا بتضحيته أرادوا تعويضه بناقة من ركائبهم، فرفض قبولها ولم يقبلها إلا بعد أن هدّدوا بذبحها([10]).
وربما يكون لهذا التكرار إذا برأناه من «تناسخ الأحداث» سببٌ راجعٌ إلى أنَّ أهل القرى لا يمتلكون من الإبل غالباً سوى ما يسنون به زرعهم، وبالتالي يضطر الكرام منهم لذبحها لضيوفهم.
ومثل ذلك لقب «معشّي الذيب» المشتهر أنه لقب للشيخ مكازي بن سعيّد شيخ الدغيرات من شمّر، وكان قد سمع ذئباً يعوي بصوت مرتفع، فقيل له إنَّ الذئب جائع والكلب يطرده عن الغنم، فهو يرفع صوته لكي يسمعه ذئب آخر ويعاونه على الكلب، وعندئذ قام ابن سعيّد بربط شاة قرب الذئب كعشاء له([11])، وقال أحد الشعراء في مدح حفيد له:
جدّه مكازي أشبع الذيب سرحان
وعقّب لشمّر كل علمٍ وكادي([12])
ولُقِّبَ أيضاً بمعشّي الذيب: حسين الكنعان من الحسنة من عنزة، وكان يفعل نفس الفعلة إذا سمع عواء ذئب جائع([13]).
وهو أيضاً: لقب للشيخ محمد بن سعد بن شعيفان من شيوخ العزة من سبيع([14]).
وهناك لقب آخر هو «معشّي الشجر» المنسوب لمحمد بن حسين الشريف من أهالي الحريق، وكان قد رأى أزوالاً من بعيد تتحرَّك في يوم عاصف مغبر تنعدم فيه الرؤية، فحسبهم ضيوفاً وأمر أهله بذبح شاتين طعاماً لهم، وعندما عرف الحقيقة بعد انتهاء العاصفة دعا جيرانه وعشّاهم، وقال أحد جيرانه:
ألا يا محمد بن حسين عشّيت الشجر والجار ** تحسب ان الشجر ضيفان ياللي تكرم العاني([15])
وهو أيضاً: لقب لناصر بن راشد السويد من السلقا من عنزة([16]).
وهناك «معشي الطرفا» لقب لمناحي الحرز من بني خالد، وكان قد رأى أشجار الطرفا فظنها جاراً جديداً نزل عليه، فأمر بتجهيز الطعام، ولما تبينت له الحقيقة أمر بترك الطعام في مكان الطرفا([17]).
و«معشّي العواشز»: لقب لإبراهيم بن عبد الله بن بسام من أهل البرود غربي نجد، وكان مشهوراً بالكرم، فلما كبر وضعف بصره صار إذا شاهد أشجار العوسج (العوشز بالعامية) يأمر أهله بتجهيز الطعام ظاناً ما رآه ضيوفاً قادمين إليه([18]).
وهو أيضاً: لقب لسعد الخبيش القباني السهلي لنفس السبب([19]).
وهو أيضاً: لقب لحسين بن علي الرومي من وجهاء الكويت المتوفى سنة 1357هـ لنفس السبب([20]).
خاتمة:
ختاماً أرجو أن أكون قد بيَّنت ما قصدته بـ «تناسخ الأحداث» قاصداً التحذير من هذه الظاهرة، خاصة عندما يعتمد المؤرخ على الرواية الشفهية كمصدر في كتابته للتاريخ، والمعوّل عليه هو أمانة المؤرخ، وتحريه الصدق فيما يسمع وينقل، ويدرك أنَّ الوضعَ والتحريفَ الذي وصل إلى الأحاديث النبوية منذ صدر الإسلام ليس بعيداً عن الروايات الشفهية التي تتطرَّق لمن هم دون مقام النبوة.
المراجع
[1]– سالفة الحية: قصة شعبية عن رجل قتل حية صغيرة، وصار كلما أعاد سرد الحادثة زاد في طول الحية حتى أصبحت ثعباناً خرافي الطول في النهاية، فقالوا: «مثل سالفة الحية؛ كل ما تتسولف تطول»!
[2]– عزفت عن استخدام مصطلح التناص، لأنه صار مألوف الاستخدام في مجالي التعالق الحاصل في النصوص الإبداعية مما قد يحدث لبساً في الأذهان عند استخدامه في موضوع الروايات الشفهية.
[3]– جريدة الشرق الأوسط، 24 أكتوبر 2011م.
[4]– جريدة الرياض، 18 إبريل 2008.
[5]– نعمان بن العراق، معدن الجواهر، ص25.
[6]– عبد العزيز السناح، شعراء من مطير، ص88.
[7]– التذكرة الحمدونية، نسخة إلكترونية.
[8]– رسالة بعثها لي الأخ خالد بن مسند بن سعدون السويدي.
[9]– رسالة بعثها إلى الأخ سعود بن نايف الرمالي.
[10]– عبد الرحمن السديري، الجوف، ص151.
[11]– مجلة فواصل، ع 52، ص96.
[12]– عبد الله الطويان، الحاوي، ص135.
[13]– حسن المقبل، الحسنة، ص287.
[14]– رسالة بعثها إليّ الأخ عيد بن مدعج السبيعي.
[15]– مجلة فواصل، ع 52، ص91.
[16]– عبد الله بن عبار، أصدق الدلائل، ص214.
[17]– خالد الخالدي، الموروث الخالد، ص37.
[18]– حمد الجاسر، البرود، ص246.
[19]– رسالة بعثها إليّ الأخ فهاد بن سعد السهلي.
[20]– جريدة الرأي العام، ع 8/11/2002، ص25.