1,824 عدد المشاهدات
الكاتب: د. شهاب غانم
في 27 يوليو عام 2019، انتقل إلى جوار ربه الصحفي اليمني المعروف فاروق محمد علي لقمان في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، التي هاجر إليها من اليمن في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. وقد نعاه عشرات الصحفيين في السعودية وخارجها؛ فهو اسم بارز في عالم الصحافة العربية خصوصاً في السعودية واليمن، حيث أسهم في تأسيس الصحافة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية بصدور صحيفة «أراب نيوز» التي صار لاحقاً رئيساً لتحريرها، وقبل ذلك كان رئيساً لتحرير صحيفة «إيدن كرونيكل» في عدن، وهي أول صحيفة إنجليزية مستقلة في اليمن التي أطلقها والده رجل النهضة في اليمن، المحامي محمد علي لقمان، رحمه الله، والذي ترأّس تحريرها حتى وفاته عام 1966 في مدينة جدة أثناء رحلته للحج. وكان ابنه فاروق مديراً للتحرير؛ فخلفه في رئاسة تحريرها حتى أغلقها الحكم الشمولي الذي سارع لإغلاق كل الصحف المستقلة في اليمن الجنوبية إثر وصوله للحكم في 30 نوفمبر عام 1967.
كان خالي فاروق، المولود في عدن عام 1935، يسبقني في المدرسة بنحو خمسة أعوام؛ فعندما أتممت الدراسة الابتدائية في مدرسة السيلة الحكومية، والتحقت بالصف الأول في مدرسة «الرزميت» الحكومية في مدينة «كريتر» بعدن عام 1951، كان فاروق في الصف الخامس أو السادس، وهو من طلبة الصف الذي يسبقه عبدالله عبد المجيد الأصنج الذي صار نقابياً شهيراً على مستوى العالم، ثمَّ وزيراً لخارجية اليمن، وأيضاً محمد سالم باسندوة الذي صار رئيساً للوزراء في حكومة اليمن بعد الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح. ولكن في عام 1952 أُنْشِئَت كلية عدن في مدينة الشيخ عثمان؛ فالتحق فاروق بصفِّها الرابع، بينما انتقلت أنا إلى الصف الثاني في «الرزميت» التي تحوَّلت إلى مدرسة متوسطة، وتُعْرَف حالياً في عدن بمدرسة الشاعر لطفي جعفر أمان.
في هذا المقال، سأتحدَّث بشكل خاص عن مذكرات فاروق لقمان التي أنهى كتابة مسودتها قبيل إصابته بجلطة ألزمته الفراش في الفترة الأخيرة من حياته، وجعلته غير قادر على التواصل مع أحد. ومذكرات فاروق تكاد تقتصر على حياته في الصحافة، وهو المجال الذي استأثر بجُلِّ جهده في الحياة منذ تخرُّجه.
الأب والابن
من الصعب على المرء أن يتحدَّث عن مذكرات تخصُّ فاروقاً دون أن يتطرَّق إلى الحديث عن مذكرات والده رجل النهضة الشهير، المحامي الصحفي الأديب محمد علي إبراهيم لقمان (1898- 1966)، مؤسِّس الصحافة العربية والإنجليزية المستقلة في عدن، بل ربما كل اليمن. وقد عرفت الجدَّ لقمان عن كثب وكان صاحب شخصية قيادية كاريزمية جمعت بين «داينامية» نادرة وثقافة موسوعية وروح تتحلّى بحسِّ الفكاهة والمرح، كما كان مسكوناً بحب التعليم والتطوير، وكان أديباً كتب أوَّل رواية لأديب من اليمن. ولذلك كان تأثيره كبيراً على أولاده وأسرته ومن كانوا حوله، واستطاع أن ينشئ عدداً من النوادي والجمعيات الثقافية والاجتماعية الناجحة؛ مثل نوادي الإصلاح، ومخيَّم أبي الطيب. وقد ورث فاروق عن أبيه الكثير من «الداينامية» وحب المعرفة والعمل وروح الفكاهة، كما أشار إلى ذلك زميله الصحفي المصري علاء عبد الحميد عبدالغني في مذكرات فاروق في الفصل المعنون «رجل في مهمة» قائلاً: «عندما يمشي فإنَّ خطواته غير عادية.. قوية وذات عزم وكأنه رجل في مهمة، يأكل بسرعة، يتحدَّث أيضاً بسرعة وكأنه متأخرٌ عن عمل لا بدَّ أن يؤديه.. لا بدَّ أنه في عرب نيوز. يصدر تعليماته بصوت قوي باللغتين العربية والإنجليزية اللتين يجيدهما تماماً». كما قال عنه: «هو مرح.. صاحب نكتة، وإذا ضحك زلزل المكتب واهتزت الأوراق ودورق الشاي المخلوط بالزنجبيل..»
شؤون وذكريات
وقد كان والد فاروق، جدي محمد علي لقمان، أوَّل من كتب سيرته الذاتية في اليمن المعاصر. وكان ذلك من خلال مقالات مسلسلة باللغة الإنجليزية في صحيفته «الإيدن كرونيكل» بين نوفمبر 1960 و1963، ثمَّ نشرها بالعربية في صحيفته «فتاة الجزيرة» بين 1963 و1965. وقد جُمِعَت ونُشِرَت في مجلد باللغتين عام 2009، أي بعد وفاته بنحو 43 سنة، بإيعاز وتمويل من ابنه المهندس ماهر محمد علي لقمان، شقيق فاروق الأصغر، تحت عنوان «رجال وشؤون وذكريات»، إلا أنَّ بعض الحلقات كانت مفقودة في هذا الكتاب. وفي تلك المذكرات تناول لقمان الأب جوانب من سيرته منذ الطفولة، وتحدَّث فيها عن والده وزوجاته ودراسته وكثير من الشخصيات العامة من مختلف الجنسيات التي احتكَّ بها، والموضوعات السياسية والاجتماعية الكثيرة التي كان تؤرقه ويتفاعل معها.
أمّا فاروق، فأذكر أنني كنت قد حثثته، منذ العقد الماضي، أكثر من مرة على كتابة ونشر مذكراته، ولم يكن يرفض لكنه لم يكن يبدي حماسة. أخبرته بأنني حثثت والدي الشاعر د. محمد عبده غانم (1912-1994) في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي على كتابة مذكراته فرفض بشدة، وقال لي أنت كشاعر تدرك أنَّ ديوان الشاعر هو مذكراته، فقلت لوالدي حينذاك: «هذا صحيح إلى حد كبير، ولكن أنت أوَّل خريج جامعي من جامعة حديثة في الجزيرة العربية، وأوَّل عربي من عدن يصبح مديراً للمعارف فيها، وكنت مؤسِّساً لندوة الموسيقى العدنية التي أطلقت أوَّل أغنيات بالطابع العدني، وكانت الأغنيات الأربع الأولى من كلماتك، وكنت أوَّل بروفيسور في تاريخ اليمن، وهناك أمور أخرى كثيرة لا يمكن لديوان الشاعر أن يسجلها، بل ينبغي أن تكتب في سيرة ذاتية، ولو كان لديَّ الوقت لجلست معك أياماً نسجِّل مذكراتك»، ولكني حينذاك كنت غارقاً في إعداد أطروحة الدكتوراة؛ ففاتت الفرصة. وعندما كتبت فيما بعد كتاب «صورة مدينتين في شعر محمد عبده غانم» لم أستطع أن أتناول سوى شعره وبعض حياته، ومعظمه ممّا عاصرته. ولحسن الحظ كتب فاروق المسودة الأولى من مذكراته وبعث لي بها قبل سنتين؛ فقرأت جزءاً منها وكتبت له تعليقاتي، ثمَّ لم أسمع منه. وتحدَّثت مع ابنته «يمن» بضرورة إتمام المشروع وكانت هي شديدة الحماسة لذلك، وبالفعل أتمَّ فاروق مسودة المذكرات قبل أن يصاب بعد ذلك بفترة قصيرة بالجلطة. وفي تلك الأثناء عملت «يمن» بجهد كبير على تصحيح الكتاب وإعداده للطبع، وكنت أحد الذين استعانت بهم على ذلك.
حياة حافلة
ويلاحظ المرء أنَّ هذه المذكرات تختلف كثيراً عن مذكرات والده التي تحدَّثت عن جوانبَ وأحداثٍ شتّى في حياته الحافلة بالنشاط. أمّا هذه المذكرات فلا تتناول شيئاً من طفولة فاروق أو حياته في المدارس التي تعلّم فيها، بل عن حياته في الصحافة. فهو لم يتحدَّث عن أعمامه وإخوانه، وكثيرٌ منهم كانوا أعلاماً، سوى ما ذكره عن بعضهم ممّا يتعلّق بعالم الصحافة والكتابة، وخصوصاً عمَّه المؤرخ حمزة علي لقمان، وأخاه الأكبر الشاعر البارز الصحفي والسياسي علي لقمان، أوَّل يمني يتخرَّج في الصحافة من مصر، من تحت أساتذة أمثال علي ومصطفى أمين، وأيضاً أحد إخوته الكبار الأستاذ حامد، رحمهم الله جميعاً. كما جاء في حديثه عن تدرُّبه في مجال الصحافة قائلاً في الفصل المعنون «الحلم الكبير»: «عملت مع والدي لأتعلَّمَ فنَّ الصحافة بالإنجليزية في بلاد عربية. لقد كان والدي وأخواي علي وحامد من أوائل الخريجين العدنيين من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أفضل من علموني بين عامي 1954 و 1961».
والفرق بين مذكرات الأب ومذكرات الابن يدلُّ أيضاً على الاختلاف بين الجيلين؛ فجيل الأب كان جيلاً مؤسّساً، وزمنه يحتاج إلى قادة متعددي الجوانب، بينما جيل الابن كان جيل البناء فوق تلك الأسس، وكان يحتاج إلى التخصُّص، وفاروق كان متخصصاً بمعنى الكلمة، وهب كلَّ قلبه للصحافة، بل كان يبحث عن آخر ما وصلت إليه ويريد تطبيقه في صحف والده كما جاء في المذكرات. كان فاروق قد نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية والتاريخ من جامعة بومبي بالهند عام 1958، ثمَّ نال شهادة الماجستير في الصحافة من جامعة كولومبيا بأمريكا عام 1962، وكان طالباً مبرزاً؛ فحصل على الميدالية الذهبية من تلك الجامعة، وقد ساعدته خبرته العملية على ذلك. وفي الكتاب يشرح فاروق القفزة المهنية في علم الصحافة بين الجامعتين اللتين تخرَّج فيهما، ويقول عن دراسته في كولومبيا: «والواقع أنَّ هذه الدراسة قد غيَّرت مجرى حياتي كثيراً، كما غيَّرت شكل الصحافة بالإنجليزية».
الحداثة والتطوُّر
وجد فاروق في والده رجلاً متفتحاً؛ فتقبَّل اقتراحاته لتحديث مطبعة صحف دار «فتاة الجزيرة» بعد عودة فاروق من الدراسة في أمريكا، وبعقلية الرّائد لم يتوانَ عن الاستثمار في مطبعة حديثة حسبما أقنعه فاروق، على الرغم من أنَّ والده كان محدود الموارد المادية يمتهن المحاماة بجانب رئاسة تحرير صحيفتين. سكنت في منزل جدي لقمان مع بعض أشقائي لمدة شهرين عام 1956 عندما سافر والداي في رحلة إلى أوروبا وعرفت الجد وأسرته عن قرب، وقد تنبأ لي حينذاك بأني سأصبح شاعراً، عندما لاحظ اهتمامي بالشعر، ولاحظت الفرق بين أسلوب جدي وأسلوب والدي في الحياة، وكلا الرجلين كان عَلَما ترك بصمته على تاريخ عدن الحديث، وكلاهما ترك بصمته على أسلوبي في الحياة. وفاروق كان شديد الإعجاب بوالدي كشاعرٍ ومُربٍّ، يقول في هذه المذكرات: «ولا يفوتني عند ذكر التعليم في عدن أن أشير إلى ذلك الرجل الذي اقترن اسمه بالمعارف في الجنوب العربي سابقاً – جنوب جمهورية اليمن حالياً – إذ كان أوَّل خريج جامعي عربي في الآداب ودبلوم التدريب في عدن أيام الاستعمار البريطاني لها، ثم تجرَّد في سلك التدريس ليصل إلى أرفع مرتبة وظيفية كان الاستعمار يسمح بها لأهل البلاد وهي مدير – نائب وزير – معارف الجنوب العربي. إنه الأستاذ الدكتور محمد عبده غانم الذي لم يكن مدرساً فحسب، بل مخططاً تربوياً من الطراز الأول في العالم العربي آنذاك من الثلاثينيات حتى الستينيات. وإذا كان لأيِّ فرد أكبر الفضل في نشر التعليم في المنطقة، فمن الإنصاف له ولتاريخ الوطن أن نعزوه إلى الأستاذ محمد عبده غانم».
زمن الكتابة
كما عرفت جدي لقمان أثناء عمله عن كثب، عندما كنت أجمع قصائد والدي من مجلدات «فتاة الجزيرة» لنشرها في ديوان «موج وصخر»، وقد خصَّص لي جدي طاولة في مكتبه لنقل القصائد باليد قبل زمن التصوير (الفوتو كوبي) وكنّا نعمل لمدة ساعات في صمت تام، وكما يقال: «لو وقعت إبرة لسمعناها». وقد ذكرني جدي في مذكراته عندما كنت طالباً في الهندسة في جامعة أبردين، كما ذكر شقيقي «قيس» وشقيقتي «عزة» اللذين حصلا فيما بعد على درجة الدكتوراة وأيضاً الأستاذية.
وقد استثمر محمد علي لقمان في آلات الطبع الحديثة، فهو وفاروق من العقول النيّرة التي جعلت عدن تصل في الستينيات إلى مرتبة الريادة في الجزيرة العربية في شتّى المجالات، وكانت حقاً منارة مشعَّة فيها. ثمَّ خرج المستعمر البريطاني في نوفمبر عام 1967، وتدهورت البلاد بسرعة خارقة تحت الحكم الشمولي الرهيب الذي كان الهمُّ الأوّل لبعض قادته ومساعديهم الاستيلاءَ على مساكن أهل عدن؛ فقد جاؤوا بعقلية الغنيمة، فغادر رجال الأعمال ثمَّ الموظفون الحكوميون والمهنيون والمثقفون، وتشردوا في الشطر الشمالي من اليمن وفي الخليج والغرب وأركان الدنيا، والذين كانوا أقلَّ حظاً خسروا حياتهم وأموالهم وحرياتهم؛ إذ أودعوا السجون، وانتهت حرية القول التي كانت تتمتّع بها عدن إلى حد ملموس في عهد الاستعمار البغيض! وانحدر مستوى المعيشة إلى أن صار الأدنى في الجزيرة بعد أن كان في الصدارة، وهو مازال في الدرك الأسفل؛ لأنَّ القادة الجدد، الذين كان ينقص كثير منهم العلم ولكن لم يكن ينقصهم الحقد والسادية، زجوا بالبلاد في حروب وتصفيات فيما بينهم، وعندما انهار الاتحاد السوفييتي سارعوا بالقفز للنجاة بجلودهم والدخول في وحدة مرتجلة عام 1990 مع نظام مختلف تماماً في الشمال وغارق في الفساد، ثمَّ سارعوا للانفصال المرتجل عام 1994، ما أدّى إلى حرب أهلية.
ووصلت عدن وكل اليمن إلى الحضيض بعد استيلاء رجال الكهوف العنصريين الذين رهنوا أنفسهم أداة لقوة إقليمية أجنبية. ودخلوا عدن التي لا تحتضن ثقافتهم وفكرهم، فقاومتهم ولفظتهم؛ فخرجوا منها سريعاً بمساعدة قوات التحالف بعد أن دمروها ما استطاعوا.
إغلاق المطبعة
وعندما جاء الحكم الشمولي عام 1967 كان من أوائل ما عمل تكميم الأفواه؛ فاستولى على الصحافة وأغلق كل الصحف ومطابعها، بما فيها مطبعة محمد علي لقمان التي كانت تصدر «فتاة الجزيرة» و«الإيدن كرونيكل»، ومطبعة ابنه الشاعر علي محمد لقمان التي كانت تصدر في البداية الصحيفة الأسبوعية «القلم العدني» والتي حوَّلها صاحبها بعد ذلك إلى يومية تحت عنوان «الأخبار». وقد تحدث فاروق عن ذلك بشيء من التفصيل في هذا الكتاب، ولكن بهدوء وعقلانية على عادته التي ربما اكتسبها من دراسته في الهند وأمريكا، وبدون انفعال وعاطفية على الرغم من خسارته لوظيفته واستيلاء الحكم الجديد على المطبعة بدون تعويض، ونلاحظ قوله: «وكنت أحرص على جمع واحتفاظ أي كتاب يُنْشَر عن اليمن بالإنجليزية، حتى تمكَّنت يوماً ما من جمع عشرات منها في مكتبتي بعدن، وأضفت إليها ما أهداني إياها والدي، رحمه الله، ولا سيما كتاب «الكولونيل جاكوب» عن عدن 1870». إلا أنَّ هذه الكتب أُتْلِفَت عندما صودرت دار «فتاة الجزيرة» بكل ما فيها من معدات ومطابع، وأحدث جهاز تصنيع للصور في البلاد آنذاك، وكل مجلدات الجريدتين التي تضمُّ تاريخ اليمن منذ الأزل كما كان يكتبه الوالد وأخوه المؤرخ الراحل حمزة علي إبراهيم لقمان. ولم أعرف أين استقرَّت تلك الكتب والمجلدات؟ أمّا آلات الطباعة فيمكن تعويضها بأفضل منها بإذن الله. ولعلَّ الحكم الفاشي السابق قد أمر بإحراقها؛ لأنها لم تتفق مع التوجُّهات الجديدة للحكم كما قال لي أحد الرفاق يوماً ما.
وهذا الهدوء والعقلانية في فاروق لاحظته أكثر ما لاحظته عندما زرته في دار «فتاة الجزيرة» في يونيو عام 1967 بعد نكسة حزيران (يونيو)، ومعي قصيدة كتبتها عن النكسة مملوءة بروح التحدي، وقد شعرت حينذاك بأكبر صدمة نفسية مررت بها ولازمتني لسنوات حتى حرب العبور، وإن كانت كتابة القصيدة آنذاك ساعدتني على التحمُّل والشعور بالتوازن النفسي، وتحدَّث معي فاروق بهدوء وذكّرني كيف استطاعت فيتنام أن تهزم أمريكا بالتضحية والصمود على الرغم من فارق الحجم والقوة بين الدولتين. وقد نشر قصيدتي بارزة في الصفحة الأخيرة. وعندما كنت أعدُّ أطروحة الدكتوراة في «كارديف» في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي، أرسلت بعض قصائدي إلى فاروق في «جدة» حيث كان يدير صحيفة «أراب نيوز» ويكتب عموداً يومياً مشهوراً تحت عنوان: «عالم بلا حدود» في شقيقتها صحيفة «الشرق الأوسط» فيسارع بنشر ما أرسل به في «الشرق الأوسط». وأذكر ممّا نشر لي فيها استعراضي للأعمال الكاملة للشاعر اليمني البارز أحمد بن محمد الشامي، رحمه الله، الذي كان صديقاً لوالدي وجدي منذ فراره مع الشاعر الشهيد زيد الموشكي، رحمه الله، إلى عدن في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، للانضمام إلى حركة الأحرار تحت قيادة الشاعر الكبير القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري، والأستاذ أحمد محمد نعمان، رحمهما الله، اللذين تحدَّث عنهما فاروق كثيراً في كتابه هذا. وكان الشامي صديقاً شخصياً لي أيضاً فقد كنّا نتواصل هاتفياً، ويرسل لي مؤلفاته، كما كتب مقدمة ديواني الأول «بين شط وآخر» قبل ذلك. كما نشر لي فاروق قصيدة عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقال لي هي في رأيه أفضل ما قرأ من الشعر عنها حتى ذلك الحين. وكتب في استعراضه لأحد دواويني في مطلع التسعينيات في الشرق الأوسط: «شهاب غانم يحمل عدة شهادات من جامعات بريطانيا والهند.. حتى الدكتوراة التي نالها من جامعة كارديف، وهو أيضاً من أبرز الشعراء العرب في الوقت الحاضر؛ إذ يهوى النظم منذ نعومة أظفاره، ووجد في أبيه الدكتور الشاعر الكبير محمد عبده غانم خير أستاذ وموجِّه وراعٍ.. وقد صقل مواهبه بالقراءة الغزيرة والثقافة الواسعة». كما أشاد في مقالات أخرى ببعض كتبي الأخرى مثل كتاب «صورة مدينتين» الذي اقترح في مقالته أن يُدْرَجَ في الدراسات الجامعية.
مرح ولهو
وخلال تركيزي في تلك السطور على شخصية فاروق، أشير إلى استمتاعه بالتحدي، وأذكر عندما كنّا أطفالاً أخذنا والدي أنا وشقيقيَّ «قيس»، و«عصام» ،رحمه الله، إلى ساحل «جولدمور» الجميل في مدينة التواهي وكان فاروق معنا، وتركَنا والدي عند البحر، وذهب لحضور درس في اللغة الفرنسية. كان فاروق حينذاك في الثالثة عشر من عمره، وقيس في التاسعة، وأنا في الثامنة، وعصام في الرابعة. واقترح فاروق أن نصارعه.. ثلاثتنا كمجموعة، ثمَّ أصرَّ على ذلك. وقد تمكنّا في البداية أن نطرحه على الرمل ونحكم قبضتنا عليه، ولكنه استطاع في نهاية الأمر أن يستجمع قواه ويفلت. وضحكنا كثيراً وعاد والدي ووجَدَنا وآثارُ الرملِ تغطّينا.
وفي هذه المذكرات تحدَّث فاروق عن والده، كما تحدَّث عن والدته وعملها الاجتماعي في الفصل المعنون: «أم وسيدة مجتمع»، ولكنه لم يتحدَّث عن أسرته الصغيرة المباشرة إلا قليلاً على الرغم من أنني أعرف مدى حبّه وتعلّقه بزوجته وأولاده، وتعلُّق أولاده به. وقد جاهد كثيراً في تربيتهم ومحاولة علاج ابنته «وحي» وابنه «عبدالله» اللذَيْن أصيبا بمرض أفقدهما نظرهما تدريجياً بشكل يكاد يكون تاماً عبر سنوات. لم يألُ فاروق خلالها جهداً لمعالجتهما في بلدان مختلفة. وقد تخرَّجا في المحاماة، ونالت «وحي» درجة الدكتوراة وتعمل في التعليم الجامعي. وعدا ما ذكره في الإهداء في كتابه «توابل هندية» عن الدور الذي لعبته ابنته «يمن» في تشجيعه على نشر وتأليف الكتب وإعداد المذكرات. ولم يتحدث فاروق عن أبنائه في مذكراته عدا ما كتبه عن ابنته الكبرى «وحي» قائلاً: «وفي منتصف عام 1961 ذهبت إلى نيويورك تاركاً زوجة شابة وطفلة، هذه الطفلة اسمها «وحي» التي حصلت على الدكتوراة في القانون من جامعة القاهرة، بعدما حصلت على بكالوريوس القانون في صنعاء، وماجستير في القانون أيضاً من عمّان، مع أنها كفيفة، فقدت بصرها تدريجياً منذ كانت في الثانوية في جدة، وتحاضر اليوم في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة». وأذكر أنني تأثرت كثيراً بنيلها الدكتوراة وهي ضريرة، ولكنها من أصحاب الهمم، وأوحى لي ذلك بقصيدة فَرِحَتْ بها وعلَّقت نسخة منها في برواز في مكتبها.
وقد أحسن الأستاذ محمد حافظ، صاحب الشركة العربية للتوزيع، حينما أشار في مقدمة المذكرات إلى محبة أولاد فاروق لأبيهم، وهو يقول إنه عندما زاره مع أخويه إثر إصابته بالجلطة وجدحوله عقداً مضيئاً من الأبناء والبنات.
كتابة جذّابة
بجانب عمله صحفياً ومحرراً قديراً، كان فاروق لقمان كاتب عمود جذّاب كما رأينا في كتابه «عالم بلا حدود»، وكان أبوه في الخمسينيات يكتب عموداً بعنوان: «نحن من العالم». وينتمي فاروق لمدرسة كاتبي الأعمدة الذين يحاولون تقديم معلومة جديدة أو أكثر في كل عمود، ويحاولون أن يدهشوا القارئ ويمتعوه، والمعلومة بالنسبة إليهم تأتي في المقدمة، وإن كان فاروق يهتم أيضاً بوضوح اللغة والأسلوب كما نرى بشكل خاص في الفصل الرابع من هذا الكتاب.
ولا شكَّ في أنَّ هذه المذكرات الممتعة تضيف للمكتبة اليمنية معلوماتٍ قيّمةً، وللقارئ العربي أيضاً، وخصوصاً المهتم بعالم الصحافة. وهذه المذكرات صدرت، أو على وشك الصدور، تحت عنوان: «خمسون عاماً في الصحافة» عن دار «مدارك» وبجهد كبير من ابنة فاروق الصغرى الصحفية «يُمن». نسأل الله لفاروق لقمان الرحمة والغفران.