1,356 عدد المشاهدات
الكاتب: محمد أحمد السويدي – كاتب إماراتي
السيدة سو سيلر، امرأة في الثامنة والسبعين، دخلت مجلس الوالد، وكان يتقدّمها إرث يمتدّ لما يزيد على أربعة عقود من الزمن، شَعرها كلله البياض، وقامتها فقدت بضع سنتيمترات، وصوتها يستدعي المنجّم بيل سرّوبي للحضور، ووجهها الذي عملت به آلة الزمن، بلا كلل، يخبئ الكثير من القصص والأخبار. إنها السيدة «سو سيلر»، السكرتيرة التي عملت مع الوالد في لندن، قبل قيام دولة الاتحاد. استقبلناها اليوم في مجلس الوالد في لندن، وبدت لبرهة، كما لو أنها جاءت من كتاب قديم، أو كمن خرج من غيابة جبّ، بعد طول عهد بآخر لقاء جمعها بالوالد.
شعرت، وأنا أتطلّع إليها، بما كانت تقصده من مفردة المصادفات التي قادتها للعمل مع الوالد. إنها ضرب من المواقف التي تكرّرت في حياتها مرّات عديدة، وتلك المصادفات، هي التي صنعت هذه المرأة، وها هي تنتصب الآن بمجلس الوالد، وتنهض وفي صوتها أجيال من الحكايات التي لن أدعها تنفرط أو تنسرب مني، بل سأبادر إلى تدوينها والقبض عليها. أول تلك المصادفات، هو تقدمها للعمل إلى السيّد ألفريد جورج في شركة استشارات هندسية تعمل في أبوظبي، أشرفت على تجهيز أول مكتب تمثيليّ لإمارة أبوظبي في لندن، في يوليو 1968، وكانت من ضمن مرشّحين آخرين للوظيفة؛ بسبب شغفها بالعمارة، ولكنّها فوجئت بوظيفة ما خطرت لها على بال، وهو العمل لدى إمارة قيد النشوء، وأوّل اتحاد عربيّ قيد التشكّل. قالت: لمّا دخلت المكتب أوّل مرّة، لم يكن هناك شيء، لا آلة كتابة ولا أوراق ولا أقلام، ولا حتى مدير؛ هناك فقط بضع مزهريّات وتليفون يتيم.
مكتب أبوظبي في لندن
كان أوّل عهدها بالعمل، عندما التحقت بمتجر هارودز الشهير، وكان العاملون ملزمين بارتداء الملابس السوداء، والوقوف طوال ساعات العمل؛ لقاء أجر لا يزيد على ثلاثة جنيهات وثلاثة وثلاثين شلناً. قالت: بدأت العمل في محلات هارودز في السابعة عشرة من عمري، وكانت تلك أولى تجاربي، واستغرق العمل هناك قرابة أشهر ثلاثة. وذات مرّة، أعادوني إلى البيت لأنني كنت أرتدي حذاء أحمر. ولكنني تعلّمت من تلك التجربة؛ الصبر في المعاملة مع نماذج وأطياف شتى من الزبائن، يفيض بهم هارودز من مشارب مختلفة. كنت أصغي إليها، وأنا أفكّر أن عملها كان يشتمل على نوعٍ غير منظور من الترويض؛ كان عليها أن تصدّق تلك المقولة الحصيفة: الزبون على حقّ دائماً، حتى لو كان البائع من برج الأسد؛ مثل السيدة سو سيلر.
وكان عملها التالي في المكتب التمثيلي لإمارة أبوظبي، في مرحلة كانت فيها أبوظبي -ممثّلة بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «رحمه الله»- على وشك أن تقود مجموعة من الإمارات الصغيرة إلى اتحاد قويّ، في زمن قيادة تاريخية، انتقلت بالإمارة من الفقر إلى الغنى، وكان أن تقاطعت أثناء عملها مع أحداث كثيرة وشخصيات هامّة، جعلت -بصبرها ودأبها- أبوظبي؛ والدولة عموماً، على الصورة التي تبدو عليها الآن. عملت السيدة سو سيلر مع والدي بين عامي (1968 -1981)، في المكتب التمثيلي لإمارة أبوظبي، وبعد ذلك في سفارة دولة الإمارات، في 30 شارع برنسيس جيت، والتي تمّ شراؤها في عام 1970، قبل أن تترك العمل وتسافر في صحبة زوجها صوب نيوزيلندا. كان مبنى السفارة – كما قالت سو- يحتاج إلى صيانة كاملة؛ لأنه كان مهجوراً، وما كان إلاّ مَسكناً للحمَام. أما زوجها؛ السفير السابق جيم تريدول؛ سفير بريطانيا في أبوظبي (1968-1971)، فلقد قادتها إليه مصادفات من نوع آخر، مصادفات لا يقّدرها إلاّ من يحسن قراءة الأبراج. فلقد التقته أثناء عملها في المكتب التمثيلي ذاته لإمارة أبوظبي. ومنذ الوهلة الأولى؛ التي قدّم بها نفسه باقتضاب وتهذيب بالغين، شعرت أنه سيكون رجل حياتها. «إنّني مدينة لكم بالفرصة التي منحتموني»، قالت ذلك وهي تلتفت جهة الوالد، وأضافت: «لولاكم لما التقيت جيم؛ فهو لم يكن في سلوكه شبيها بالسلوك النرجسي الذي يظهر على رجالات الدبلوماسية، والعاملين في الخارجية البريطانيّة على وجه العموم، قبل أن تأتي ثاتشر وتنتف ريش الطواويس عن رجالات السلك الديبلوماسي»، على حدّ قولها. لقد كان الرجل في غاية من اللطف والكياسة والتهذيب، وعندما صار بمواجهتها قال بهدوء: «مرحباً سيدتي، أنا جيم تريدول».
الماضي الذي لا يشيخ
التقت السيدة سو سيلر بالوالد لآخر مرة عام 1996. وها قد مضى عقدان على ذلك اللقاء. ولكنها عندما حضرت اليوم، فإنها لم تشأ أن تصل دون أن تصطحب ذاكرتها معها، فحملت الصور هدية عن ذلك الماضي البعيد؛ الذي أعاد ترتيب حياتها الداخلية، سواء على المستوى الوظيفي أو العائلي. كانت صوراً تدّخر الكثير من الذكريات والأزمنة الجميلة والأمكنة الرائعة، بعضها تناول زيارة الوالد إلى رحيم يار خان في باكستان في يناير 1971، مع زوجها السفير جيم تريدول، للقاء الشيخ زايد، وصور مع الشيخ زايد، ومجموعة أخرى من الصور في المعرض الكبير في أوساكا باليابان 1970؛ وكانت لذلك اللقاء أهمية كبرى؛ بسبب أن اليابانيين كانوا يدركون على وجه اليقين، أنهم أمام المسؤولين الذين يمثّلون الآفاق المستقبلية لإمارة نفطية واعدة. لذا، فقد نظّم مديرو الشركات النفطيّة في اليابان، لقاء للوالد ومرافقيه، مع رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة ووزير الماليّة وغيرهم، كما اشتملت المجموعة على صور تعود إلى عام 1969، تجمع زوجها بالشيخ زايد، وأخرى للشيخ محمد بن خليفة ولعبد الرحيم المحمود، والسير وليم روس، وجفري آرثر، القنصل المقيم في البحرين. قالت سو؛ وهي تسمّي الأشخاص في الصور بأسمائهم: «لقد شِخْت، وما شاخت الذاكرة». وكان هناك صور لعلي الشرفاء، وصور لخلف العتيبة وهلال المنصوري، وللوالد مع أحمد المسعود، وأخرى للوالد مع جيشا (يابانيّة) عجوز. كان الوالد يتفرّس في الصور، وعندما بلغ الصورة التي تجمعه بالجيشا اليابانيّة، قلت: كلّما كانت الجيشا أهرم، كانت -على حدّ زعمهم- أفخم. وإذا أراد اليابانيون أن يبالغوا بإكرامك، فإنهم يحيطون حضورك بكوكبة من الجيشا. وتذكّرتُ أن موقفاً مماثلاً حدث معي أثناء زيارة رسمية لليابان، وكنت رئيساً للوفد. قالت سو سيلر: وزار الشيخ زايد مكتبنا في بوند ستريت، وذهب بعد ذلك في رحلة صيد مع ابنه الشيخ خليفة إلى إسكتلندا، وأقام في قطار معدّ له هناك. سألها الوالد عن زوجها جيم، فأطرقت لحظة قبل أن تقول: لقد تُوفِي قبل خمس سنوات، ولو عاش لكان بلغ الآن الخامسة والتسعين. لقد مرض في آخر عامين، وتولّيت رعايته حتى وفاته.
كان لتلك الصور وما استدعته من ذكريات وحالات؛ أثر بالغ في استعادة الوالد للكثير من الذكريات القديمة، وأراد أن يلاطفها؛ فقال: كان الرجال في رحلة باكستان معجبين بك يا سو. فقالت وهي تبتسم: نعم، فلقد كنت أغطّي ذراعيّ، ولكنني في الوقت ذاته أرتدي فستانا قصيراً. ثم أردفت ضاحكة: لعلّهم كانوا معجبين بركبتيّ. ثم كان الحديث عن زوجها؛ مناسبة لاستدعاء أحد الأحداث التي سردها بما يقتضيه الموقف من دعابة، فلقد اقترح عليهم زوجها جيم؛ زيارة مدينة كجرات في باكستان، قائلاً لهم: «ستشاهدون فيها أجمل ما في باكستان». قالت: «وقصدنا كجرات مسترشدين برأي جيم، وإذا بنا لا نرى أو نصادف إلا المنقَّبات من النسوة، فالغالب على نساء كجرات، أن يكنّ من رهينات البيوت، فلا يكدن يخرجن إلاّ للضرورة».
حديث الذاكرة
ثمّ انتقلنا مع سو والوالد إلى طاولة الطعام؛ التي كانت تزخر بأصناف مختلفة من الأطباق، ومختلف الأسماك، وبسلطة أعدّها السيّد بو وطفة، دسّ فيها البلسمك – خل إيطالي – مع دبس التفاح، فسألت سو: أيّ مطبخ من مطابخ العالم تفضّل؟ فقالت فوراً: أحب الأسماك، وخصوصاً تلك التي بلا حسك. فعرفت أنّ الوالد أمر لها بما تشتهيه نفسها وما تحبّه. وبعد أن انتهينا من وجبة الغداء، تناولنا القهوة والشاي؛ فتحدّثت سو قائلة: إنها دخلت مكتب تمثيل أبوظبي الكائن في 72 نيو بوند ستريت لأول مرّة، قبل 47 سنة، وكان مقفراً، إلا من هاتف بدا وحيداً في ذلك اليوم. ولم تكن قد التقت بعد بمديرها، السيد أحمد العبيدلي، فلقد كان في أبوظبي. لقد كان ذلك المكتب جزءاً حقيقياً وراسخاً من تاريخ أبوظبي، قبل أن تنضج فكرة الاتحاد، ولقد زاره الشيخ زايد عام 1968. وفي العام التالي، وصل الشيخ زايد في أوّل زيارة رسمية لبريطانيا، وأقام في ذلك الحين في جناح أوليفر ميسر في فندق «الدورشستر». كان المكتب يتعامل مع كلّ متطلبات حكومة أبوظبي، ويتابع شؤون الزوّار والطلاّب والمرضى والجيش، وازدادت إثر ذلك وتيرة التوظيف، فالتحق كثير من الموظفين الجدد بالمكتب. كان أمد زيارته الرسمية ثلاثة أيام (الخميس- السبت) يوليو 1969، قبل أن تمتدّ لتصبح ثلاثة أسابيع. في اليوم التالي (الجمعة) على الزيارة، دعت الملكة إليزابيث، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان، والشيخ حمدان بن محمد والوالد، إلى مأدبة غداء، يقابلهم على الجهة الأخرى من المائدة الملكية: الملكة إليزابيث، وزوجها فيليب، والأميرة آن. واختتمت الزيارة بمشاهدة «ترووبنج أوف كولور»، أي استعراض الألوان، وهو عرض للحرس الملكي، يقام بمناسبة عيد ميلاد الملكة. وكان اللقاء قد اكتسب هذا المستوى من الأهمية؛ لما تمثِّله أبوظبي من قوة اقتصادية؛ بسبب حجم العائدات النفطية التي ترِد من الإمارة. كان الوالد والسيدة سو سيلر، يتناوبان سرد حديث الذاكرة، عندما توقفت لبرهة؛ وهي تستعيد أمراً لطالما كانت تواجهه كلما أرادت أن تستخرج «فيزا» زيارة للوالد، فلقد كان تاريخ ميلاده يشير إلى عام 1937، وهو عام ميلادها ذاته، وكانت كثيراً ما تسأل: كيف حدث أن تكوني بعمر مديرك يا سو سيلر؟ ثم سألت الوالد إذا كان عام 1937 هو عام ميلاده، فرد الوالد وهو يحتفظ بابتسامة: وكيف تريدينني يا سو أن أكون متأكداً من السنة، وأنا مولود في خيمة بمدينة العين؟.
وفي فترة التأسيس من تاريخ الإمارة، أرسل الوالد إلى القاهرة معالي محمد حبروش وزير الدولة في أبوظبي، ليقدِّم طلباً لانضمام الإمارات إلى جامعة الدول العربية، ووافقت الجامعة في اجتماع مغلق على انضمام الإمارات إلى عضويتها، في 7 ديسمبر 1971، وقد أصبحت بذلك العضو الثامن عشر بالجامعة.
وفي أول زيارة للأمم المتحدة، أوفد المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان، وفداً مكوناً من السادة عدنان الباجه جي وأحمد العبيدلي ومحمد بن عبد اللطيف (من مكتب القصر)، والسيدة سو سيلر كسكرتيرة، لتقديم طلب انضمام للأمم المتحدة، وتمّ يومها التصويت على طلب دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، وتم إعلان قبول عضويتها في منظمة الأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1971، ورقم العضوية 132، وكان يُو ثَانت البورمي (U Thant) 1961-1971؛ هو الأمين العام في ذلك الحين.
ثم قالت سو بمرارة ظاهرة: عندما آن التقاط صورة تحت علم الإمارات خارج مبنى الأمم المتحدة، وتجمَّع الوفد مع الأمين العام، لكم تمنيت أن أكون في ذلك المشهد التاريخي.
وفي الزيارة التالية في سبتمبر 1972، كان الوفد برئاسة الوالد، الذي ألقى خطبة عصماء باللغة العربيّة في مبنى الأمم المتحدة. والتفتت إليّ السيدة سو لتقول؛ وهي تحاول أن تشدّد على كلّ حرف: لو كنت قد سمعتها يا محمد؛ لشعرت بالزهو فخراً على جميع المندوبين، من روعة كلمة والدك. وتذكر سو أنّ نوّاف ذياب خرج مع الوالد وعبد الرحيم المحمود والسيدة فروكا هيردباي في العطلة الأسبوعيّة، لجولة مذهلة في اللونج آيلاند، التي يعرفها جيّداً. وتجدر الإشارة أن هذه الكوكبة من الشباب العاملين في دولة الإمارات الوليدة، كانت لهم جهود مشكورة في إنجاز أعمالهم على خير وجه، وقد أبلوا بلاءً حسناً في أداء واجباتهم، تحت القيادة الحكيمة للشيخ زايد وأركان دولته.