قصة أول طابع بريدي يتم سحبه من التداول في الإمارات

block-2 مجلة مدارات ونقوش – العدد 14

 2,845 عدد المشاهدات

الكاتب: د. معتز محمد عثمان

 

بتاريخ 1 ـ 1 ـ 1973 طرحت الهيئة العامة للبريد في دولة الإمارات العربية المتحدة، المجموعة الأولى لها، والمكونة من 12 طابعاً بريدياً، تتناول مجموعة من الصور التي جسدت الاتحاد بين مختلف الإمارات، إضافة إلى شعار الدولة الرسمي وصورة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، باني الاتحاد، طيَّب الله ثراه، ولكن إلى جانب اهتمامهم بروعة الاختيار والنجاح في التصميم، وإبراز اللوحات التي تجسد روح الاتحاد، فإنه حدث أن طُبِعَت صورة لأحد الحصون على أحد هذه الطوابع، سهواً، وسُعِّرَ بقيمة (درهمين)، وتمَّ تعريف هذا الحصن خطأ، ما أدى إلى سحبه من التداول بعد التأكد من عدم صحة الاسم المعرَّف به، ولم تقم الهيئة بإرفاق تعميم يشرح سبب السحب وموطن الخطأ، لكي تتضح الصورة للهواة والمهتمين بمعرفة الأسباب وراء عملية السحب، وتمَّ الاكتفاء بوضع نبذة بسيطة عن هذا الموضوع في الصفحة الرئيسة لبريد الإمارات كالتالي:

«كانت المجموعة الأولى تتكون من (12) طابعاً تحمل معالم مختلفة من الدولة كان أبرزها الطابع الثاني عشر في هذه المجموعة، والذي كان يمثل إمارة أم القيوين، فقد سحب من التداول بسبب خطأ فني في الطابع، وهو يباع حالياً بقيمة عالية بسبب هذا الخطأ الفني». ويلاحظ هنا عدم شرح وتفسير نوعية هذا الخطأ الفني وموقعه بالتحديد، وهل هو في صورة الحصن نفسها أم في اسم الحصن.

 

أول طابع بريدي

اهتمام متزايد

تُرك الموضوع من دون شرح وافٍ، فكان منطقياً أن يأتي وقت يُفتح فيه هذا الموضوع من جديد، خصوصاً بعد تزايد أعداد المهتمين بجمع الطوابع، ولأنه من المنطقي عندما يتم طرح هذا الاستفسار عن سبب السحب، وجب أن تكون هناك إجابة، ولهذه الأسباب مجتمعة طُرِحَ السؤال، وكان لا بدَّ من الإجابة عنه، ولكن الإجابات كانت متضاربة وغير حاسمة لهذا اللبس، نظراً لأسباب عدة حسب رأينا:

1- الجهة المسؤولة عن تصميم هذا الطابع والتي وضعت تعريف اسم الموقع لهذا الطابع لم تقم بالتوضيح.

2- التشابه الكبير بين معظم قلاع وحصون الدولة، حيث إنها تقوم على غاية وهدف واحد، ألا وهو الحماية والتحصين ضد الأعداء، ولذلك كان هناك شبه إجماع على أنه حصن عجمان الشهير.

3- التغييرات والترميمات الكثيرة والمراحل التي مرّت بها معظم القلاع في الدولة أسهمت في اختفاء معالمها وأشكالها الهندسية الأصلية بطريقة كبيرة، وهو ما اعتمد عليه المصمم آنذاك، ما أدّى إلى صعوبة الجزم في هذا الشأن.

4- عدم وجود معلومات أو توثيقات لدى الأرشيف الخاص بتلك المتاحف آنذاك، بقيام الهيئة باختيار صور لمتاحفهم لوضعها على بعض طوابع هذه المجموعة.

5- عدم المعرفة والتأكد من قيام المصمم باستخدام صورة مطابقة للواقع أو القيام بعملية دمج وتركيب أو من الزاوية التي تمَّ التقاط صورة الحصن منها.

6- أدّى اعتماد آراء الكثيرين الذين اتفقوا على تحديد الحصن، نظراً للتشابه الكبير مع الحصن الذي هو حالياً متحف عجمان، حيث تداول ذلك الرأي كثير من الجرائد الرسمية والمنتديات والمواقع التراثية، إلى الاعتقاد أنها صحيحة وأكيدة.

المعلومة الصحيحة

دون الخوض كثيراً في هذه الأسباب، قمنا بمحاولة بسيطة للوصول إلى أدق وأقرب صورة تقودنا إلى المعلومة الحقيقية الصحيحة، وذلك بناءً على رغبة مجموعة من المتخصصين في هذا المجال الذين لهم رؤية ومتابعة دقيقة له، فاتخذنا بعض الخطوات التي نراها ضرورية ومعتمدة في أصول إجراء هذا النوع من البحوث البسيطة، وكانت كالتالي:

الخطوة الأولى (زيارة ميدانية لمتحف عجمان):

 قمنا أولاً بزيارة لمتحف عجمان والتقاط مجموعة صور لهذا الحصن الشهير الذي اتفقت مجموعة كبيرة، وأنا من ضمنهم، على أنه «الضالة المنشودة»، أي أنه هو الحصن المعني في الطابع، وكانت خطوة أولى ستتم مقارنتها مع الهدف الثاني في الاختيار (حصن أم القيوين) وكانت الصورة كالتالي:

يلاحظ هنا التشابه بين الصور القديمة لمتحف عجمان وصورة الطابع المقصود، والعجيب في الأمر أنَّ الصورتين تظهران بوضوح شكل السقف المصنوع من جذوع الأشجار، وكذلك درجة ميلان سارية العلم، وأمّا بخصوص الاختلاف في الفتحات الأفقية واختلاف لون الجدار الملاصق، فقد يعزى الأمر لأعمال الترميم أو لإضافات حديثة للبرج.

صورة قديمة وموثقة لحصن عجمان، والتي أخذت من متحف عجمان لتوضيح مراحل التغيرات والإضافات للشكل العام للحصن؛ لأنَّ يد الترميم والصيانة كانت تطولها بين الحين والآخر، والتعديلات في استخدام هذا الحصن كما تمَّ توثيقه في أرشيف المتحف.

بعض الصور الحديثة للحصن بعد تحويله إلى متحف ويمكن ملاحظة التغييرات الكبيرة والجوهرية على الشكل العام للحصن، والإضافات الكبيرة التي قامت بها إدارة المتحف على هذا الحصن خلال عدة مراحل على مر الزمن.

 

صورة نادرة جدا وهي أقرب صورة في مجموعتنا لهذا البحث، حيث توضح مدى التقارب والتطابق المطلوب

الخطوة الثانية (مقابلة مدير متحف عجمان):

قمنا أولاً بالحصول على مجموعة من الكتب وبعض المنشورات من متحف عجمان لكي ندعم هذا البحث بوثائق رسمية ومن جهات رسمية، كما طلبنا مقابلة بعض المسؤولين عن هذه المتاحف، وقد وفقنا في لقاء الأستاذ علي سعيد المطروشي، مستشار التراث والتاريخ المحلي بدائرة التنمية السياحية، مدير متحف عجمان، والذي قدَّم لنا كلَّ الدعم والمساعدة، حيث قمنا بطلب تأكيد هذا الموضوع منه، فكان الردُّ صريحاً وواضحاً بأنه لا يوجد لديهم في أرشيف المتحف أي شيء يدل على قيام إدارة البريد بأخذ صورة للمتحف، وبعد إطلاعه على الصورة أكد لنا أنه لا يتطابق مع متحف حصن عجمان.

الخطوة الثالثة (زيارة ميدانية لمتحف أم القيوين):

الاتجاه مباشرة لمتحف أم القيوين والتقاط مجموعة من الصور من عدة زوايا لهذا الصرح التراثي الشهير، لكي نضمها للمجموعة، وبعدها نقوم بإجراء المقارنات لمعرفة أوجه التشابه بينهما وكانت الصور كالتالي:

يمكن ملاحظة أوجه التشابه الكبيرة هنا بين حصن أم القيوين وصورة الطابع المقصود، والتي سنطلق عليها العلامة المميزة.

هنا نجد الصورة التي تفصل في الموضوع وهي عبارة عن الدليل القاطع لحل هذا اللبس، حيث يلاحظ وجود شباك صغير وفوقه ثلاث فتحات، وهو ما يُعدُّ علامة مميزة لهذا الحصن، والتي لم توجد في أي من الحصون الباقية، كما تُقَدِّم لنا هذه الصورة النادرة إجابة واضحة لسبب اختفاء الشبابيك الخمسة الكبيرة، والأربعة الصغيرة الأخرى، وذلك بسبب الترميمات والتغييرات التي حدثت في مراحل لاحقة، ولكن تمَّ الإبقاء على العلامة المميزة كما تمَّ شرحه.

الخطوة الرابعة (مقابلة مديرة متحف أم القيوين):

حصلنا على مجموعة من الكتب والمنشورات من متحف أم القيوين، دعماً لبحثنا، ثمَّ قابلنا الأستاذة علياء محمد الغفلي، مدير متحف أم القيوين – دائرة الآثار والتراث، والتي قامت بالترحيب بنا مشكورة وأبدت لنا شكرها الجزيل على الاهتمام بتلك المواضيع التي توثِّق تاريخ دولتنا الحبيبة، وبعد عرض الموضوع عليها وعرض صور الطابع، قمنا معاً بمقارنة ما يحتويه أرشيف المتحف من صور قديمة قبل الترميم، وحصلنا على عدة صور قديمة ونادرة أكَّدت لنا أنَّ هذا الحصن ليس حصن “فلج المعلا” وإنما هو الحصن الذي تحوَّل لهذا المتحف، والبرج يسمّى “برج المنشر” والحصن هو “حصن أم القيوين”.

الخطوة الخامسة (زيارة ميدانية إلى فلج المعلا)

فلج المعلا، وهي منطقة تبلغ مساحتها نحو 10 كيلومترات مربعة، وتقع في المنطقة الشمالية، على بعد 50 كم من إمارة أم القيوين، واشتهرت على مدى مئات السنين بالنخيل، حتى إنَّ البعض أطلق عليها واحة النخيل لكثرة نخيلها، وقد ذُكِرَ أنَّ اسمها (فلج المعلا) مشتق من الفلج، الذي يعني مجرى الماء، لكثرة المياه التي تجري بها سواء التي تنبع من باطن الأرض، أو القادمة من أعالي الجبال، وتجري بعد ذلك في جداول، أمّا المعلا فهو اسم العائلة الحاكمة لإمارة أم القيوين، والتي سكنت تلك الأرض منذ قرون عدة.

وكان لا بدَّ من البحث عن أيِّ تشابه بين صورة الطابع وهذا الحصن في فلج المعلا، وكانت النتيجة واضحة ولا تدعو إلى الشك، وهي بأنه لا يوجد أي حصن أو برج في فلج المعلا يتشابه ولو من بعيد مع صورة الطابع، وقد قمنا بالتقاط مجموعة من الصور، ولكن لم يكن بينها ما نبحث عنه، لأنه لا يوجد أي تشابه بينهما وبين الصورة في الطابع لا من قريب ولا من بعيد، واستمر البحث في أرجاء منطقة فلج المعلا عن حصون أخرى وبعد الجولة والمعاينة التي استمرت حتى ساعات متأخرة من الليل، لم نحصل على أي شيء، إضافة إلى حصولنا على قائمة رسمية وموثقة من دائرة الآثار والتراث من أم القيوين لجميع أبراج فلج المعلا وهي كالتالي:

(برج الصنابي أو برج يوله + برج الشمالي + برج بن حليس + برج الوسطاني + برج الشريعة)، ومعظمها أبراج صغيرة الحجم ومنفصلة وهي بعيدة كل البعد عن ضالتنا، ولذلك لم نجد أي شيء يتصل بموضوعنا في فلج المعلا، وهذا يؤكِّد الخطأ في الاسم، أي في الموقع المكاني للحصن المطلوب، وبذلك يتم استبعاد حصن فلج المعلا.

أخيراً حصن فلج المعلا (حصن الفلج كما ورد ذكر اسمه بالخطأ تحت الطابع):

ولكي نلقي الضوء على المحور الثالث في هذا الخطأ، والذي يعدُّ السبب الرئيس في هذا اللبس، حيث كُتِبَ تحت هذا الطابع حصن الفلج، ما دفعنا إلى التحقُّق من هذا الموضوع والتوجُّه إلى حصن فلج المعلا: يقع حصن فلج المعلا في واحة فلج المعلا والذي يعدُّ مصيفاً لأهالي الإمارات في الماضي، حيث تكثر فيه زراعة النخيل والخضراوات ويتكوَّن هذا الحصن من بناء مربع الشكل ذي برجين؛ أحدهما في الجهة الشمالية الشرقية والآخر في الجهة الجنوبية الغربية، وقد بني هذا الحصن من الحجارة البحرية، والتاريخ الموثق في أرشيف دائرة الآثار والتراث للبناء هو عام 1800م، بأمر من الشيخ عبدالله بن راشد الأول – رحمه الله، الذي حكم إمارة أم القوين من 1800.

صورة قديمة لبرج حصن فلج المعلا من الأرشيف مع صور حديثة بعد أعمال الترميم والصيانة، وتَظهر التعديلات في الشكل الهندسي الخارجي العام لهذا الحصن الشهير.

وهنا تَظهر الصورة وبوضوح عدم وجود أي تشابه مع صور الحصن الموجود في الطباعة لا من بعيد ولا من قريب، ولذلك علينا استبعاد هذا الافتراض تماماً، وتأكيد وجود هذا الخطأ في الاسم أسفل الطابع، حيث تتضح الصورة جلية بأنه عبارة عن خطأ من المصمم، وبالأخص من المدقق والشخص المسؤول عن مراجعة هذه المجموعة، وعدم قيامه بالمراجعة الصحيحة لهذا الموضوع قبل إعطاء الضوء الأخضر لإصدار أمر الطباعة، وهو ما عدَّه بريد الإمارات خطأ فنياً في الطابع.

صورة قديمة لبرج حصن فلج المعلا من الأرشيف مع صور حديثة بعد أعمال الترميم والصيانة، وتظهر التعديلات في الشكل الهندسي الخارجي العام لهذا الحصن الشهير

النتيجة النهائية للبحث:

بعد كل هذه المعطيات والحقائق والصور والمقابلات والمقارنات، نحمد الله على الوصول إلى نتيجة نهائية واضحة وجلية، وبكل ثقة، في اعتماد الرأي الذي يرجح أنَّ هذا الطابع المسحوب من التداول هو لحصن أم القيوين، وأيضاً بعد طرح كل هذه المعطيات والحقائق والصور النادرة، وهذا بلا أدنى شك، فالخطأ كان في كتابة “حصن الفلج” بدل “حصن أم القيوين”.

والآن نقول إنَّ هذا ما حاولنا التحقيق حوله والوصول إليه، ولكن يبقى المجال مفتوحاً للجميع لمزيد من التحقيقات؛ لأنَّ كلَّ الآمال لن تصلَ إلى حدِّ الكمال الذي اختص الله سبحانه وتعالى نفسه به.

أتمنّى من الله أن نكونَ قد وُفِّقْنا في هذا البحث البسيط والمتواضع ولو بالقدر القليل، وأن نجتمعَ دوماً على دروب الخير، وأن تعمَّ الفائدة على الجميع، وأن تستمرَّ محاولات توثيق جزءٍ ولو كان بسيطاً من تاريخ دولتنا الحبيبة.

 

* باحث وكاتب ومحكِّم قانوني، مؤلف كتاب تاريخ عملات الإمارات، وكتاب تاريخ طوابع الإمارات، وكتاب التاريخ البريدي للإمارات.