قصر الحصن عنوان نفوذ بني ياس في أبوظبي

Business مجلة مدارات ونقوش – العدد 9

 5,112 عدد المشاهدات

الكاتب: خليل البري

 
 

يعدُّ قصر الحصن، الذي شُيّد في أبوظبي سنة 1793، قلعةً عسكريَّةً مهمّةً من قلاع التاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي في الإمارات، وقد كان عنواناً لنفوذ قبائل بني ياس في إمارة أبوظبي، فعلى مدى قرنين من الزمن كان هذا الحصن الملاذَ والمنزلَ ومقرَّ الحكم والإدارة لحكّام آل نهيان، حكّام أبوظبي، وهم من آل بو فلاح الذي ينحدرون من بني ياس.


حلف بني ياس
تعدُّ قبيلة بني ياس من أضخم القبائل في الدولة وعلى ساحل الخليج العربي، وقد قُدِّر عددُ أفراد بني ياس في أوائل القرن العشرين بنحو خمسة عشر ألف فرد. ومن المعتقد أنها حديثة الوجود نسبيّاً في أراضي الظفرة، ولا سيّما منطقة ليوا، وقد وفدت من قلب الجزيرة العربية في أواسط القرن السابع عشر. وتتألّف القبيلة في الحقيقة من حلف من العشائر الصغيرة التي يزيد مجموعها على خمس عشرة عشيرة، وقد خضعت لزعامة عشيرة آل بوفلاح التي كانت تمثّل «القلب البدوي المحارب» في القبيلة، وعلى الرغم من أنَّ المنطقة الأصلية التي استقرت فيها هذه القبيلة، قبل أن تنضمَّ إليها العشائر الأخرى، هي منطقة الظفرة -ولاسيما موضع الحمرة- فإنَّ سهولة تحركها على رقعة واسعة من المنطقة بطبيعتها البدوية قد مكَّنت زعيمها الأول نهيان من مدِّ نفوذه في جهات واسعة من المنطقة، واستطاع حفيده ذياب بن عيسى أن يتوغّل بقبيلته إلى الجهات الساحلية ويستقر في أبوظبي بعد اكتشاف الماء فيها عام 1761، وهكذا سيطرت هذه القبيلة بمجموعة العشائر التي انضمّت إليها، والعشائر التي أصبحت تابعة لها على جميع أراضي إمارتي أبوظبي ودبي، وارتبطت معها القبائل بروابط التضامن السياسية تحت لواء زعامة واحدة. ومن أبرز مجموعاتهم آل بوفلاح وهم يمثّلون القلب بين عشائر بني ياس، ويتألّفون من بطون عدة أبرزهم آل نهيان، حكّام إمارة أبوظبي.
وآل بوفلاسة، وهم شركاء آل بوفلاح على زعامة الحلف، وينحدر منهم آل مكتوم حكّام دبي، وقد انتقلوا إلى دبي عام 1833 وأسَّسوا لهم إمارة مستقلة بزعامة آل مكتوم.
وللقبيلة من السّمت الحسن والأخلاق الحميدة التي لا تزال موجودة عند أهلها شيوخاً وعامة، فهم أهلُ الكرم والأدب والشجاعة والنبل، والذي يخالطهم يعرف ذلك، فهم ليوثٌ وُلِدوا على ظهور الخيل وتوسَّدوا أحلاسها وتمرَّنوا على مراسها.

 
زايد الأول مع أبنائه وأعيان القبائل
زايد الأول مع أبنائه وأعيان القبائل
 
 
 
 

نشأة أبوظبي
ترجع أول إشارة نعلمها اليوم عن بني ياس في واحة ليوا إلى سنة 1633، أيام دولة اليعاربة، وذلك في المخطوطة العمانية القديمة «كشف الغمّة الجامع لأخبار الأمّة» للمؤرخ سعيد بن سرحان.
ويعود اكتشاف منطقة أبوظبي لهجرة أفراد القبيلة نحو مدينة أبوظبي من واحة ليوا وذلك منذ عام 1761، واستطاع ياس وأبناؤه بناء نحو 20 بيتاً في المنطقة.
وذات يوم من عام 1769 كان رجلٌ ذو شأن من قبيلة بني ياس يجوب جزيرة مهجورة بحثاً عن الماء وإشباع هواية القنص التي استحوذت على عرب الخليج والجزيرة العربية، وبينما هو ماضٍ في رحلة البحث إذا بظبي يظهر أمامه فجأة؛ فصوّب الرجل سلاحه إليه فأرداه جريحاً في مكانه، وعندما اقترب منه اكتشف منبعاً عذباً للماء، فعاد الرجل إلى قومه فرحاً، وكان يوماً من الأيام المجيدة.
ومنذ ذلك الوقت أطلق شيخ قبيلة بني ياس اسم أبوظبي على هذه الجزيرة، وأعلن تحريم الدخول إليها والدفاع عنها من الغزاة.
وكثر عدد سكان أبوظبي وزاد البناء بها، وأصبح نحو 400 بيت، ولكن ظلَّ شيوخ آل بوفلاح يديرون شؤون الحكم من واحة ليوا في الداخل، حتى اتخذ الشيخ شخبوط بن ذياب سنة 1793 من مدينة أبوظبي عاصمة له، وأسَّس قصر الحصن، الذي أكَّد هيبة الكيان السياسي الجديد في المنطقة.
وكان أول نواة لاستيطان الجزيرة في عهد الشيخ عيسى بن نهيان، الذي استطاع جمع بني ياس تحت لوائه، وهو بذلك تمكّن من إنشاء أول كيان سياسي في أبوظبي، بينما يعدُّ ابنه الشيخ ذياب المؤسِّس الحقيقي لجزيرة أبوظبي، ورغم هذا لم يقم فيها، وكان عادلاً في تصريف الأمور، واتخذ مقرَّ إقامته في سهل الحمرة الذي يقع إلى الشمال من أرض الظفرة، وكان يأتي إلى أبوظبي ليطّلعَ إلى أحوال السكان، ولِيُنْهِيَ الخلافات الواقعة بينهم، ولم يدم حكمه طويلاً، وتوفى في وقت كان فيه آل بوفلاح في حاجة إلى الهدوء والاستقرار.
وتولى الشيخ شخبوط الحكم خلال الفترة من 1793 إلى 1816 وكان من طراز الزعماء ذوي الأفق الواسع، وفي عهده تأكَّدت زعامة آل بوفلاح على بني ياس.
ونقل مقرَّ حكمه من ليوا في الداخل إلى المدينة التي بدأت تتشكّل في جزيرة أبوظبي، وفي عهده نشط الصيد والغوص وازدادت الخيرات، وامتد نفوذ بني ياس شمالاً عبر الساحل من أبوظبي حتى دبي، وشرقاً حتى واحة البريمي، التي تسكنها قبيلتان هما الظواهر والنعيم.


عنوان القوة

وخلال هذه الفترة المهمّة من تاريخ أبوظبي، كان الحصن رمزاً لحكم زعماء آل نهيان، كما شهد معالم النهضة السياسية والاقتصادية التي جرت في الإمارة، حيث عاش شيوخ عديدون من آل بوفلاح في القصر، ومارسوا الحكم منه منذ عام 1795 حتى عام 1966، وكان مركزاً للقوة، كما يعدُّ ظاهرة سياسية واقتصادية في تاريخ المدينة، وخلف أسواره اتُّخِذَت أهمُّ القرارات المتعلقة بالإمارة ونفوذها. 
وعود إلى تسلسل الحكّام، ففي عام 1816 ترك الشيخ شخبوط أمر الحكم لابنه الشيخ محمد بن شخبوط، إلا إنَّ الشيخ محمد لم يستمر طويلاً في الحكم، حيث تولي أخوه الشيخ طحنون الحكم في عام 1818، وتمَّ هذا بموافقة الشيخ شخبوط بن ذياب والدهما وبقية قبيلة بني ياس.
وكان الشيخ شخبوط موافقاً على هذا التصرّف، شأنه شأن معظم قبيلة بني ياس، وكان الشيخ طحنون ذا شخصية قوية نشطة محبة للعمل، وصارت أبوظبي في عهده من القوى المهمَّة في ساحل عمان، وكان موضع تأييد بني ياس، واشتهر عن الشيخ طحنون وقوفه إلى جانب الحق؛ ولهذا أحبّته قبيلته، واستطاع الشيخ طحنون تكوين جيش قوامه 400 جندي، وعند وفاته في إبريل 1833 كانت أبوظبي إمارة تمثّل قوة سياسية وحربية كبيرة في جنوب شرق الجزيرة العربية.

 

وتولى حكم أبوظبي بعده أخوه خليفة بن شخبوط، ودام حكمه من 1833 – 1845، وقبل توليه مرت على أبوظبي فترة مضطربة من الصراع بينه وبين أخيه الشيخ سلطان، حيث إنهم تولوا في البداية الحكم معاً، إلى أن استطاع الشيخ خليفة أن ينفرد بالحكم وحده. 

 
زايد الأول في مجلسه أمام قصر الحصن في صورة بعدسة الرحالة بورخارت التقطت 7 فبراير 1903
زايد الأول في مجلسه أمام قصر الحصن في صورة بعدسة الرحالة بورخارت التقطت 7 فبراير 1903
 
 

 

وفي زمانه عاشت أبوظبي عصرا زاهياً لم تكن قد عاشته من قبل، وفي هذا الصدد يقول لوريمر في كتابة «دليل الخليج»: «فقد كان حكمه لأبوظبي حكماً جيداً، واستطاع بجرأته وحزمه وثباته أن يرفع أبوظبي إلى مكانة لم تكن لها قبله».

وتولى الشيخ سعيد بن طحنون حكم البلاد خلال الفترة ما بين 1845 و 1855، وطوال هذه السنوات تواترت على أبوظبي سنوات قاسية في مواجهة الأخطار الأجنبية، لكنه استطاع الدفاع عن حقوق بلاده وصيانة أراضيها، تماماً كما كان آباؤه من آل نهيان، واشتهر الشيخ سعيد بقوته وصلابته؛ حيث كان قوي الشكيمة، واستطاع بحكمته أن يستميل القبائل إلى جانبه.


زايد الكبير

في يونيو سنة 1855 اختارت عائلة آل نهيان الشيخ زايد بن خليفة، وكان شاباً في العشرين من عمره لحكم الإمارة خلفاً لابن عمه الشيخ سعيد بن طحنون، وقد حالفه توفيق كبير من الاستقرار والهدوء والتلاحم بين القبائل، ووصف المؤرخون الشيخ  زايد بالحكمة وسداد الرأي والجلد والهيبة، وبفضل هذه الصفات الحميدة فهم الشيخ  زايد المتغيرات السياسية، وساعده هذا على الاستمرار في الحكم منذ عام 1855 وحتى 1909 .
واستطاع بحنكته ودرايته أن يذلّل العقبات، ويتخطّى الصّعاب بإقامة علاقات الصداقة بين بني ياس والقواسم، وبدأ عهداً من السلام والتعاون معهم، كذلك تعاون الشيخ زايد الكبير مع آل مكتوم في دبي، واتجه ببصره نحو البريمي، ووطَّد نفوذه فيها، واستطاع بأفقه الواسع أن ينهي هجرة القبيسات خارج أبوظبي؛ إذ سمح لأفرادها أن يرجعوا وأعاد إليهم كلَّ ممتلكاتهم.
وتوطّدت في عهده العلاقات التقليدية بين أبوظبي وعمان، وتمَّ تبادل الزيارات بين الحكّام، وذكر السيد «برسى كوكس» في مذكراته الصلاحيات الواسعة للشيخ زايد الكبير بقوله: «لقد ظلَّ زايد بن خليفة حتى اليوم الأخير من حياته في عام 1909 يحتفظ بصلاحيات مطلقة لم تتعرض للتحدي في السنوات الثلاثين الأخيرة من حكمه».
وعلى صعيد الإصلاحات، شهد مجتمع أبوظبي خلال عهده الطويل تطوراً ملحوظاً في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد انتعشت التجارة وشهدت الزراعة توسعاً ملموساً.
وبنى الشيخ زايد الكبير قلعة الجاهلي المهيبة في العين عام 1898، وهي تعدُّ تحفةً أثريَّةً عظيمة مازالت قائمة حتى الآن.
وتوفى زايد الكبير في عام 1909، وترك شؤون إمارة أبوظبي، وهي مثالٌ للأمن والنظام، أمانةً في أيدي أبنائه وأحفاده من بعده.
حين وفاة الشيخ زايد بن خليفة اتفق في مجلس عائلة آل نهيان على أن يخلفه ابنه الأكبر الشيخ خليفة الذي كان يمتاز برجاحة عقله، واتساع أفقه، وشخصيته القوية مثل أبيه، كما أنه ينتمي من ناحية أمه إلى المناصير في ليوا، لكن الشيخ خليفة لم يقبل أن يخلف والده، فاستقرَّ الرأي على اختيار الشيخ طحنون، الابن الثاني للشيخ زايد الكبير، لتولى الإمارة.
ولم يستمر حكم الشيخ طحنون بن زايد سوى ثلاث سنوات، من عام 1909 إلى عام 1912، وقد نعمت إمارة أبوظبي في عهده برخاء اقتصادي لا مثيل له؛ إذ شارك أهل أبوظبي مشاركة كبيرة في أعمال الغوص بالخليج بحثاً عن اللؤلؤ، وكان لهم حينئذ من المراكب العاملة في هذا النشاط الحيوي أكثر من 410 مراكب، ويقدر عدد العاملين عليها من أهل أبوظبي في ذلك الوقت بنحو 20% من عدد الغواصين في الخليج كله، كما أصبحت جزيرة دلما، التابعة لإمارة أبوظبي، مأهولة بالسكان بصورة مكثفة.
عند وفاة الشيخ طحنون بن زايد عرض حكم إمارة أبوظبي على الشيخ خليفة بن زايد للمرة الثانية، ولكنه رفض مثلما رفض في المرة الأولى، فتولى السلطة أخوه الشيخ حمدان بن زايد (1912 – 1922) واستطاعت أبوظبي خلال تلك السنوات العشر أن تعيش فتره كاملة من الهدوء والاستقرار والتقدم، بفضل تجارة اللؤلؤ المزدهرة.
واشتهر الشيخ حمدان بن زايد بالسماحة والحلم والكرم، ولذلك قد أحبته قبائل أبوظبي حبّاً جمّاً، وما زال أهالي أبوظبي يذكرونه حتى الآن بكلِّ خير.
ثمَّ حكم أبوظبي الشيخ سلطان بن زايد لمدة خمس سنوات ما بين 1922 و 1926، واستمرَّ خلالها في علاقات طيبة مع جيرانه من أمراء ساحل عمان، وقد ظهرت شجاعته وحكمته أثناء نزاع نشب بين بعض سكان عمان من ناحية، وبعض قبائل إمارة أبوظبي من ناحية أخرى، وانتهى الأمر بفضل حنكته ومقدرته إلى استتاب النظام، وعودة الصفاء إلى النفوس.
وقد بنى الشيخ  سلطان قصراً شرقي العين بعد وفاة والده زايد الكبير، وما زال هذا القصر قائماً حتى الآن، وقد سجّل على بابه تاريخ البناء وهو 3 شعبان عام 1328هـ، أي منتصف عام 1910م.
وقد أبدى الشيخ سلطان اهتماماً واسعاً بأمور الزراعة والري، وأمر بحفر فلج المويجعي، واستغرق ذلك عامين كاملين، ما أدّى إلى ازدهار قرية المويجعي.

وقد خلف الشيخ سلطان بعد وفاته في 4 أغسطس 1926، شقيقه الشيخ صقر بن زايد وكانت فترة حكمه قصيرة إلى درجة لم تمهله لإنجاز الكثير من الأعمال.

 
 
 
 
 
صلاة العيد أمام قصر الحصن
صلاة العيد أمام قصر الحصن
 
 

 

ويعدُّ الشيخ شخبوط أوّل من تولّى حكم إمارة أبوظبي من أحفاد الشيخ زايد الكبير، وقد طالت فترة حكمه مدة ثمانية وثلاثين عاماً ما بين 1928 و 1966 وهو أكبر أبناء الشيخ سلطان بن زايد سناً، وقد تسلّم السلطة وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، وتميّز حكمه بالهدوء والسكينة.
وممَّا يؤثر عن الشيخ شخبوط عنايته الكبيرة بقضية مياه الشرب في أبوظبي، فقد تمَّ في عهده مشروع مد أول خط لأنابيب مياه الشرب من منطقة الساد قرب مدينة العين إلى مدينة أبوظبي.
وتنازل الشيخ شخبوط عن الحكم لشقيقه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في السادس من أغسطس عام 1966، وبعد وفاة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان- طيّب الله ثراه- واصلت القيادة الرشيدة برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وساعده الأيمن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مسيرة التنمية المستدامة والشاملة، التي جعلت دولة الإمارات العربية المتحدة محطَّ أنظار العالم كله.
ولا شكَّ في أنَّ ما نشهده من إنجازات في هذا العصر يجد أساسه الصلب في تاريخنا العريق، فلولا صلابة البناء السابق لما وصلنا إلى الحاضر المتألق بكلِّ تفاصيله، ولما تطلعنا إلى المستقبل المشرق بكلِّ زواياه المرئية، وازداد طموحنا للآتي الأكثر إشراقاً وألقاً.