2,050 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
الوثائق.. هي اللسان الناطق الباقي، والشاهد الأمين الذي يُثْبِتُ التاريخ ويُعَرِّفُ الخلفَ ببعض الأخبار التي وقَعَت في
عصور السلف…
الوثائق.. هي المقياس الذي يزن الأمم المتحضرة، ويميِّزُها عن تلك التي نسيت ماضيها وفرَّطت فيه، ونظرت إلى الحاضر على أنه البداية والنهاية… الأمة التي تنظر فقط إلى الحاضر دون النظر إلى ماضيها هي أمَّةٌ على شفا جرف هار.
ذلك أنَّ الحاضرَ سيؤول لا محالة ماضياً، والحاضر الذي نعيشه كان مستقبلاً تطلَّع إليه الآباءُ والأجدادُ؛ أولئك
الذين حفظوا الأيام الخالية بحلوها ومرِّها، ودونوها على ما اعترى تلك الحقبة البدائية من شح في وسائل التدوين؛ حفظوا أخبار أسلافهم وتناقلوها، وكانت حديث المجالس والليالي المقمرة… نقلوها نثراً وشعراً ورواية، حتى اختزنت مكتبة العرب بمئات المصنفات التي كتبت في التاريخ وأولته كامل عنايتها ورعايتها، وخرّجت كنوزاً لا تقدَّر بثمن سطَّروا فيها أخبار أسلافهم وأيامهم بإيجابياتها وسلبياتها.
وللأسف فإننا اليوم لا ننتبه إلى أهمية الوثيقة في حياتنا ولا نلقي لها بالاً، وإنَّ تلك المخطوطات التراثية التي
صنَّفها أسلافنا لولا العناية بها من الناس الذين أعقبوهم، ودرايتهم التامة بقيمتها لما وصل إلينا مخطوط، ولما امتلأت المكتبة العربية بآلاف المصنفات التي لا تقدَّر بثمن.
موت الوثائق
يموت الكبير في أيامنا وتموت عقبه كلُّ الوثائق التي تركها، يدفنها أهله معه حيَّةً، ولا يعلمون أنَّ هذه الوثائق
الموءودة تنطقُ بتفاصيلَ ستكونُ بعد أمدٍ ليس بالبعيد من الأهمية بمكان في توثيق عصور الآباء والأجداد. فما من حديث إلا وسيؤول قديماً، هذه هي سُنَّةُ الكون التي بني عليها.
أخي الأستاذ علي المطروشي وجد مخطوطاً نفيساً قديماً جداً ملقى في مكان للمهملات، وهذا المخطوط موجود الآن في متحف عجمان، لولا أن هيأ الله له الأستاذ المطروشي لضاع في المهملات شأنه شأن مئات الوثائق التي راحت ضحية إهمال أهالي أصحابها وزهدهم فيها.
وكذلك هناك رجلٌ من أصحاب العلم كان يرقي المرضى بالقرآن الكريم، وُلِدَ في بداية القرن الماضي في منطقة جميرا. كان هذا الرجل على علم بما تعنيه الكتابة والتوثيق؛ فكان إذا ولد مولود جديد دوَّن في سجله: ولد فلان ابن فلان، وإذا مات شخص سجَّل: مات فلان، وإذا قال أحدهم شعراً سجَّل الشعر كله، وإذا حدثت حادثة سجَّلها بكامل تفاصيلها. سطَّر في هذه الدفاتر ذكرياتٍ تاريخيَّةً لا توزن بالذهب في قيمتها وأهميتها لهذه المنطقة. توفي سنة 1991م، فما كان من أهله إلا أن رموا وأحرقوا هذه الدفاتر كلها، (وكم من سجلات ووثائق تخصُّ
عائلاتٍ وشركاتٍ ومؤسَّساتٍ وُئِدَت حيَّةً لا لشيء إلا بسبب إهمال أصحابها وعدم وعيهم بقيمتها!). شاء الله تعالى أنَّ رجلاً أتى ذلك العالم قبل وفاته بستة أشهر، فكتب عنه قصيدة مؤلفة من 50 بيتاً لشاعر توفي في أوائل الستينيات، وهذا الرجل نقلها من الشاعر مباشرة.. هذه القصيدة لا توجد في ديوان ذلك الشاعر، وهي قصيدة تاريخية تؤرخ لأحداث مهمة. بعد وفاة ذلك الشيخ الصالح والخطأ الذي اقترفه أبناؤه بحق وثائقه، كانت هذه القصيدة هي الناجي الوحيد من المحرقة الثقافية لتلك الأوراق بما فيها.
متحف برلين
وهنا نسلِّط العدسة نحو مثال يعطينا فكرة عن أهمية أن نحفظ الوثائق. فعندما زرت متحف برلين عام 1997، الواقع في برلين الشرقية، أثناء تجوالي على الصور المعروضة فيه رأيت صورة الشيخ زايد بن خليفة (زايد الأول) النادرة التي التقطها له رحّالة ومصور ألماني زار أبوظبي ودبي سنة 1909م.
بعدسة الرحالة الألماني لودفيج بورخارست 1903
اتصلت بالمرأة التي درست تلك الصور سنة 1997م، فسألت مدير المتحف: كيف وصلت هذه الصور إليكم؟ قال: في عام 1909، قتل هذا المصور الألماني في اليمن، فانتقلت مذكراته وصوره إلى برلين، فجاء ابن أخيه، بعد سنوات، وسلَّمنا هذه الصور والمذكرات، فبقيت هذه الصور النفيسة التي تظهر الشيخ زايد الأول وهو جالس أمام الحصن، وتظهر أبناءه على الخيول، ولولا وعي ابن أخي ذلك الرحَّالة بقيمة الوثائق التي أفنى حياته لأجلها لما وصلت إلينا، مع أنها توثق بالعيان مشاهد لم يكن لها أن توثَّق في ذلك الزمان القديم.
الوثائق هي صلة الوصل بيننا وبين الماضي، وانقطاع هذه السلسلة يمثِّل شرخاً في المجتمع. ولست أعني بالوثائق ما هو مكتوب فحسب، بل هي كلمة عامة تشمل ذلك وغيره من أدوات وصور وتسجيلات مسموعة ومرئية…كل
تلك هي وثائق تشهد على ما كان، وتعطي الأجيال همة العزم والإصرار للبناء على الأساس الذي أسَّسه آباؤهم، ليتابعوا المسيرة ويكملوا الطريق؛ فالحياة سلسلة ترتبط حلقاتها ببعضها، فإن انقطعت حلقة الماضي عنها تهنا في غياهب حاضر مشوَّه ممسوخ، أما عندما نزين حاضرنا بوثائق الماضي فإنَّ السلسلة تكتمل حلقاتها، وحينئذ تبني
الأجيال مستقبلها على أساس متين لا يهتزُّ مهما اعتراه من رياح الشدائد.
رئيس التحرير