لطفي أمان شاعر رومانسي في زمن صعب

أعلام أعلام الراوي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجلة مدارات ونقوش – العدد 24– 25

 5,837 عدد المشاهدات

الكاتب : د. شهاب غانم – أديب وكاتب إماراتي

ولد الشاعر اليمني الكبير لطفي جعفر أمان في مدينة عدن في 12 مايو عام 1928م، وتوفي، رحمه الله، في 16 ديسمبر عام 1971م في مستشفى القوات المسلحة في المعادي بالقاهرة، ونقل جثمانه إلى عدن، حيث دُفِنَ في مقبرة القطيع بكريتر وشيّعه جمع غفير. ورثاه حينذاك عدد من شعراء وأدباء عدن؛ منهم والدي د. محمد عبده غانم، رحمه الله، الذي رثاه بقصيدة طويلة في نحو سبعين بيتاً. تأثّر لطفي كثيراً بشعراء المرحلة الرومانسية، ومع ذلك لم تكن قضايا أمته وأوطانها، وما مرّت به من محن وصعاب، مغيَّبة عن نتاجاته الأدبية وإبداعاته الشعرية.

 

لطفي أمان محتضناً عوده
لطفي أمان محتضناً عوده

 

هزار الشعر

ومما قاله والدي، رحمه الله، في قصيدته التي رثى فيها لطفي أمان، ونُشِرَت يومذاك في الصحف، وبعد ذلك في ديوان والدي «في موكب الحياة» الصادر عن دار الآفاق الجديدة ببيروت عام 1973م، ثمَّ في أعمال والدي الشعرية الكاملة:

هات الهديل وقل للدوح واحزني

فقد تولى هزار الشعر والأدبِ

ولو يرد بكاء العين من فقدت

يوماً إليها بكينا بالدم السّربِ

فاصبر وقل للردى إن كنت قد حجبت

عيناك «لطفي» فإنَّ اللطف لم يغبِ

هناك في كل ديوان له عجب
من فنه المشمخر الراسخ الطنبِ

وحسنه في «بقايا» كلها نغم

ثر لنا «بالمنى معسولة الحلبِ»

مازال في «الدرب» منه موكب خطرت

«أيامه» فيه للرائين عن كثبِ

حتى إذا خيَّم «الليل» الطويل وقد

ناداه يا ليل أين الفجر لم يجبِ

فانصاع يدعو إلى الهيجاء «إخوته»

ومن دعا للنضال الحق لم يخبِ

دنيا «الفداء» وهل فيها سوى ظفر

بالحق منتزع من كفّ مغتصبِ

دنيا بها الشعر غنّى كل رائعة

من النشيد الذي يبقى على الحِقَبِ

الشاطئ المسحور

وغانم في هذه الأبيات يشير إلى عناوين دواوين لطفي وأولها «بقايا نغم» الذي نشر في عدن عام 1948م في دار فتاة الجزيرة، وكتب له والدي مقدمة تعدُّ من أوائل الكتابات النقدية الجادة في تاريخ عدن الأدبي. وكان لطفي أثناء دراسته في السودان قد حيَّا في إحدى قصائد ديوانه ذاك صدور ديوان غانم الأول «على الشاطئ المسحور» بقصيدة جميلة منها:

يا شاعراً كلما رنت قياثره

حسبت أنَّ مآسي الكون لم تكنِ

تالله ما فاض شعر أنت قائله

إلا وخلته لحناً في فم الزمنِ

هفت من «الشاطئ المسحور» راقصة

نشوى تعربد في قلبي وفي أذني

وودعتني على لقيا فقلت لها

زفي سلامي إلى الأحباب في عدنِ

وكان لطفي عضواً في مجموعة نادٍ للشعر في عدن في الخمسينيات يترأسه والدي، وكثيراً ما كانت تقام جلساته في منزلنا، وكان من أعضائه، كما أتذكر خالي علي محمد لقمان ومحمد سعيد جرادة وعلي عبد العزيز نصر ومحمد حسن عوبلي، وربما إدريس حنبلة، رحمهم الله جميعاً.

ديوان لطفي أمان )الجزء الاول(

ديوان لطفي أمان )الجزء الثاني(

 

ويشير والدي في مرثاته أيضاً إلى دواوين لطفي اللاحقة «الدروب الخضر» و«كانت لنا أيام» و«ليل إلى متى» و«إليكم يا إخوتي» و«إلى الفدائيين في فلسطين». ولم يشر غانم إلى ديوان صغير يحوي كلمات أغانٍ باللهجة العدنية كان لطفي قد نشره بعنوان «ليالي» عام 1960م، وفيه عدد من أغانيه المشهورة في اليمن، ولكن والدي نفسه لم ينشر أغانيه في كتاب على رغم شهرة بعضها، فلم يكن يساوي كلمات أغانيه المكتوبة بالعامية بقصائده. وقد نشر أغانيه بعد رحيله نجله د. نزار غانم في كتاب يحوي نحو خمسين أغنية بعنوان «حمينيات صدى صيرة».

قصائد مغنّاة

ومن كلمات لطفي الشهيرة التي لحّنها وغنّاها أحمد سالم بامدهف «بيني وبين الليل من غير كلام نجوى»، و«ألومك وأعاتبك لأني أحبك»، ومن التي لحنّها وغنّاها أحمد بن أحمد قاسم «مش مصدق إنك أنت» و«صدفة التقينا على الساحل»، و«ما في حد» و«يا عيباه»، ومن التي لحنّها وغنّاها أبوبكر فارع «أسمر وعيونه»، ومن التي لحنّها وغنّاها محمد مرشد ناجي «هات يدك على يدي»، ومن التي لحنّها وغنّاها أبوبكر سالم بلفقيه «وصفوا لي الحب».

وقد تأثّر لطفي في طفولته وصباه ببعض أشقائه السبعة في اهتماماته الفنية أمثال شفيق الذي كان رسّاماً، ونجيب الذي كان شاعراً. كما كان شقيقه فتحي رسّاماً ودرسني مادة الرسم في إحدى سنوات المرحلة المتوسطة. وقد بزّ لطفي إخوته جميعاً في الشعر والرسم، كما كان له اهتمام بالموسيقى، وكان يساعد الفنانين الذي يغنون كلماته في مراحل التلحين. ومما بقي من رسمات لطفي لوحة غلاف ديوانه «بقايا نغم» الذي يصوِّر فيه امرأة شبه عارية، وغلافا مسرحيتي خالي الشاعر علي محمد لقمان «العدل المفقود» و«قيس وليلى». كما كانت له كتابات نقدية ينشر بعضها في مجلة للمدرسين عنوانها «المستقبل»، وأظنه كما أتذكر كان يحررها أو يشارك في تحريرها.

الشاعر الفنان

يقول د. أحمد الهمداني في كتابه «دفاعاً عن لطفي أمان» المنشور عام 2004م: «لطفي أمان هو الشاعر الفنان في صياغته الشعرية، الفنان في ترجمته وهو يقدم إلى القارئ اليمني بعض المقطوعات الشعرية الأجنبية، الفنان وهو يقدم بعضاً من تجارب المبدعين في الشرق والغرب، وهو الفنان عندما يقدم إلى عيني المشاهد لوحاته ورسومه التي تحمل عبق الشاعرية وعطر الفن. وهو الفنان في تقديمه إلى أذن السامع ألحان مجموعة من قصائده التي غنّاها كبار المطربين اليمنيين. وهو الفنان في صوته الرخيم العذب الذي يقدّم به قصائده في المنتديات وفي الأماسي الشعرية». وبالفعل كان لطفي يقدم مختارات من الشعر اليمني المعاصر في الإذاعة بصوت متميّز كما أتذكر، ومنها قصائد لوالدي.

ويقول د. عبد العزيز المقالح عن لطفي في كتابه «الأبعاد الموضوعية الفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن» المنشور عام 1978م: «كان أكثر زملائه الشعراء -شمالاً وجنوباً- تمثيلاً لحركة الشعر المعاصر في مرحلته الأربعينية». ويقول عن قصيدة لطفي «خطيئة غريب» المنشورة في ديوانه الأول بأنه فيها: «يخرج كلية عن نظام القافية ويكتب شعراً موزوناً مرسلاً هو بداية القصيدة الجديدة في اليمن».

لطفي أمان مدرساً

كنت طالباً في السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية في مدرسة السيلة بمدينة كريتر عندما عاد لطفي أمان من الدراسة في السودان في آخر الأربعينيات حاملاً شهادة الدبلوم من الخرطوم التي كان كما يبدو قد ذهب إليها عام 1942م ملتحقاً بالدراسة الثانوية. والتحق لطفي بالتدريس في مدرسة السيلة، ودرَّسني مادتي اللغة العربية والتاريخ. وكان في تلك المرحلة كثيراً ما يلقي علينا أشعاراً معاصرة ليست في المنهج، ويعلِّمنا تقطيع الشعر وهو يضرب في حماسة بمساحة الطباشير على السبورة قائلاً: «تن تتنتن تن تتنتن…إلخ». وقد درسني بعد عودته من التدريس في تانجانيقا سنة في كلية عدن الثانوية مادة التاريخ.

وكان لطفي مدرساً متميزاً حقاً، يحبه الطلبة ويصغون إليه بشغف. ونستشهد هنا بهذه السطور من كتاب مذكرات د. محمد علي البار «ذكريات وإضاءات في تاريخ عدن واليمن» المنشور عام 2019م، وكان البار قد درس على يديه في الصف الرابع الابتدائي، وفي المدرسة المتوسطة، وفي كلية عدن الثانوية العليا. يقول: «وقد أذهلني وأذهل الطلاب برقته المتناهية، وكان يحمل في جيبه من الحلويات والبسكويت ليعطي الطالب الذي يجيب إجابة صحيحة بعض هذه الحلويات…. وكان الأستاذ لطفي يستخدم قدراته اللغوية والرسم في توضيح ما يريد إيصاله إلى الطلبة…». وهنا أتذكر أنني شخصياً تسلّمت منه أكثر من مرة في الصف الرابع الابتدائي كيساً من الحلوى والشوكولاته عند حصولي على المركز الأول في فحوص وامتحانات فجائية كان يجريها على الفصل.

قيس ليلى لعلي لقمان بريشة لطفي أمان

 

وأذكر أنَّ الأستاذ لطفي أخبرنا ذات يوم أنَّ والده أسماه لطفي؛ لأنه ولد في عام 1928م الذي أصيبت فيه عدن بوباء الطاعون الذي أودى بكثير من الأرواح وكان الناس كثيراً ما يرددون: «الطف بنا يا لطيف».

شعر لطفي الفصيح

عندما ذهب لطفي أمان إلى الخرطوم للدراسة الثانوية عام 1942م كان في نحو الرابعة عشرة من العمر. وذكر د. نزار غانم في كتابه «جسر الوجدان بين اليمن والسودان» المنشور في صنعاء عام 1994م، أنَّ لطفي كان يكرِّر في حواراته أنَّ قدوته الشعرية في تلك المرحلة كان صديقه السوداني محمد عثمان الجرتلي (الذي صار طبيباً فيما بعد)، وكان يشاركه حياة البؤس والصعلكة، بل سافر فيما بعد إلى عدن لرؤية لطفي بعد عودته إلى عدن. كما تعرَّف لطفي في الخرطوم إلى كثير من شعراء وأدباء السودان أمثال إدريس جمّاع ومحمد مهدي المجذوب ود. عبدالله الطيب. وتأثَّر لطفي كثيراً بشعر شعراء المرحلة الرومانسية، ومنهم السوداني الصوفي التيجاني يوسف بشير الذي كان قد توفي قبل وصول لطفي إلى السودان بسنوات. وكما لاحظ الناقد العراقي هلال ناجي في كتابه «شعراء اليمن المعاصرون» المنشور في بيروت عام 1966م، فقد تأثَّر لطفي بالرومانسيين أمثال علي محمود طه وإبراهيم ناجي، كما تأثَّر بشعراء معاصرين أمثال إلياس أبي شبكة ونزار قباني وبدر شاكر السياب.

وإذا لم يكن لطفي أول شاعر رومانسي في اليمن؛ إذ سبقه إلى ذلك الأسلوب د. محمد عبده غانم في ديوانه «على الشاطئ المسحور»، كما سبقه الشاعر علي محمد لقمان في ديوانه «الوتر المغمور»، كما ربما سبقه أحمد بن محمد الشامي وإبراهيم الحضراني وغيرهما، إلا أنَّ لطفي ربما كان أكثر شعراء اليمن استمرارية في الالتصاق بالمدرسة الرومانسية خلال سنوات حياته التي لم تتجاوز 43 عاماً إلا ببضعة أشهر.

ومن ديوانه الثاني «الدرب الأخضر» نقتطف الجزء الثالث والأخير من قصيدته «غزو الفضاء» التي كان قد تقدَّم بها لمسابقة شعرية أقامتها هيئة الإذاعة البريطانية ونال إحدى جوائزها:

إيه يا نفس.. ههنا أنا

ماذا بعد هذا؟ وقد بلغت رجائي

انظري يملأ الفضاء طموحي

وتلاقي نجومه كبريائي

الدراري على جبيني

أكاليل فخار مسحورة اللألاء

إنما لم أزل

أحس بجنبيّ دويّ الرياح والأنواء

بي نزوع إلى الكمال

ولا أعرف معنى الكمال والانتهاء

كلما أنتهي إلى غاية

أرفع منها دعامة لابتداء

لست أدري إلى متى

وإلى أين أشيد البناء فوق البناء

فحياة الوجود رهن حياتي

وفناء الوجود قيد فنائي

ومن ديوانه الثالث «كانت لنا أيام» نتوقف عند قصيدة بعنوان «عبث»، وهي قصيدة جميلة ذكّرتني بقصيدة للشاعر المصري صالح جودت (1912- 1976م) مطلعها:

لا تذكري الماضي فما أنا ذاكر

وأحب أيامي إليّ الحاضر

وقد ناقشت الشبه بين القصيدتين في فصل من كتابي «بين قصيدتين» الصادر في الشارقة عام 2004م. وفيها نرى نموذجاً آخر لتأثر لطفي بالقصائد الجميلة للشعراء الآخرين خصوصاً الرومانسية. ومنها:

إن لم تكوني أول الحبِ

فلأنت وحدك أنت في قلبي

أما اللواتي قد سبقنك في

سبل الهوى وسقطن في دربي

فلقد نثرت قلوبهن هبا

كالطير ينثر وافر الحَبِّ

كان الجمال يهيج بي نزقي

فأظل من وثب إلى وثبِ

حتى سددت عليّ منطلقي

بضيائك المتدفق الرحبِ

وفي آخر مقطع من القصيدة يقول:

هاتي فلن أرتد ما برحت

رأسي تدور ونشوتي تسري

بالله أيهما ترى أحلى

عيناك أم شفتاك لا أدري

عندي لذائذ ما اشتهيت ولم

أظفر بها مشمولة عمري

الليل والكأس التي طفحت

برغائبي وجمالك المغري

ومن ديوانه الرابع «ليل إلى متى» وقد كتبه في مرحلة السنوات الأخيرة من الاستعمار البريطاني لعدن، كما نشر في ذلك الوقت (عند الناشر نفسه في لبنان) د. محمد عبده غانم ديوانه «حتى يطلع الفجر»، وكان يغلب على الديوانين الشعر السياسي النضالي ضد الاستعمار ونقتطف من ديوان لطفي الأبيات الأولى من قصيدة «سأنتقم» التي لحنها وغناها الفنان المعروف محمد مرشد ناجي، رحمه الله:

أخي كبلوني

وغلّ لساني واتهموني

بأني تعاليت في عفتي

ووزعت روحي على تربتي

فتخنق أنفاسهم قبضتي

لأني أقدس حريتي

لذا كبلوني

وغلّ لساني واتهموني…

ومن ديوانه «إليكم يا إخوتي» نقتطف أبياتاً من قصيدتين: الأولى «بعد النكسة» يقول فيها:

عدت مكسور الجناح

عدت لا أملك شيئاً من عتادي وسلاحي

وأنا ماذا أنا الآن

ولا حتى بقية

بعض أوهام غبية

هكذا حطم زندي

وزناد البندقية….

ومن قصيدة بعنوان «أين أذهب» التي كتبها في بداية الحكم الشمولي الخانق الذي خيَّم على جنوب اليمن وخصوصاً عدن.. كتبها ولم يعرف كيف يبثها دون أن يتعرض للقمع، فأوصل نسخة مخطوطة منها إلى باب منزل صديقه وأستاذه القديم والدي د. محمد عبده غانم، وذهب دون أن يرى والدي أو يسمعه أبياتها، وقرأنا بعد ذلك أنا ووالدي القصيدة التي كانت تعبِّر عن مشاعرنا نحن أيضاً:

أين أذهب؟

وصباحي لم يزل فوق جذوع الليل يصلب

أين أذهب؟

أغمض المرفأ جفنيه على الأنواء تصخب

ومتاعي كله في رحلتي

قلب تغرّب

لست وحدي تضرب الريح جناحي فأتعب

أمتي فوق جراحاتي وصدري تتقلب

أين أذهب؟

وكنت قد كتبت قبل ذلك بفترة قصيرة قصيدة بعنوان «من وراء الستار الحديدي» طبعاً لم أنشرها إلا بعد مغادرتي عدن والجنوب ومنها:

أريد البكاء

ويمنعني الخوف لا الكبرياء

وفي أضلعي جبل من شقاء

* * *

أريد السؤال

ولكن محال

لأنَّ الظلال

تصيخ إلى كل قيل وقال…

* *  *

أريد الرحيل

فكيف السبيل

وفي كل ركن تردّى قتيل…

 

كتاب لطفي جعفر أمان لرعد أمان

 

صفحات من أدب اليمن المعاصر لشهاب غانم

وللطفي ديوانان بعنوان «موكب الثورة»، و«إلى الفدائيين في فلسطين» ويحتويان قصائد من دواوين الشاعر «الدرب الأخضر»، و«ليل إلى متى»، و«إليكم يا إخوتي». وله مجموعة ثانية من كلمات الأغاني بلهجة عدن العامية بعنوان «أعيش لك» لم أطلع عليه.

رحم الله أستاذي الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان وأكرم مثواه.