لهجتنا العامية بين النسيان والفهم الخاطئ

block-2 الإمارات مجلة مدارات ونقوش - العدد 3

 716 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب

تُشَكّلُ اللهجات المحليَّة جزءاً من ثقافات الأمم وتاريخها، ولذا فمن الأهميَّة بمكان توثيق لهجتنا المحليَّة قبل أن يعمَّها النسيان وتندثر كما اندثر كثيرٌ من المفردات القديمة التي لا تكاد تسمعها هذه الأيام تدور على ألسن الناس، فقد رحلت منذ فترة طويلة عن معجمنا الصغير الذي يتناقص كلَّ يوم، وحلَّت محلها كلمات جديدة، بل دخيلة تمتاز بركاكتها وبُعدها عن الفصحى وابنتها اللهجة المحليَّة، والأمر قد تجاوز النسيان في بعضها الموجود.

حيث بدأ الجيل الجديد يحاول تفسيرها تفسيراتٍ عجيبةٍ ليس لها علاقة بمعناها الحقيقي، والأدهى والأمَرَّ من هذا أنَّ بعضهم يدافع جهلاً عن هذه التفسيرات الخاطئة أو الأساليب اللغوية التي ليس له صلة بنا إلا حديثاً، بعد اختلاط الألسن في هذه البلاد، تماماً كما حصل في أوائل الدولة الإسلامية، حيث انهارت الفصحى أمام مختلف الألسن العالمية الذين اختلطوا بهم آنذاك، ولولا أنَّ الله ضمن حفظ قرآنه الكريم لضاعت العربية إلى الأبد.

وكم عجبت منذ أيامٍ من مجادلة أحد الإخوة لي في مقهى الأخ «تويتر»، حيث أراد إثبات صواب من ينطق «كليت، وشربيت» بإضافة الياء بدل «أكلت، وشربت» الذي أجمعت على عدم صحته وقبحه الفصحى والعامية، وقد أجبته بأجوبةٍ ظننتها مقنعة ولكنها لم تقنعه، وأصرَّ على أنَّها لغة كبار السنّ الذين يعرفهم!! فقلت: لقد كانوا يضربون الصبيان على نطقها؛ فكيف تكون لهجة كبار السنّ؟ ولكن قل إنها آفةٌ لسانيَّةٌ محلية تنتشر مع قلة الوعي.

نسيان اللهجة
كل سنة تمرُّ على هذه البلاد، يبتعد الناس عن لهجتهم القديمة بموت كبار السن أولاً، وتغير الأدوات والمسميات القديمة ثانياً، وكذلك ابتعاد الناس عن كلّ ما كانوا عليه في الماضي، وهذا يحصل مع جميع اللغات واللهجات، ولكن الفرق أنَّ التغير يحصل في قرونٍ عند غيرنا، وليس في عقدين أو ثلاثة كما حصل في هذه البلاد الطيبة، حيث أصبح لدينا لهجات عدة خلال أربعين سنة:
– لهجة كبار السن التي لا يعرفها كلُّ الجيل الحديث.
– لهجة جيل الستينيات الذين يصلح أن نسميهم المخضرمين.
– لهجة جيل الاتحاد وأفضلهم لهجة من كان أكبر سناً منهم.
-الجيل الحديث وهو جيل ما بعد الفضائيات التي أتت بجميع اللغات واللهجات إلى البيوت بعد أن كانوا يشاهدون قنوات دولتهم فقط، فصاروا أبعد الناس عن لهجة آبائهم وأساليبهم وأقلهم مفردات، ولهذا تراهم يعتمدون على الإنجليزية؛ لأنها لغة دراستهم، ويستطيعون إدراك المفردات الحديثة من خلال معاجمها، على عكس اللهجة المحلية التي أصبحت في طيّ النسيان أو الفصحى التي تحتاج إلى فتح الكتب والمراجع اللغوية، وهي لا تستخدم في الحديث اليومي.

اللغة الإنجليزية تحلُّ محلَّ العربية

عبر السنين دخلت في اللهجة العامية بعض المفردات الفارسية والتركية والإنجليزية والهندية، وهي محصورة وقليلة، وكان ذلك في الماضي، أمَّا ما نشاهده اليوم فهو خسف باللهجة والفصحى جميعاً، حيث تتعود الناشئة على الحديث باللغة الإنجليزية في كثير من الحديث، بل في الكتابة أيضاً، وذلك بفعل التعليم الأجنبي في المدارس والجامعات وهم في ذلك أنواع:
–  من يفتخر أمام الناس بمعرفة الإنجليزية.
– من لا يحسن العربية ويستعيض عنها بلغةٍ أخرى.

– من يحتقر اللغة العربية ويجد أنَّ الإنجليزية أولى بالحديث من لغته الأم.

وكلُّ هؤلاء مخطئون مجانبون عن الصواب؛ لأنَّ اللغة العربية هي عزهم ومجدهم، ولن يصلوا إلى ما يريدون من الرفعة والمكانة الدولية بالفخر بغير العربية، ولهجتنا العامية ما هي إلا جزءٌ من لغتنا العريقة التي تفوق كلَّ لغات العالم مفرداتٍ ووصفاً وبلاغةً وشعراً وأدباً

*لقد قال لي الشاعر المرحوم “حمد خليفة بوشهاب” ذات ليلةٍ، وكنت أمشي معه قريباً من منزله في منطقة الحمرية بدبي، وهو متعوّد على المشي مساءً حين تهدأ الأجواء ويصفو الهواء، وفي قصده ألَّا ينام بعد طعام العشا،ء وإن كان خفيفاً؛ لأنه يضر بالصحة: “هل تعلم يا جمال أننا أكثرُ حظًّا منكم في لهجتنا؟ فقد تعلَّمنا كلَّ مفردةٍ من كلامنا من أمرٍ رأيناه وسمعناه من أفواه الناس صحيحاً من غير تحريفٍ ولا ضعفٍ، أما أنتم فجيلكم لم يدرك هذا كله، وإنما أدرك ما بقي منه، ولم يبقَ منه إلا القليل. قلتُ: هكذا نظر إلى جيلنا “بوشهاب” ونحن أدركنا قدراً لا بأس به من الكلام، فكيف نظر إلى الجيل الحالي الذي لا يميز بين الحنين والرغا كما نقول في أمثالنا!!

الأذن المصحِّحة

*ذات مرّةٍ مررتُ على الشيخ محمد بن الشيخ مجرن المري، حفظه الله، وعنده بعض الشباب من أقاربه، فإذا به يصحّح بصوتٍ مسموعٍ مرَّة أو بتحريك شفته مرَّة أخرى كلما أخطأوا في كلامهم، حتى ظننتُ أنه سئِم من كثرة أخطائهم في طريقة لفظ المفردة أو استخدامها في غير محلّها أو غير ذلك، وقد أصابني العجب؛ لأنَّ هذه المفردات صارت أُذُني لا تنكرها كما تنكرها أذنه التي لم تتعوَّد إلا على اللفظ الصحيح، وهذا هو الفارق بين جيلنا والأجيال التي سبقتنا ممَّن هم على قيد الحياة، حفظهم الله تعالى، فقد تعوَّدت آذاننا على النطق غير الصحيح، وإن نطقنا المفردة صواباً، وهنا مكمن الخطر، حيث لن نستطيعَ التصحيحَ، وستستمرُّ لهجتنا في التلاشي أمام مدافع الإنجليزية ونسيان أهلها لها، ولهذا لا تتغاضوا عن التصحيح أيُّها الأوفياء كلما سمعتم خطأً في نطقٍ أو أسلوبٍ أو فهمٍ من أبنائكم أو أصحابكم .

موت اللهجة السريع

مات كثيرٌ من الجيل الماضي، وكلما اختفت طبقةٌ منهم اختفى جزءٌ من معجمنا، وانظروا إلى مَن بقي منهم؛ فهذا هو المتبقي من المعجم الصحيح، وسوف يتلاشى كما ذكرت قريباً إذا لم نتداركه بعزمٍ وتصميمٍ وتصحيحٍ، ولا يغرَّنَّكم ما خرج من معاجمَ حتى الآن، ففيها أخطاء كثيرة ولم تسجّل أيضاً إلا قليلاً جدًّا من مفرداتنا.

شرح الدواوين النبطية

خرجت كثير من الدواوين الشعرية خلال العقود الماضية؛ بعضها بشرح شعراء علماء في لهجتنا مثل حمد بوشهاب، وهي موثَّقة، وخرج بعضها دون ذلك، ولكنَّ الأغلب كان من إخوةٍ لنا من خارج الدولة اجتهدوا في إخراجها، ولكنّهم وقعوا في شرَكِ اللهجة وبلاغتها التي لا يعرفونها، ففسَّروا المفردات بغير معناها الصحيح، وتابعهم عليه جماعة من المجتهدين، وإنني لست ألومهم على جهدهم في إخراج الشعر للناس، بل أمدحهم وأحثُّهم عليه، ولكني أقول لهم: لا تستعجلوا بالشرح، ولو تركتموه غير مشروحٍ لكان خيراً للديوان ولهم.

الخلاصة

أشكر كلَّ من يسعى بمفرده لعمل معجمٍ أو تحقيقِ ديوانٍ أو إخراجِ كتابٍ عن لهجتنا، وأدعوهم إلى الاستمرار، ولكن لهجتنا لا تحتاج إلى جهد أفراد فقط؛ لأنها تموت سريعاً، بل تحتاج إلى مؤسَّساتٍ ممولة من دولتنا المعطاء، يشرف عليها متخصصون من أهل هذه البلاد الطيبة، ولا مانع من مساعدة لغويين من مجلس التعاون أو من الأردن مثلاً لتشابه اللهجات البدوية، ولن تكلف الدولة شيئاً كثيراً، بل تكلفتها ستكون أقل من ثمن لاعبٍ واحدٍ أجنبي، وسوف تُبقي على هويتنا وتحفظ لهجتنا للأجيال المقبلة.

حيث:
– ضاعت معظم المفردات.
– تغيَّر نطق المفردة؛ فصارت لا عاميَّة ولا فصيحة ومع تعوُّد الأذن عليها لا تُنْكَر.
– الفهم الخاطئ لهذه المفردات الفصيحة، حيث تفسَّر في الشعر والكلام بمعنى مختلف تماماً عن اللهجة وعن معنى الشاعر الذي عناه في شعره، ولو ضربت لكم أمثالاً على هذا الأمر لطال الأمر عليكم جدًّا.