13,290 عدد المشاهدات
الكاتبة : الدكتورة مريم أحمد قدوري
“وهران” الباهية، كما يلقِّبها الكثيرون، مدينة جزائرية جميلة يشهد لها التاريخ بحضارتها العريقة التي امتدت منذ آلاف السنين، والتي امتزجت فيها لمسات شعوب كثيرة سكنتها وتداولت على حكمها، كان من أهمهم الإسبان والعثمانييون والفرنسيون الذين تلذَّذوا حلاوة العيش فيها عقوداً من الزمن، وخلفوا لأهلها مزيجاً ثقافيًّا متنوعاً جعلها تتربع على عرش أجمل المدن المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط.
إنها ليست صدفة أن أكتب عن هذه المدينة لقرَّائنا الأعزَّاء، وإنما تزامن إصدار هذا العدد مع زيارتي لها، كوني اخترتها وجهة سياحية لي بعد عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات. وبعد هذا الوصف الموجز منَّا لـمدينة “وهران”، ربما سيستثار لديكم بعض الفضول لتعرفوا المزيد من التفاصيل عن هذه المدينة: ماذا يعني اسمها؟ متى تأسَّست؟ وما أهم المعالم الثقافية والحضارية التي تتميَّز بها؟
شاع الكثير من التفاسير عن كلمة “وهران″، ومن أهمها
أنها مثنى اللفظة العربية “وهر” التي تعني الأسد، غير أنَّ كلمة “وهر” لا تعني أسد حسب لسان العرب والصحاح في اللغة والقاموس المحيط وغيرها، إضافة إلى أنَّ أغلب المؤرخين لم يوردوا هذا التفسير، لذا فإنَّ من المرجَّح أن يكون الاسم من أصل أمازيغي، نسبة إلى وادي الهاران، أو إلى أسود الأطلس التي كانت تعيش في المنطقة، والذي ورد اسم كل منهما في التاريخ بتهجئات مختلفة
الأساطير تحمل تفسيراً للرواية الأولى، وتقول: إنه تم اصطياد الأسود الأخيرة لهذا الساحل المتوسطي في الجبل المجاور لوهران المدعو “جبل الأسود” وأعطى للمدينة هذا الاسمَ صائدٌ للأسودِ كان اسمه سيدي معقود المهاجي، تكريماً لأسدين قام بترويضهما
ولأنَّ الأسدين أصبحا رمزاً للمدينة، فقد تمَّ تنصيب تمثالين برونزيين كبيرين لأسدين أمام مقر البلدية، وهما اللذان يرمزان لاسمها، لتكون بذلك وهران هي “مدينة الأسود”
شدَّت “وهران” منذ القدم اهتمام الحضارات المختلفة وأطماعها، فتقلَّب حكمها بين سلالات حاكمة محلية من بربر وعرب وأتراك عثمانيين، وبين محتلين أسبان وفرنسيين. ويعود تأسيس هذه المدينة كصرح معماري وحضاي واضح المعالم، إلى حركة التجار والملاحين الذين كانوا يأتون من بلاد المغرب العربي والأندلس في القرن العاشر الميلادي إلى الجزائر عبر خليج وهران الذي تطلُّ عليه المدينة، ثم احتلت المدينة على أيدي الأسبان قبل أن تطردهم الجيوش العثمانية منها عام 1792م، بيد أنَّ الفرنسيين أعادوا احتلال المدينة من جديد، حتى استقلال الجزائر. وبطبيعة الحال، كان لحركة التجار والسياح الأندلسيين، وكذلك للاحتلال الفرنسي والأسباني آنذاك صبغة خاصة بقيت حتى يومنا هذا في المدينة، حيث تجمع العمارة في مدينة وهران بين طرازين مختلفين؛ أحدهما حديث يعود للنمط الفرنسي، والآخر قديم يرجع للطراز الأندلسي والأسباني، وهذا ما يزيد المدينة جمالاً وعراقة عن غيرها من المدن الجزائرية، وتتشكَّل فيها فسيفساء تلمحها في نمط العمران وفي العادات والتقاليد، وحتى في اللهجة المحلية التي تجمع مزيجاً متميزاً من المفردات العربية الفصيحة والدارجة والفرنسية والأسبانية والتركية معاً. لتكون بذلك “وهران″ من أحب المدن الجزائرية إلى قلوب أهلها، ومنطقة جذب سياحي داخلي وخارجي كبيرين
أيضاً، الكثير من الكتب والمطبوعات ذكرت مدينة وهران، مثل كتاب “خاتمة أنيس الغريب والمسافر” للمؤلف مسلم بن عبد القادر الحميدي الوهراني، وكتاب “الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني″ للمؤلف أحمد بن محمد بن علي بن سحنون الراشدي، وقال عنها ابن خلدون: “وهران متفوقة على جميع المدن الأخرى بتجارتها وهي جنة التعساء، مَن يأتِ فقيراً إلى أسوارها يذهب غنيًّا″، وقال عنها الإدريسي: “وهران على حافة البحر، تواجه الميرية على الساحل الأندلسي ويفصلهما يومان من الإبحار.
مرسى الكبير هو ميناء ليس له مثيل في كامل الساحل البربري، تقصده سفن الأندلس غالباً. وهران وافرة الثمار، سكانها هم رجال أفعال.. أقوياء وفخورون”، وقال عنها ابن خميس: “المدينتان الساحليتان اللتان أعجبتاني في المغرب العربي هما وهران خازر وجزائر بولوغين″، وقال عنها ليون الإفريقي: “وهران مدينة كبيرة تتوافر على المرافق وجميع أنواع الأشياء اللائقة بمدينة طيبة كالمدارس، الحمامات، المستشفيات والفنادق، يحيط بالمدينة سور جميل عال″، وتقول ديانا ويلي أستاذة التاريخ في جامعة بوسطن: “وهران تمثل بداية لمفهوم العولمة، ففيها ما يكفي من شواهد اختلاط الحضارات منذ العهد الوسيط″
هكذا تحدَّث عنها الكتَّاب والمؤرخون، وقيلت فيها الكثير من القصائد، وتغنَّى بها الكثير من المطربين العالميين الذين انطلقوا منها، من روَّاد الشعر الملحون، وروَّاد أغنية الراي الوهراني، وعلى رأسهم الشاب خالد الذي يعدُّ أحد أبناء المدينة الذين أذاعوا صيتها في الساحة الغنائية العربية والعالمية، فقد غنَّى خالد أغنية ″وهران″ وقال في هذا
المقطع المختصر
وهران وهران رحتي خساره
هجروا منك ناس شطارى
قعدوا في الغربة حيارى
و الغربة صعيبة و غداره
يا فرحي على أولاد الحمري
أولاد المدينة وسيدي الهواري
عديت معاهم صغري
لهم فني طول عمري
اشتهرت هذه الأغنية كثيراً، ولا تزال أيقونة للمدينة ولفنِّها، وهي تحكي قصة حسرة صاحب هذه الكلمات على شباب هاجروا إلى الغربة وتركوا مدينتهم الجميلة وراءهم، كانوا يعتقدون أنهم شطار وأذكياء وذهبوا إلى حياة اللهو والترف، تركوا الصلاة وانقادوا وراء ملذات الحياة، ونسوا أرض الآباء والأجداد، كانوا يعتقدون أنَّ حياة الغربة أفضل، لكن ما حياة الغربة إلا حيرة وحسرة وغدر وقسوة. هي أغنية أو قصيدة فيها لومٌ كثير، وتذكرة بالمدينة وأوليائها الصالحين، وفيها اعتزاز بالأحياء الجميلة وبذكرياتها، فيها وصايا وآمال للعودة لأحضانها والعيش فيها لأنها وطن لهم
وما هذه إلى واحدة من قصائد كثيرة تغنَّت بوهران، هذه المدينة التي تضمُّ العديد من المعالم الشهيرة التي تعود إلى عصور مُختلفة، وتعكس التاريخ العريق الذي تحتويه، ومن أبرز هذه المعالم هي:
المسرح الجهوي في وهران:و هو صرح ثقافي تتميّز به وهران، ويُوجَد في شارع أوّل نوفمبر، ويعدُّ من أكبر المسارح في الجزائر، ويتميّز المسرح الجهوي بالقاعات والصّالات الضّخمة، حيثُ يتّسع المبنى ليضمّ 600 كرسي، وهو مُصمّم وَفقاً للطّراز الأوروبي.
كاتدرائية وهران:تُوجَد في شارع حمو بوتليليس، وتتميّز في تصميمها وبنائها بعوامل من الطراز المعماري الروماني والبيزنطي، مع الزخرفة ذات الطابع الشرقي. كانت هذه الكاتدرائيّة مركزاً للمسيحيين في وهران، وحوَّلها أهلها اليوم إلى مكتبة عامة ووجهة ثقافية مميزة في المدينة.
معبد وهران العظيم:أو ما يُسمّى الآن مسجد عبدالله بن سلام، يُوجَد في شارع محمّد بغدادي في وهران، وكان المعبد يخصّ اليهود، حيثُ تمَّ بناؤه من قِبَل اليهود في الجزائر عام 1918م، وهو معبد كبير وجميل، ويُقال إنَّ حجارة هذا المعبد ميّزته في البناء، حيثُ تمَّ إحضار الحجارة من القدس، وبعد استقلال الجزائر تمَّ تحويل المعبد إلى مسجد.
قلعة سانتا كروز:تقع القلعة على أعلى قمَّة جبل في وهران، ويُسمَّى بجبل المرجاجو، تمَّ بناء القلعة من قِبَل الرومان، حيثُ تُحافظ القلعة الآن على شكلها نتيجة موقعها المتميز. عندما يزور الزائر قلعة سانتا كروز، فسيرى البحر الأبيض المتوسط، وكافّة أرجاء مدينة وهران التي تُعدُّ ودرّة البحر الأبيض المتوسط
ساحة أول نوفمبر:هي قلب مدينة وهران وعصب الحياة فيها، تمَّ إنشاؤها تكريماً لشهداء الثورة الجزائرية المشهورة التي استعادت حرية الجزائر من الفرنسيّين. ويُوجَد في ساحة أول نوفمبر المسرح الجهوي ومبنى بلدية وهران.
قصر الباي: يُوجَد في شارع مفتاح قويدر في وهران، وتمَّ بناء القصر بأمر من الباي محمد الكبير، وهو أحد أُمراء الجزائر في القرن السّابع عشر. يُعدُّ القصر الآن مكاناً مُلائماً للاستراحة والتنزّه، وهو مَعْلمٌ سياحيٌّ يقصده السيّاح عند زيارتهم للمدينة.
كنيسة سانتا كروز: هي إحدى الكنائس المشهورة في وهران، وتُعدُّ معلماً دينيًّا مهمًّا في الجزائر. تُوجَد الكنيسة في قلب مدينة وهران، وتطلُّ على المدينة كاملةً وعلى الخليج الذي يوجد فيها
محطة قطار وهران:تمَّ بناؤها خلال فترة الحكم الفرنسي، ويشتهر هيكل المحطة بجمعه لرموز الديانات السماوية الثلاث. يوحي شكل محيطها الخارجي بشكل مسجد، حيثُ تتّخذ ساعتها شكل المئذنة، وتحتوي شبابيك الأبواب والنّوافذ وسقف القبّة على نجمة داوود، ويضمّ المبنى لوحات داخليّة فيها الصليب الكاثوليكي.
تُعدُّ وهران مسقط رأس عدد من الشخصيات المُؤثرة التي ساعدت على كتابة التاريخ. فمِن أبرز تلك الشخصيات ومن أهم رجالها الشهيد أحمد زبانة؛ فهو أول شهيد جزائري يعدمُه الاحتلال الفرنسي في عام 1957م.
عندما تجوب أرجاء المدينة، وخصوصاً الأحياء الشعبة منها، ستلاحظ أنَّ المدينة تتميّز بمطبخ شهيّ للغاية يضمُّ أطباقاً عديدة تحوي عبق التاريخ الذي مرَّ على المدينة، فَمِن أبرز هذه الأطباق:
الكرانتيكا:هو طبق وهراني تاريخي شهير، يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، اخترعه الأسبان أثناء حصارهم في حصن سانتا كروز، ونتيجة لنفاد المُؤن، اضطر الأسبان إلى استخدام ما تبقّى من الحُمُّص والطحين وطبخهما مع الماء والملح والزيت، ومنذ ذلك الوقت، اشتهرت الأكلة في المدينة، وما زال سكان وهران يتناولونها إلى اليوم.
البايلا :يعود أصول هذا الطبق إلى الاحتلال الأسباني الذي كان في المدينة، ويأتي اسم البايلا من كلمة “بقية” بالعربية؛ حيثُ تُشير إلى بقايا الطعام الذي لم يُؤكل، والذي يُوضع فوق بعضه ليُشكّل هذه الأكلة. يُشكّل الأرز أبرز مكون لهذه الأكلة، ويُضاف إليه بعض الأسماك أو المحار، أو الدجاج واللحم إذا كانا متوافرين. وعلى الرغم من أنَّ أكل الأرز ليس من ثقافة سكان المدينة، إلا أنَّ هذا الطبق بالذات لا يوحي فقط إلى الأصل الثقافي الأسباني، بل يوحي إلى تشابه خليجي وآسيوي في إعداد الطعام، نظراً لتشابهه مع الكبسة والمقلوبة والبرياني.
لامونا:هي نوع من الحلويات مشهور جداً في وهران، ويعود أصله إلى القرن السادس عشر الميلادي؛ فأثناء الاحتلال الأسباني لوهران كان ملوك الأسبان يضعون الأشخاص غير المرغوب فيهم في مبنى يوجد حوله القرود (سُمِّيَ حصن لامون)، وكانت عائلات المساجين تُحضِر لهم كعكاً، وكانوا يمرّرونه بين القضبان، لذا سُمِّيَت هذه الكعكة “لامونا”، ويتزايد وجودها في السفرة الجزائرية في شهر مضان المبارك وفي المناسبات العائلية
على الرغم من أن “وهران” تقع في الجزائر، إلا أنَّها متفردة بعاداتها وتقاليدها عن باقي المدن الجزائرية الأخرى؛ إذ يعدُّ اللباسُ والزيُّ التقليديان خاصيَّةً تعنى أهلها فقط؛ فالمرأة الوهرانية تتفرد بلبس “البلوزة الوهرانية”، وهي عبارة عن فستان طويل ذي أكمام قصيرة، ومرصَّع بمختلف أنواع الزينة وبخيوط الذهب، يحضر من خامات مختلفة لجميع المناسبات وخاصة الأعراس، فيما يكون لبس الرجال “كندورة وبرنوسا”، وهو لباس يشبه البشت عند الخليجيين، في المواسم الدينية وأيام الأفراح، بيد أنَّ اللباس اليومي هو لباس مستوحى من الثقافة الأوروبية التي سكنت البلاد عقوداً من الزمن وغيَّرت ملامح الحياة فيها.
عندما تتجوَّل في أرجاء وهران، تشدك المباني الهادئة المصمَّمة بطريقة هندسية رائعة، ذات الشبابيك والأبواب العالية، التي تحفها الزخارف الخلَّابة ذات الطراز الأوروبي؛ إذ إنَّ السائر في أرجاء أحيائها قد يتخيَّل نفسه أنه يمشي في شوارع باريس أو لندن أو غيرها من مدن أوروبا العريقة. وتعمل الحكومة الجزائرية حاليًّا على إعادة ترميمها من جديد، والمحافظة عليها؛ لأنها تدرك جيداً أنها تمثِّل روح المدينة وعنوانها.
لتكون بهذا “وهران” الباهية أحد أجمل المدن الجزائرية التي تعكس أصالة متجذرة في عمق التاريخ، ولؤلؤة مشعة في حوض البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا.