4,695 عدد المشاهدات
الكاتب: إيمان محمود سليمان
ترسم الاكتشافات الأثرية في دولة الإمارات ملامح حضارات تجذرت أصولها في المنطقة منذ آلاف السنين، وتكشف المواقع الأثرية على امتداد بقاع الدولة حقبات تاريخية عريقة شهدتها الإمارات على مر العصور لم تكن أقل شأنا من حاضرها.
حضارة حفيت
في مدينة العين وتحديدا في منطقة جبل حفيت بنيت أقدم حضارة في العصر البرونزي لدولة الإمارات وامتدت من عام 3200 _ 2500 قبل الميلاد، وبينت الآثار التي عثرت عليها البعثة الدنماركية في المنطقة عام 1959م أن الإنسان استوطن منطقة العين منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
وخلال عمليات التنقيب في مدافن حفيت تم العثور على جرار فخارية ورماح البرونزية وأدوات نحاسية وحجرية وخرز استخدم لأغراض الزينة، كما تم العثور على عظام بشرية دفنت بوضعية القرفصاء وكذلك عظام لحيوانات مختلفة ضمن أكثر من 500 مدفن تم العثور عليها، وتشير القطع الأثرية التي تم العثور عليها إلى ارتباط بين حضارة حفيت وحضارتي بلاد الرافدين ووادي السند.
وتختلف المدافن التي عثر عليها في منطقة حفيت عن باقي المدافن التي تم اكتشافها لاحقا في الدولة، حيث يحتوي المدفن على حجرة واحدة ذات شكل دائري أو بيضوي مبنية من الأحجار بشكل غير متناسق عكس المدافن التي سنأتي على ذكرها في الحضارات الأخرى.
حضارة أم النار
في جزيرة صغيرة قبالة سواحل أبوظبي عاشت حضارة قديمة من العصر البرونزي قبل 2600_ 2000عام، عمل سكانها الأوائل بالصيد وصهر النحاس والتجارة، وتشير الآثار التي تم اكتشافها في أم النار عام 1959م إثر حفريات قامت بها بعثة آثار دانماركية إلى حياة الترف الذي عاشه السكان في تلك المنطقة، فقد عثر فيها على المجوهرات والعقود وأدوات الزينة الذهبية، أما الأسلحة النحاسية والأدوات الفخارية المزخرفة تدل على حركة تجارة متبادلة بين الجزيرة و الحضارات المجاورة كحضارة بلاد الرافدين، ووادي السند.
ويبدو أن سكان الجزيرة الأوائل اعتمدوا على الصيد كمصدر رزق، وذلك بحسب أدوات الصيد المختلفة التي تم اكتشافها في الجزيرة كصنارات الصيد وشباك الغطاسين، كما تبين الأسلحة والأدوات النحاسية والفخارية أن سكان الجزيرة عملوا في صهر النحاس والتجارة.
وتضم المكتشفات الأثرية في الجزيرة مقبرة تضم 50 مدفناً مبنياً فوق سطح الأرض، بعضها دائري الشكل وقد تم تقسيمها إلى غرف بمداخل شبه منحرفة الشكل، وبنيت المدافن على شكل قباب بواسطة حجارة خاصة وفي بعض منها وجدت رسوم محفورة على الجدران الدائرية للمباني الكبيرة مزخرفة بنقوش على هيئة حيوانات كالظباء والثيران والأفاعي والإبل وهو ما يوحي بأن الجزيرة كانت عاصمة ثقافية وحضارية في المنطقة.
مملكة المليحة
تشبه مملكة مليحة نافذة تطل على مختلف الأزمنة والعصور التي عبرت على المنطقة، فآثار مليحة ونقوشها المكتوبة تعود إلى أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، وتروي تاريخا متواصلاً بدايته منذ العصر الحجري فالبرونزي والحديدي وما قبل الإسلام وصولاً إلى العصر الإسلامي الحديث، وبأية حال من النادر أن يتوافر تأريخ لهذا التسلسل الزمني في مكان واحد.
وتعد منطقة المليحة من أهم المواقع الأثرية في شبه الجزيرة العربية، وقد تم اكتشافها في عام 1973م من قبل بعثة عراقية كانت تعمل بالتنقيب، وقد كشفت التنقيبات حينها عن منشأتين، الأولى منها مبنى ضخم ومتعدد الغرف، له فناء داخلي فسيح وأرضيات مجصصة وســمي بالقصر أما المنـــشأة الثانية والتي اعتبرت ضريحا فهي عبارة عن بناء مربع تقريباً بنيت بالآجر الطــيني، وتوالت بعدها فرق البحث والتنقيب على منطقة مليحة التي مازالت تعد منطقة غنية بالأسرار واللقى الأثرية حتى يومنا هذا.
لكن أهم الكنوز التاريخية المكتشفة في المليحة هو مجموعة النقوش الكتابية بالخط المسند، وتمثل أهم الكتابات المكتشفة في منطقة الجزيرة العربية، ومجموعة الكتابات الآرامية، والتي تعد أيضا نصوصاً مهمة في تاريخ المنطقة، حيث ذكر فيها أسماء الالهة والأشخاص والمناطق وتشكل اللقى الأثرية المختلفة التي عثر عليها في مليحة شاهدا على أن المنطقة كانت مملكة لها نظامها وثقافتها ومعتقداتها، وتنقل صورة عن الطقوس التي كان سكان المنطقة الأوائل يمارسونها منذ آلاف السنين.
ساروق الحديد
أما موقع ساروق الحديد الأثري فله قصة أخرى وفريدة من نوعها، ليس فقط لما يتضمنه المكان من لقى أثرية هامة، ولكن لأن قصة اكتشافه استثنائية و مختلفة عن المواقع الأثرية الأخرى، فقد اكتشف الموقع بالصدفة في عام 2002م صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، أثناء تحليقه فوق صحراء الربع الخالي حيث كان يتأمّل الكثبان الرملية من طائرة الهليكوبتر إلى أن لاحظ اختلافا في لون الكثبان في منطقة معيّنة، فأمر سموه بالتنقيب في الموقع حتى تبيّن أنّ هذا اللون عائد لبقايا المعادن الناتجة عن انصهار الحديد في العصر الحديدي و تم الكشف عن آلاف القطع الأثرية النادرة كالسيوف والخناجر.
ويعد موقع ساروق الحديد واحداً من أهم الاكتشافات الأثرية في الإمارات، كونه يعكس صورة عن الحضارات القديمة في المنطقة خلال العصر الحديدي، حيث تم اكتشاف الكثير من الأدوات الحديدية، والأسلحة والأواني الخزفية و البرونزيّة، وحبات الخرز الثمينة، فضلاً عن قطع الحلي والمجوهرات ذهبية وغيرها، وقد ارتبطت جميعها بالحالة الاقتصادية والدينية في تلك الفترة، فيما لايزال التنقيب جاريا عن اللقى الأثرية في موقع ساروق الحديد، وقد تم جمع كافة القطع التي عثر عليها في مبنى تاريخي أطلق عليه متحف ساروق الحديد للآثار شَيّده الشيخ جمعة بن مكتوم آل مكتوم في عام 1928 في منطقة الشندغة التراثية بدبي.
كثيرة هي المواقع التاريخية على امتداد جغرافيا الإمارات وفي كل عقد يتم العثور على مكنونات أثرية في رمالها وجبالها وسواحلها، تكشف لنا أسرار جديدة عن الحضارات القديمة التي سكنت منطقة الجزيرة العربية وعملت بالصناعة والتجارة والصيد وعاشت على ما تظهر اللقى الأثرية حياة ترف ليست بأٌقل من حاضرها.