2,170 عدد المشاهدات
الكاتب: د. غازي مختار طليمات
في أواخر الحكم العثماني لبلاد الشام، أي قبل أكثر من قرن، كان التعليم في مدينة حمص يتم في كثير من الكتاتيب (جمع كُتّاب) بضم الكاف وتشديد التاء، وقليل من المدارس.
والكُتَّابُ غرفة ملحقة بمسجد من مساجد الأحياء، يتعلَّم فيها الأطفال قراءة القرآن الكريم؛ إذ كان الآباء يرسلون أبناءهم إلى مسجد الحي الذي يقطنونه، ومعهم أجزاء من كتاب الله، ابتداء من جزء (عم) فجزء (تبارك) إلى جزء (قد سمع) وانتهاء بسورة البقرة والفاتحة.
مشهد بصري
وكان لكل كُتَّابٍ شيخٌ يتقن القراءة حفظاً وتجويداً وترتيلاً، يجلس على كرسي خشبي بسيط، وفي يده عصا طويلة، كان يقرأ آية أو بضع آيات قصيرة، فيردد الأطفال ما يقرأ مع الحِفاظ على مخارج الحروف وأحكام التجويد، وهم يتربعون على حُصر سميكة فُرِشَت على أرض الغرفة أو يقعدون على أريكة أو دكة خشبية طويلة، بلا مناضد ولا مساند.
وكانوا حينما يقرؤون يترنحون ذات اليمين وذات الشمال، وإلى الأمام وإلى الوراء، وطرابيشهم تغطي رؤوسهم، وقد أخذت ذؤاباتها المتدلية تنوس على أصداغهم وجباههم، وراحت أصواتهم تملأ الغرفة تغريداً وتجويداً.
ثمَّ يتيح الشيخ للأطفال أن يحفظوا ما قرؤوا، فتتداخل الأصواتُ، وتختلط الأصداء، وتخترق جدران الكُتَّابِ لتنتشرَ في الشارع، فيعرف من يعبر الشارع أنه يمرُّ بجوار كُتّاب.
احتفاء كبير
وبعد أن ينهي الطفل قراءة القرآن كله يحتفل به شيخ الكُتَّاب، وأهل الطفل وأولاد الكُتَّاب احتفالاً شعبياً لا يقل بهجة عن الاحتفال بالزفاف. ويسمّى هذا الاحتفال (ختمة). والختمة تعني أنَّ الطفل تخرَّج بعد أن أتقن قراءة القرآن كله ترتيلاً وتجويداً.
في هذا الاحتفال كان أطفال الكُتَّاب كلهم يرتدون ثياباً جديدة ويسيرون صفوفاً وراء عريفهم إلى دار الطِّفل المحتفى به. وكان العريف يضع على رأسه مصحفاً وضع فوق كرسي مزخرف يسمى (كرسي العاج) وإلى جانبه أو وراءه يسير الطفل الذي ختم القرآن، وهو يرتدي ثوباً زاهياً مطرزاً. ويسير الموكب بقيادة شيخ الكُتَّاب إلى دار الطفل المحتفى به. وأمام باب الدار يستقبل أهل الطفل الموكبَ ويُوزعون على الأولاد قطع الحلوى، ويَخْلعون على الشيخ (جُبَّة) جديدة، وإذا كانوا من الأعيان أو الأثرياء أضافوا إلى الجبة هدية أخرى أو ما تجود به أنفسهم من المال.
وبهذا الاحتفال يصبح الطفل مرشحاً للانتماء إلى المدرسة. فما المدارس التي عرفتها حمص في ذلك العهد؟
مدارس حمص
حينما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، كان في حمص نوعان من المدارس.
١. مدارس أميرية (رسمية) ترعاها الدولة وتنفق عليها، وتختار لها المعلمين والمدرسين.
٢. ومدارس أهلية (خاصة) يرعاها أهل الخير والبر من أثرياء حمص، ويختارون للتدريس فيها فضلاء العلماء.
أما المدارس الأميرية فلم تكن أكثر من أربع مدارس للبنين بمدرسة واحدة للبنات، وهي مدرسة (منبع العرفان)، و(المدرسة الخيرية) و(المدرسة الرشدية) و(المدرسة العثمانية) و(مدرسة الإناث).
وأما المدارس الأهلية فقد كانت سبع مدارس، أربع منها للطوائف المسيحية. وهذه المدارس السبع هي (الكلية الوطنية العلمية) التي أسست عام 1906م ومدرسة (الاتحاد الوطني) التي بنيت سنة 1908م، ومدرسة (نجاح الدارين) التي أُسِّسَت في الفترة نفسها.
وأَسَّسَت الطوائفُ المسيحية في حمص مدارسَ لأطفال رعاياها وهي (الكلية الأرثوذكسية) لطائفة الروم الأرثوذكس، و(المدرسة الإنجيلية) لطائفة البروتستانت. وكلتاهما تأسَّست عام 1909م. وإلى جانب هاتين المدرستين أُسِّسَت مدرستان مسيحيتان أخريان برعاية أجنبية. وهما (مدرسة الجزويت)، و(مدرسة راهبات القلبين الأقدسين).
تعليم متميز
ومن يقارن مدارس حمص بمدارس المدن السورية الأخرى يجد أنَّ مدينة حمص فاقت المدن الأخرى في عدد المدارس وأنواعها ومستوى التعليم فيها، حتى أصبحت مقصد التلاميذ الوافدين إليها من فلسطين والأردن والمدن السورية الأخرى. كانوا يفدون إليها لتلقي العلم حتى نهاية الصف العاشر؛ أي ما يعرف اليوم بالمرحلة الإعدادية وبعض المرحلة الثانوية. ومن طمح من خريجي هذه المدارس لمتابعة التحصيل، كان عليه أن ينتجع مظان التعليم العالي في الأستانة (إسطنبول).
أمّا الراغبون في تلقي العلوم الشرعية فقد كانوا ينتظمون في حلقات حول علماء حمص الكبار الذين يدرسون هذه العلوم في المساجد الكبرى. ومن وسَّع الله عليهم في الرزق كانوا ينهلون هذه العلوم من (الأزهر) في القاهرة.
ومن أبرز علماء حمص في ذلك العهد: خالد الأناسي، والشيخ عبدالكريم السباعي، وعبدالحميد الزهراوي. والشيخ نجم الدين صافي، وعبدالحميد الحراكي، ومحمد طاهر الأتاسي، وعبدالرحمن سلام، والشيخ محمد ياسين عبدالسلام.
وأمّا المناهج المقررة على طلاب المدارس الأميرية والأهلية فقد كانت تشمل إلى جانب العلوم الشرعية العلوم المختلفة، واللغتين العربية والتركية، وفي عام 1918، أي بعد انتهاء الحكم العثماني لبلاد الشام، حذفت اللغة التركية من المناهج.