3,315 عدد المشاهدات
تقع مدينة عمورية في منطقة عرفها التاريخ بأسماء كثيرة كان آخرها الجمهورية التركية، فعمورية تقع في تركيا([1])، ومن قبلها كانت مدينة في الدولة العثمانية والامارة السلجوقية التابعة للخلافة العباسية، وقبلها الإمارات التابعة للخلافة الأموية، وما قبلها من تاريخ الإمبراطورية البيزنطية وغيرها، ومنذ أربعة عشر قرناً أصبح تاريخ عمورية جزءاً من التاريخ الإسلامي المتنوع، فقد كانت بداية احتكاك المسلمين مع عمورية في عهد الخليفة عثمان بن عفان حيث بلغت الفتوحات في عهده مدينة عمورية([2])، وتواصل ذلك الفتح في عهد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، حيث حاصرها المسلمون في عهده عام 46 هـ / 666 م، قبل فتحها في عهد الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية أثناء حملته على القسطنطينية عام 49 هـ / 669 م، أي أن المسلمين دخلوا عمورية من القرن الأول الهجري، وما كان بعد الفتح الأول من مناوشات مع البيزنطيين فقد كانت احتكاكات أو هجمات متبادلة بين المسلمين والصليبيين، ولكن الشهرة الكبيرة التي حظيتها مدينة عمورية فهي عند تحريرها من الاحتلال البيزنطي في عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله عام 223هـ / 838 م.
اسمها وموقعها:
عرفت عمورية بفتح العين وتشديد الميم في تسميتها العربية، قال ياقوت الحموي: “سميت بعمورية بنت الروم بن اليفز بن سام بن نوح عليه السلام”([3])، وقيل إنَّ اسمها باليونانية هو Amorion ، وتسمى اليوم Amorium، وأنها مشتقة من كلمة ‘amor’ وتعني باللاتينية “الحُب”، والموقع الذي تجمع عليه المصادر القديمة والحديثة والأعمال التنقيبية الأثرية هو في ولاية أفيون قره حصار الواقعة غرب الأناضول في منطقة إيجة، وتحديداً في قرية حصار كوي على بعد 13 كم من مركز مدينة أميرداغ في ولاية أفيون قره حصار، وبعض الدراسات ترى أنَّ عمورية تقع في ولاية إسبارطة التركية، على خلاف ما ورد في المصادر القديمة وتحديداً في مقاطعة Uluborlu أولوبورلو الواقعة على بعد 65 كم من ولاية Isparta اسبارطة – الواقعة جنوب غرب تركيا – وعلى بعد 180 كم من أنطاليا وعلى بعد 20 كم من هضبة تكة على طريق أنطاليا-إسطنبول.
خريطة ولاية أفيون قره حصار وتظهر فيها أيضاً موقع مدينة أميرداغ
وفي بعض الدراسات أنَّ تاريخ عمورية القديم يعود إلى 2000 ق. م. وذلك وفق دراسات أثرية قديمة، وأنَّ عمورية كانت ثاني أهم حواضر الدولة البيزنطية بعد القسطنطينية، وأنها تأسَّست في الفترة الهيلينية على يد الفريجيين، وأنَّ أوج ازدهارها القديم كان في العهد البيزنطي حيث كانت مركزاً للولاية، وذلك قبل دخولها في العهد الإسلامي، فعمورية كغيرها من مدن المنطقة قد عرفت دولاً وحضارات كثيرة منها الحضارة الحيثية والفريجية واليونانية والرومانية والبيزنطية والأموية والعباسية السلجوقية والعثمانية، وموقعها الإستراتيجي على الطريق العسكري المنطلق من القسطنطينية إلى إقليم سيليكيا، والعكس المنطلق من جنوبها من البلاد العربية إلى القسطنطينية جعلها على أهمية كبيرة في الأحداث العسكرية والسياسية بعد ذلك.
لم يصنع الفتح الإسلامي الأول الذي قاده الخليفة الأموي يزيد بن معاوية في طريق حملته إلى القسطنطينية عام 49 هـ / 669م الشهرة لمدينة عمورية، بل لم يصنع لها الاهتمام العسكري أيضاً، ولذلك وقعت تحت الاحتلال البيزنطي مرة أخرى من القائد البيزنطي أندرياس، وبقيت المناوشات بين المسلمين والبيزنطيين بعدها متواصلة إلى العهد العباسي، ولكن المجازر التي ارتكبها الروم والبيزنطيون في الهجوم على المدن القريبة من عمورية ومنها إغارة الروم على زبطرة ( Doğanşehir) ملاطية زادت من أهميتها العسكرية، وهذه ثغور كانت تعدُّ حدود الدولة العباسية الشمالية في ذلك الوقت، وتواصل الاعتداءات الرومية عليها أقلق الدولة العباسية، فقد كان ملك الروم يحارب المسلمين بقوات كثيفة تبلغ 100 ألف جندي، منهم سبعون ألفاً من البيزنطيين، وثلاثون ألفاً، وكان هذا الاعتداء الرومي بقيادة الإمبراطور توفيل بن ميخائيل، وقد قام بقتل أهل هذه المدن والقرى الشمالية، وذبْحِ أطفالها ونسائها وأسْرِ رجالها وتدمير ممتلكاتها، حتى وصل الخبر إلى مركز الخلافة العباسية في بغداد.
سبب هجوم الروم على مدينة زبطرة:
ذكر عدد من المؤرخين المسلمين ومنهم ابن جرير الطبري وابن كثير وابن الأثير أخباراً عن تلك الحروب والمعارك التي كانت تقع بين أحد الخارجين عن سلطان الدولة العباسية وهو بابك الخرمي صاحب بلدة تسمى «البذ»، وبين قواد العسكر من جيوش الدولة العباسية، وكان من أكبرهم القائد العسكري الأفشين واسمه حيدر بن كاوس في خلافة المعتصم بالله سنة 220هـ، فحارب الأفشين بابك الخرمي في حروب متواصلة حتى قيل إنَّ الخليفة المعتصم خرج بنفسه على رأس جيش لمقاتلة بابك الخرمي أيضاً، وعندها كتب بابك الخرمي إلى إمبراطور الروم توفيل بن ميخائيل أن يشن هجوماً على ملاطية حيث إنَّ الخليفة المعتصم بالله قد خرج لحرب بابك الخرمي، وهدفه أن يخفف شدة الخناق من قبل الأفشين، فدفع ذلك الإمبراطور البيزنطي المتهور إلى الإغارة على الثغور الإسلامية في زبطرة – Doğanşehir (ملاطية)، ظناً أنَّ صراع العباسيين مع بابك الخرمي أنهكت من قوتها.
وبعد أن قام توفيل باحتلال زبطرة / ملاطية، تواردت أخبار غارة الإمبراطور الرومي توفيل بن ميخائيل على الثغور الإسلامية وارتكابه الفظائع إلى مسامع الخليفة المعتصم بالله فاستعظم ما حدث، ويقال إنه بلغه استغاثة امرأة هاشمية وقعت في أيدي الروم وهي تصيح وامعتصماه، لبّى المعتصم النداء ونادى بالنفير العام، وحين همَّ بالمسير سأل عن أمنع مدن التي تحت الاحتلال البيزنطي التي لحقها الأذى والقتل والتدمير فأشاروا عليه بعمورية.
قال ابن كثير: “وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات، ومثَّل بمن وقع في أسره من المسلمين، فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله … فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداً وصرخ في قصره بالنفير، ثمَّ نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش”([4]).
فتح عمورية:
سار المعتصم بجيش جرّار من سامراء إلى عمورية وقبل الدخول إليها سمى قسماً من جيشه وعهد بقيادته إلى أفشين، وأمره أن يسلك طريق سروج – الواقعة في ولاية أورفا التركية على حدود سورية – وهو التقسيم الأولي للجيش العباسي، ثمَّ توجّه بقيادة بقية الجيش بنفسه، أي بقيادة المعتصم بالله إلى طرسوس – الواقعة في ولاية مرسين – ونزل على مسيرة يوم منها على نهر اللامس – نهر لاموس أو Limonlu Çayı الواقعة في بلدة أردملي التابعة لولاية مرسين.
علم الإمبراطور البيزنطي بتحرّك القوات العباسية بقيادة المعتصم بالله، فحشد قواته وغادر القسطنطينية ووقف على مسيرة ثلاثة أيام من عمورية، وأمر بتحصينها وعهد بحمايتها إلى قائده إيتيوس ياطس Aetius كما أعدَّ خطة لمهاجمة الجيش العباسي.
بعد أن تجمّعت القوات العباسية أعاد المعتصم بالله تقسيم الجيش ثانية، فقسَّمها إلى ميمنة وميسرة وقلب ومقدمة وساقة، وتمَّ تعيين أشناس على المقدمة ويتبعه محمد بن إبراهيم، وعلى الميمنة إيتاخ، وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخياط، وعلى الساقة بغا الكبير ويتلوه دينار بن عبد الله، وعلى القلب عجيف بن عنبسة على أن تجتمع هذه القوات في أنقرة، وفي 25 من شهر شعبان اصطدمت قوات أفشين بقوات الإمبراطور توفيل في منطقة دازمانا Dazmana في قرية تورهال آكجا تارلا Turhal Akçatarla Köyü الواقعة في ولاية توقات التركية حالياً في معركة دازمنا Dazmana، كانت نتيجتها هزيمة الجيش البيزنطي وهروب توفيل إلى القسطنطينية، وصلت أنباء الانتصار للمعتصم فواصل سيره إلى عمورية ووصلت طلائع الجيش إليها بقيادة أشناس في الخامس من رمضان، أما المعتصم فوافاه في السادس من رمضان.
ولما وصل توفيل إلى القسطنطينية وجد نفسه أمام ثورة فانشغل بها ولم يستطع مساعدة عمورية، فاضطر لإرسال اعتذار للمعتصم عمّا حصل لملاطية وزبطرة، مبرراً أنَّ ما حصل كان خلاف أوامره، ويعده بأن يعيد الأسرى ويبني المدينة من جديد، لكن المعتصم رفض هذا العرض وفرض حصاراً على عمورية.
أما أهل عمورية فقد تحصّنوا داخل أسوار مدينتهم، متّخذين ما استطاعوا من الحيطة والحذر.
قال ابن كثير:”قسم المعتصم الأبراج على الأمراء، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الاسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناءً ضعيفاً بلا أساس، فنصب المعتصم المنجنيق حول عمورية، فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع”([5]).
استبشر الخليفة العباسي المعتصم بالله بفتح عمورية وقد فتح معها مدينة أنقرة ([6])، وكان استبشاره أن جنوده كانوا من الأتراك ([7])، وضرب المعتصم خيمته قبالة هذا الحصن، ونصب المجانيق عليه، وبدأت المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى تعمل عملها، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور حالوا تدعيمه بالأخشاب الضخمة لكن دون فائدة بسبب توالي قذائف المجانيق عليه، فكتب ياطس إلى تيوفيل كتاباً يعلمه فيه بأمر السور وفداحة الموقف وقوة الحصار، وأرسله مع رجل يتقن العربية ومعه غلام رومي، لكنهما وقعا في أسر المعتصم بالله، فكان فتح عمورية في شهر رمضان من عام 223 هـ / 838 م.
حظيت عمورية بعد ذلك بشهرة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وكلها بسبب وقعة عمورية الشهيرة التي نتجت بانتصار الخليفة العباسي المعتصم بالله على قوات الإمبراطور الرومي توفيل بن ميخائيل وفتحه للمدينة، وقد تغنى بها شاعر بلاط الخليفة العباسي أبو تمام ببائيته الشهيرة:
يا وقعة عمورية انصرفت
منك المنى حفّلاً معسولة الجلب
وعاد المعتصم بالله بعد أن استتبَّ له الأمر في عمورية إلى سامراء تعتليه نشوة النصر مصطحباً معه باب عمورية وغنائم كثيرة غنمها في المعركة.
([1]) انظر: الحموي، شهاب الدين ياقوت الحموي الرومي البغدادي (623هـ)، معجم البلدان، بيروت، دار صادر، 4/158.
([2]) الحميري، محمد بن عبد المنعم (900هـ)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق احسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية 1984، ص 413.
([3]) الحموي، معجم البلدان، 4/158.
([4]) انظر: ابن كثير (774هـ)، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة 1985، 10/286.