2,060 عدد المشاهدات
الكاتب: علي عبيد الهاملي
رسالة قديمة، مرَّ عليها أكثر من ثلاثين عاماً، لا أعرف كيف اختفت بين مجموعة من الأوراق والرسائل التي أحتفظ بها للعودة إليها بعد حين، وتمضي الأيام، وتمرُّ أحيان كثيرة دون أن أعود إلى تلك الأوراق، ويحدث أن أبحث عن شيء ما، فأتعثر بهذه الأوراق، ويقع بعضها صدفة بين يدي، فتعود هي بي رغماً عني، إلى أوقات وذكريات جميلة لا تنمحي من الذاكرة، حتى لو تقادم الزمن ولم تعد لنا منه سوى الذكريات، نستعيد الجميل منها لتعيننا على إكمال رحلة الحياة.
هذا هو ما حدث معي قبل أيام عندما كنت أرتِّب مكتبتي المبعثرة بين أكثر من مكان وأكثر من إمارة، أو بين أبوظبي ودبي على وجه التحديد، عندما اقتضى الأمر أن أجردها للتخلص من بعض الكتب المكررة، وبعض الأوراق التي زال الغرض من الاحتفاظ بها، ولم تعد لها أهمية. حيث وجدت مجموعة كبيرة من الرسائل، بعضها قديمٌ جدًّا. وكانت بينها رسالة أثارت شجني، وسببت لي شيئاً من الحزن؛ لأنني لم أفتحها كما يبدو عندما وصلتني، وكنت وقتها أتولى إدارة تلفزيون الإمارت العربية من أبوظبي، وأرافق المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، في زياراته الرسمية للدول العربية والأجنبية، وأشرف على التغطية التلفزيونية لهذه الزيارات، إضافة إلى مؤتمرات القمَّة التي كان، رحمه الله، يشارك فيها، ويقوم بدور حكيم العرب المعروف عنه، في التوفيق بين الآراء، وحل النزاعات والخلافات، ونزع الألغام التي كانت كثيراً ما تُزْرَعُ بين الرؤساء والحكام العرب، وتكون على وشك الانفجار لولا حكمة العقلاء أمثال الشيخ زايد، عليه رحمة الله.
رغم أنَّ الرسالة لاتحمل تاريخاً، إلا أنها مرتبطة بالزيارة التاريخية التي قام بها الشيخ زايد، عليه رحمة الله، إلى جمهورية مصر العربية عام 1988، بعد قرار القمَّة العربية في عمان عام 1987 بإنهاء المقاطعة مع مصر، وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها. وكانت العلاقات الدبلوماسية مع مصر قد قُطِعت عام 1979 بقرار من مجلس الجامعة، بعد الزيارة التي قام بها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى إسرائيل، وإبرام معاهدة سلام معها. فقد كانت دولة الإمارات أول دولة عربية بادرت إلى إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، فقام الشيخ زايد، عليه رحمة الله، بهذه الزيارة التاريخية التي ما زالت راسخة في ذاكرتي، رغم مرور 30 عاماً عليها. وقد تشرفت بالتعليق التلفزيوني على نقل مراسم وصول الشيخ زايد، عليه رحمة الله، إلى مطار القاهرة يوم 13 مارس 1988 عبر تلفزيون الإمارات والتلفزيون المصري.
أعود إلى الرسالة التي جلبت هذه الذكريات عن هذا القائد والزعيم الذي لن يتكرر، والتي لا أعرف كيف اختفت بين رسائل كثيرة لم أفتحها في حينها، الأمر الذي يجعلني أشعر بالذنب؛ لأنَّني لم أقم بإيصالها إلى من أُرْسِلت إليه حينها، فربما قد تمَّ تحقيق طلبه، وأنا واثق من أنَّ ذلك كان سيتم، لكنّ هذا ما حدث، لتبقى الرسالة ضمن أوراق ورسائل كثيرة، بانتظار أن يأتي الوقت للعودة إليها.
على ظرف الرسالة مكتوب (السيد/ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارت العربية المتحدة).
وهذا يدل على بساطة وعفوية مرسل الرسالة، الذي أجد حرجاً في ذكر اسمه كاملاً بعد كلِّ هذه الأعوام التي مرَّت على رسالته. أمَّا داخل الظرف فرسالتان؛ واحدة منهما موجهة إليَّ، يقول فيها بعد السلام والتحية: (أخي الأستاذ الفاضل علي عبيد، أنا أرسلت لسيادتك هذا الخطاب، وبداخله خطاب إلى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية. فأرجو من سيادتك أن ترسله عن طريقك إلى الشيخ زايد، لأني أرسلت له خطابات كثيرة ولم يصله خطاب واحد، فأرجو أن ترسله أنت عن طريقك، ولك الشكر من أخيك إبراهيم …..) ثم يكتب عنوانه، ويضيف في نهاية الرسالة: (وأنا عرفت اسم سيادتكم من التلفزيون المصري، عند وصول الشيخ زايد إلى القاهرة).
كانت هذه هي الرسالة الأولى الموجهة لي، أمَّا الرسالة الثانية، فقد بدأها قائلا: (السيد المحترم والفاضل، والرجل الكريم والرجل العظيم، حضرة السيد/ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية، وشيخ مشايخ العرب، والأب الكريم، أرسلت لسيادتكم هذا الخطاب وأنا أعلم أنَّ سيادتكم هو الذي شجعني على أن أرسل هذا الخطاب، بعد حديث سيادتكم في التلفزيون المصري، وأنت تقول إذا اشتكى عضو من أعضاء الجسم، وأنا عضو بسيط… وأنا أعلم أنَّ سيادتكم رجل عربي أصيل وكريم). وبعد أن يعرِّف كاتب الرسالة بنفسه، يقول: (أرجو من سيادتكم أن تساعدني على أن أجد عملاً في دولتكم الشقيقة؛ لأني محتاج إلى المال لظروف الله يعلم بها….). ثمَّ يشرح الظروف التي يمرُّ بها من مرض وديون وحاجة إلى الدواء والعمل. ويختتم رسالته بعبارة (وأنا آسف على هذا).
اللافت في الرسالة أنَّ مرسلها قد كتبها بأسلوب عفوي بسيط، يدل على بساطة كاتبها، وثقته بمن يكتب إليه، بعيداً عن الرسميات والألقاب والديباجات والكلمات المنمقة، تصل إلى الهدف مباشرة، ويعتذر كاتبها في النهاية إذا كان قد سبَّب إزعاجاً. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على أنَّ المواطنين العرب كانوا ينظرون إلى الشيخ زايد، عليه رحمة الله، على أنه راعٍ ليس لمواطني دولة الإمارات وحدهم، وإنما للمواطنين العرب جميعاً، ويعلقون عليه آمالاً كبيرة، ويخاطبونه وكأنه واحد منهم.
رحم الله الشيخ زايد رحمة واسعة، ومعذرة أيها المواطن المصري الكريم لأنني لم أقرأ الرسالة وقت أن وردتني، وإلا كنت قد وجدت وسيلة لإيصالها إلى من أرسلت إليه، وأنا واثق أنه لن يُخَيِّبَ أمل مرسلها.