2,569 عدد المشاهدات
يقولون: “التاريخ يكتبه المنتصرون” وهذه حقيقة لا يمكن أن نتغافل عنها، ولكن هل هذا يعني أنَّ المنتصر يكذب أو يبالغ أو يحرِّف الحقائق التاريخية لأنه انتصر وبسط قوته على الأرض؟ الجواب يحتاج إلى دراسات كثيرة لنثبت هذا الأمر؛ لأنَّ التاريخ ليس مقتصراً على الحروب والغلبة على الدول فيكتبه المنتصرون فقط، وكذلك الذين هُزِموا في هذه المعارك وفقدوا نفوذهم، أليس لديهم مؤرخون وشعراء سيخلدون الحقائق الأخرى التي يمكن أن يهملها أو يقلل منها أو يحرِّفها المنتصر إلا إذا أُبِيدوا عن بكرة أبيهم، وهذا يندر وقوعه. وأيضاً تعيش حول المنتصر والمهزوم دولٌ وشعوبٌ وقبائلُ تراقب، وبعضها يسجِّل ما يحصل من حولهم، وعلى هذا لا يصحُّ أن نقول إنَّ التاريخ محرَّفٌ أو مزيَّفٌ كله، أو كتبه المنتصرون فقط؛ فقد يكتبه المغلوب خاصَّة إذا كان المنتصر من أمَّة أُمِّيَّة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، كما حصل مع الأنجلو ساكسون الأميين الوثنيين، عندما طردوا الرومان من بريطانيا وغرب أوروبا وكانوا متحضرين ويكتبون تاريخهم، ولا يوجد اليوم عن فترة الأنجلو ساكسون تلك إلا الذي كتبه عنهم أعداؤهم الرومان.
مما سبق يتبيَّن لنا أنَّ مقولة “التاريخ يكتبه المنتصرون” محدَّدة بجانب واحد من التاريخ، وليست على إطلاقها، بل قد يحصل العكس وقد تفسَّر بطريقة أخرى بأنَّ الغالب المنتصر هو مَن يسجِّل تاريخه ويبقي إنجازاته بعد النصر، ولا تعني كتابة التاريخ الحرفية، إنما تعني أنَّ المنتصر هو الذي يبني الحضارة ويقدِّم الإنجازات على حساب الدول الفاشلة المهزومة.
هذا، ويروِّج بعضُ شبابِ اليوم أنَّ تاريخنا الإسلامي تمَّ تحريفه وتشويهه عبر القرون، لإرضاء الخلفاء والأمراء وأهل النفوذ في العصور الماضية، وأقول لهم: لو سلَّمنا بما تقولون، فما حجَّتُكُم وأدلَّتُكُم النقلية والعقلية على ذلك؟ فسيقولون: إنَّ التاريخَ يكتبه المنتصرون كما تعلم، وسأجيبهم بما سبق أن ذكرته في أول المقال، ونسألهم ماذا بعد؟ فيقولون: لم يعتمد هؤلاء المؤرخون على القواعد العلمية الصحيحة التي تعتمدها الجامعات اليوم في أصول البحث، والجواب: إنما أخذت القواعد الحديثة من علم أوائلنا في علم الجرح والتعديل ونقل الأخبار ونقد العلم؛ فصاغوه في قوالب جديدة وبدؤوا في تحكيم التاريخ من جديد، وإنما هي بضاعتنا رُدَّت إلينا أليس كذلك؟! وإن كان الغربيون قد مرّوا بعصور الظلام، فإنَّ عالمنا العربي في ذلك الوقت كان يُصَدِّرُ نورَ العلوم للعالم بشهادتهم. والذي علينا اليوم هو أن ندرس مناهج الأولين، ونحقِّق ما نقلوه لنا؛ لأنهم لم يكونوا مؤرخاً أو اثنين كما كان في الأمم الأخرى، بل عدداً كثيراً من المؤرخين العلماء الذين برعوا في فنون عديدة من بينها التاريخ؛ كالطبري وابن قتيبة وابن الأثير وابن كثير وغيرهم ممَّن لا يعدون ولا يحصون.
الحقيقة أيُّها الأعزَّاء أنَّ علماءَنا الكبار نقلوا تاريخنا الإسلامي بكل أمانة بالسند المتصل كما فعل الطبري في تاريخه متبرئاً من الكذب فيه متحريًّا الدقة في نقله، وقد ذكر في مقدمة هذا الكتاب العظيم معلِّماً لنا وشارحاً كيف يُنقل التاريخ ويُدوَّن فيقول: “كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى مَن لم يشاهدهم، ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المُخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنىً في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا”. هذا هو ما صنعه علماؤنا المؤرخون المحققون، وليس علينا اليوم إلا البحث فيه، واستخدام القواعد العلمية الحديثة لتمحيصه، لا أن ننسفه ونتَّهم مؤرخينا الأوائل، رحمهم الله.