1,651 عدد المشاهدات
بقلم: جمال بن حويرب
لعلّ بعضَ الأُسر التي تنعمُ اليوم بالأموال الكثيرة والعقارات المتنوّعة والتجارات الكبيرة والشركات التي يبرقُ اسمها كضوء البرق في الليلة الظّلماء، لا يعلمُ أبناؤهم كيف عاش أجدادهم وجداتهم في ظلِّ المعيشة الصعبة وشظف الحياة حتى بلغ منهم الجهد مبلغه.
ومنهم من قضى نحبه وهو يعاني أهوال الكسب الشاق في عرض البحر أو في عمق الصحراء، ومنهم من مدّ الله في عُمُره حتى يروي لنا قصصه الغريبة التي لا تصلح إلا أن تُسجّل في كتاب «ألف ليلة وليلة»، ولا ألوم هذه الأجيال الجديدة إن لم تعرف هذا؛ فالتاريخُ قديمٌ بالنسبة إليهم، فهم وُلِدوا في النعمة وغُذّوا بالراحة وأحاطت بهم الرفاهية والبُلَهْنية، وأسأل الله أن يبارك لهم فيما رزقهم وأن يزيدهم من الحلال ويبعدهم عن الحرام.
وقد ذكرتُ في مقالٍ سابقٍ المثلَ المشهورَ لدى أهلنا الماضين، وأصبح اليوم تراثاً يُسجَّل في كتب الأمثال أو يتندّر به على سبيل الطرفة وهو قولهم: «احمل القذر على الراس ولا حاجةٍ إلى الناس»، وهذا المثل لم يره الأولون عبثاً بل كان لحثّ أنفسهم وأولادهم على الكسب الحلال ولاستهجانهم ونفورهم من ذلّ السؤال، ففارقوا الأرض والأهل بالأشهر وبالسنين في بعض الأحيان ليدركوا الكسب الحلال، ولم يبالوا بألم الغربة ولا مشاق الأسفار؛ إذ كانوا يلبّون رغبةً ملحةً في كفاف أنفسهم وسقي شجرة عزّتهم من أعمالهم، وإن كانت لا تناسب مقام عائلاتهم وأسماء أجدادهم؛ لأنّ العمل لديهم مقدّس ولا مكان للعب أو التسلية حتى يدركوا ما يريدون ولو بلغوا «خليج بنغاله» كما يقولون في تلك الأيام.
فالمرأة شاركت الرجل في أعمال كثيرة مع اعتنائها ببيتها وأولادها، وقامت بجلب المياه وقطع الأخشاب وتوفير الطعام، وقد عملت المرأة أيضاً في بيع العطور كالعنبر وعمل البخور «الدخون»، وعملت بالخياطة، وعملت أيضاً فيما نسميه بقرض براقع النساء، وقد قامت بمساعدة زوجها في الإنفاق على البيت وتربية الأبناء، ورأيت بعض العجائز اللاتي لم يتركن مهنة «قرض البراقع» حتى وهنت قواهنّ وكنَّ محلَّ تقدير الناس إلى يوم وفاتهنّ.
وأذكر أيضاً امرأةً كبيرةً في السن أصيلة وكريمة ومن أسرة عريقة، كانت تبيع السمك في السوق بل كانت تهيمن عليه، وقد بَنَت هذه المرأةُ الصَّابرةُ بيتَها وربَّت أبناءها من كسبها الحلال.
أعلام وأخبار
إن كان التاريخ القديم والحديث للبلاد العربية قد زوّدنا بأخبار ما لا يحصى من أعلام الرجال؛ فإنه تجاهل للأسف الحديث عن أعلام النساء اللواتي كان لهنَّ دورٌ بارزٌ وعملٌ قياديٌّ في المجتمع، ولم أعرفْ لهذا التجاهل من تفسير سوى تعمّد غمط حق المرأة في الظهور لمصلحة الرجال، وخاصة في القرون الأخيرة التي كان كثيرٌ منها قرون تخلُّف وهوان.
والمرأة فيما قبل ذلك كانت تشارك في العلم والشورى والتجارة وبلغت حتى السياسة، وهذه أم المؤمنين أم سلمة هند بنت سهيل- رضي الله عنها- يستشيرها رسول الله في وقت صلح الحديبية، وذلك أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- لما صالح أهل مكة وكتب كتاب الصلح بينه وبينهم وفرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثمَّ احلقوا للتحلُّل من إحرام العمرة؛ فلم يقم منهم رجل، وصعب الأمر عليهم بعد أن قال ذلك ثلاث مرات، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة: يا نبيَّ الله أتحبُّ ذلك، اخرج ثمَّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فقام- عليه الصلاة والسلام- فخرج فلم يكلّم أحداً منهم كلمة، فنحر بدنته ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، ولم يقل رسول الله كما يشيع بعض من لا علم له المثل المشهور: شاوروهن واعصوهن؛ أي استشيروا النساء فما أشرن به فافعلوا عكسه لأنه الصواب، وهذا من الافتراء والتعدي بغير وجه حق.
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها كان يسألها كبار الصحابة في أحكام الشريعة وتُسْتَفْتَى وتَفْتِي وتُشَاوَر وتُشِير عليهم بما فتح الله عليها.
وفي التاريخ الحديث، هناك نساء لا يستطيع التاريخ أن يتجاهل وجودهن؛ لأنهنَّ أثبتن أنفسهنَّ بالعقل الراجح والهمّة العالية والحكمة التي تفوق كثيراً من حكمة الرجال، ومنهن السيدة موزة بنت الإمام أحمد، مؤسِّس الدولة البوسعيدية في عمان، والتي كان له دورٌ في إرساء دعائم الحكم والدفاع عن عمان ومساعدة الناس، ولها أفضال كثيرة حتى قيل إنَّ اسم موزة انتشر بسببها تيمناً بها، وقد كانت تعيش في سنة 1810 وأخبارها مدوّنة في التاريخ العماني.
وأضرب لكم مثلاً من الإمارات، امرأة من الخالدات لا يزال اسمها يتردّد كثيراً بين الناس، ولا يذكرونها إلا بالكرم والعقل الرزين الراجح والحزم الذي لا يطيقه الرجال.. هذه هي الشيخة حصة بنت المر بن حريز من فرع المقاعدة من آل بوفلاسة، إحدى أهم فروع قبيلة بني ياس بن عامر وفيها بيوت الحكم من آل مكتوم حكّام إمارة دبي.
في سنة 1906م وفي أواخر حكم الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم حاكم دبي أو بداية حكم الشيخ بطي بن سهيل، تزوّج الشيخ سعيد بن مكتوم الشيخة حصة بنت المر، وكانت زوجته الشيخة حصة تقف إلى جانبه وتساعد المحتاجين وطلبة العلم والأرامل وأبناء السبيل، وفي الوقت نفسه كانت تسهر على تربية أبنائها؛ الشيخ راشد بن سعيد الذي ولد سنة 1912 تقريباً، وشقيقه الشيخ خليفة بن سعيد، وكذلك بناتها وكانت نعم الأم المربية المعلمة.
ولا ننسى أم دبي..الشيخة الكريمة لطيفة بنت حمدان آل نهيان، رحمها الله تعالى، وهي امرأة من أعلام النساء في العصر الحديث، نسبها معرق أبوها وأجدادها من عظماء الحكّام، وكرمها مغدق فهي لا تبقي على مالٍ، ولا تأبه لما صرفت في أوجه الحق والخير، وزوجةٌ قامت بحقِّ زوجها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد الحاكم الاستثنائي الطموح، الباني والمؤسّس لحضارة عالميةٍ متقدمةٍ جداً على مثيلاتها، فقامت بحقه خير قيام، وكانت معه في أصعب الأوقات سنداً وعوناً ومستشاراً أميناً، تجلُّ العلماءَ، وتحنُّ على الضعفاء، وتعطف على الصغار، وبقيت هكذا حتى لاقت ربها.
وقد كانت الشيخة لطيفة، رحمها الله، للشيخ راشد كذلك وأكثر، وقد أنجبت له كبار الشيوخ الكرام: الشيخ مكتوم، رحمه الله تعالى، والشيخ حمدان والشيخ محمد والشيخ أحمد والشيخات الكريمات، حفظهم الله تعالى.