هالات 2

مجلة مدارات ونقوش – العدد 2 هالات

 939 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب 

ينتابني كثيرٌ من العجب، وأنا أسمعُ عن الاهتمام الكبير في دول العالم المتقدِّم بآثارهم، حتى إنهم سنُّوا لها تشريعاتٍ صارمةً للحفاظ عليها، وصانوها وعمَّروها وجعلوها مزاراتٍ عالميَّةً للسيَّاح من كلِّ مكان، فأصبحت تدرُّ على خزائنهم أموالاً طائلةً؛ فهم حفظوا تراثهم وروَّجوا له فراجت بضائعهم، وزادت سمعة بلدانهم. في حين أنَّ آثارنا تُسْرَق، ويَعْبَثُ الزمن بها، وتتعالى أصواتُ الأثريِّين العرب وغيرهم في كلِّ مكانٍ، يستنجدون بالحكومات العربية لضمانِ بقاءِ ما نجا منها من السرقات والتخريب والاندثار. ولا أبالغ إذا قلت لكم: إنَّ الآثارَ الموجودةَ في البلاد الإسلامية، على الرغم من كثرتها، هي أهمُّ آثار العالم اليوم، ولكن أين من يعرف أهميتها، وينجح في جعلها مصدراً لرزق الشعوب الفقيرة التي لا تملك نفطاً ولا ابتكاراتٍ تجعلها في عيشٍ رغيد؟! والحمد لله أنَّ حكومة الإمارات انتبهت قديماً للآثار وحافظت عليها، وجلبت كثيراً من البعثات الجامعيَّة للكشف عن كنوزها، وكان من أهمِّها موقع “ساروق الحديد” الذي اكتشفه سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم “رعاه الله” في إمارة دبي. 


إذاً، ما معنى السياحة التاريخية؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟ 

 

معنى السياحة قديماً

يقول الله عز وجل: “فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكَافِرِينَ” الآية (2) سورة التوبة.


وتفسير هذه الآية الكريمة: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، رضوان الله عليهم. فجاءت السياحة هنا بمعنى السير في الأرض، وقد جاء في معجم لسان العرب: “ساح الماء  يسيح سَيْحاً وسَيَحانًا إذا جرى على وجه الأرض”، ومنه اشتقت مفردة السياحة؛ لأنها بمعنى السير أيضاً. وقد استخدمت السياحة قديماً بمعنى السياحة الدينية فقط، يقول ابن منظور: “ساح في الأَرض يَسِيح سِياحةً وسُيُوحاً وسَيْحاً وسَيَحاناً؛ أَي ذهب، وفي (الأثر المرسل) لا سِياحة في الإسلام، أَراد بالسِّياحة مفارقةَ الأَمصار والذَّهابَ في الأَرض”. أمَّا السائحون والسائحات التي وردت في القرآن، فهم الصائمون والصائمات. وعلى هذا لم ترد السياحة بهذا المعنى قديماً، لكن المعنى أخذ بالتوسُّع فيها. ومن السياحة الدينية يقال أُخِذَ اسم المسيح، فهو فعيل بمعنى فاعل، وهو الترهُّب والتعبُّد والسفر في سبيل الله

هذا ما ورد في معناها اللغوي، ولكنها لم ترد بمعناها الجديد. وقد أصبحت من أكثر الصناعات درّاً للأموال، ودعماً للاقتصاد المحلي والعالمي، وهي أنواع شتَّى فمنها:
الترفيهية، الثقافية، الدينية، العلاجية، والتراثية التاريخية وغيرها من أنواع السياحات المعروفة، ويهمنا منها السياحة التراثية التاريخية التي تعرف بأنَّها السفر من أجل تعرُّف تاريخِ حضارةٍ قامت في مكانٍ أو بلدٍ مُعَيَّن، ومُشاهدة المعالِم التاريخيَّة والآثار العائدة إليها حضارات مُعَيَّنة، وبها نعرف قصص الأشخاص والأماكن التي تقوم في تلك البُلدان.

 

وللسِّياحةِ التاريخيَّةِ فوائدُ كثيرةٌ، من أهمِّها: تقريب الناس إلى الحضارات المتنوعة وتاريخها، من خلال معرفة التاريخ بشكل واقعيٍّ أكثرَ من قراءته في الكتب، أو مشاهدته من خلال الإنترنت أو القنوات التلفزيونية؛ فليس مَنْ وصَلَ ولمسَ ورأَى بعينيه كَمَنْ سَمِعَ بها عن بُعْد.

ولِمَنْ عرف التجارة التراثيَّة واستفاد منها، فإنَّ السياحة التراثيَّة مصدرُ دخلٍ كبيرٍ للحكومات، وهي صناعةٌ تدرُّ عليها المليارات سنويًّا. وهذا صندوق التراث العالمي (مؤسسة غير ربحية تُعنى بالحفاظ على التراث التاريخي في كافة أنحاء العالم) يقول: إنه من المتوقع بحلول عام 2025 أن تدرُّ المواقع التراثية في البلدان النامية فقط، دخلاً سنويًّا يقدَّر بحوالي 100 مليار دولار، ولن يكون ذلك من غير تطوير هذه المواقع التراثية، لتجذب عدداً أكبرَ من السُّيَّاح .

وتقول أيضاً منظمة السياحة العالمية: إنَّ السياحة التراثية حول العالم تشهد زيادةً بمعدَّل 8 إلى 12 في المائة سنويًّا، بل إنَّ هناك بعض المواقع تحقِّقُ زياداتٍ بواقع ضعفين أو ثلاثة أضعاف كل 10 سنوات. هذا وتتوقَّع منظمة السياحة العالمية أن يزيد عدد السياح حول العالم، بحيث يتجاوز 1.6 مليار مسافر عام 2020.

 

ومن العجب، نرى اليوم أنَّ أغلب البلدان النامية التي لديها مواقع تراثية مهمة، عائداتها من النقد الأجنبي تفوق ما تحقِّقه الصناعات الأخرى؛ بما في ذلك التعدين والصادرات الزراعية بسبب السياحة التراثية التي تجذب السيَّاح من كلِّ مكان. وأشارت التقديرات الحديثة إلى أنَّ ثلث السياحة العالمية مرتبط مباشرة بزيارة المواقع التراثية.

 

أمَّا لجنة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، فهي تقوم بشكلٍ دوريٍّ بإضافة مواقع جديدة ضمن المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي، وقد اعتمدت خلال دورتها الحادية والأربعين في يوليو 2017 إدراج 21 موقعاً جديداً في قائمة التراث العالمي، وبالتالي أصبح عدد المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي بعد هذه الإضافات الجديدة 1073 موقعاً. وهناك عدمُ إنصافٍ في هذا الإدراج، بسبب هيمنة البلدان الأوروبية على هذه التصنيفات، في حين نجد دولة مثل مصر فيها سدس آثار العالم، ولم تعتمد اللجنة إلا عدداً قليلاً من آثارها، وقد يكون ذلك بسبب قلة الترويج لها، وعدم الاهتمام بها بشكل يشجِّع المنظمة الدولية على إدراجها في التراث العالمي.

 

ولهذا أدعو جميع الدول العربية، أن تبذلَ كلَّ ما تستطيعه من أجل تطوير مواقعها التراثية، وتدريب أبنائها على الاعتناء بها، لتصبح مصدراً للدخل، مع الاهتمام بنشر الأبحاث التاريخية والعلمية، ودعوة العلماء من كلِّ الجامعات المتخصصة في التراث إلى زيارتها وتسليط الضوء عليها، مع عدم نسيان القنوات السياحية والتاريخية المهمَّة في هذا المجال، مثل قناة التاريخ، وناشيونال جوغرافيك، وديسكفري وغيرها؛ لأنها ستقوم بتوجيه أنظار السيَّاح إليها.