1,250 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
الألغاز فنٌّ لا يتقنه إلا من عرف المعمّيات، ودرس خفايا المعاني، فصاغ منها ما يُعجز أولي الألباب، بفهمه وقدرته العجيبة، نثراً وشعراً، على إخفاء الجواب في قوالب، لا يمكن الوصول إليها، بغير علم وخبرة طويلين، وطول دربة في هذا المضمار. وقد أولع العرب بهذه المعمّيات والألغاز منذ الجاهلية إلى اليوم، ولم يتوقفوا عنها في أشعارهم وأسمارهم، وقد أسموها عدة تسميات.
يقول البغدادي في خزانته:
إنَّ هذا الفنَّ وأشباهه يسمَّى المعاياة، والعويص، واللغز، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعاني، والملاحن والمرموس، والتأويل، والكناية، والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمَّى، والممثل، والمعنى في الجميع واحد، وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته، فإنك إذا اعتبرته من حيث هو مغطَّى عنك سميته مُعمًّى، مأخوذ من لفظ العمى، وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول، وكل شيء تغطَّى عنك فقد عمي عليك، وإذا اعتبرته من حيث إنه سُتر عنك ورُمس سميته مرموساً مأخوذ من الرَّمس، وهو القبر، إلى آخر ما قال، ومنه قول شاعر قديم:
وشعثاءُ غبراءُ الفروع منيفةٌ
بها توصف الحسناء أو هي أجملُ
دعوت بها أبناء ليل كأنهمْ
وقد أبصروها معطشون قد انْهلوا
ويعني بالشعثاء النار؛ لأنها تتفرّق في أعاليها وتوصف بها الحسناء. وغير هذه الأبيات كثير في الشعر العربي ولا تزيد على بيت أو بيتين، ولا تكون أكثر من ذلك إلا قليلاً كما هو معروف في الشعر الفصيح والشعبي.
ولكن لو بحثنا عن كلِّ أصحاب الألغاز، فصيحهم وشعبيهم، منذ القرون الأولى حتى اليوم، فلن نجد من يصل إلى ما وصل إليه سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، من مهارة فائقة في صناعة الألغاز في الشعر الشعبي الذي أظهر فيه براعة لم نجدها عند أحد من الشعراء الأولين والمعاصرين، فقد حوّل اللغز الشعري إلى لوحات فنية متصلة ومتسلسلة، لا يمكن لأحد مجاراتها إلا بشيء قليل، ولا يمكن أكثر من ذلك، فقد أعجز كثيراً من كبار الشعراء في العقود الماضية، ولكنه مع هذه الصعوبة أثارت ألغازه قرائح الشعراء، كبارهم وصغارهم، من كل مكان، فدخل عدد لا يحصى منهم في محاولة الرد عليه حتى امتلأت المجلدات بالردود، فحرّك الساحة الشعرية بقوة وأعاد للشعر مكانته، وجذب الشباب فأصبحوا بسبب هذه المنافسات شعراء لهم مكانتهم اليوم في الشعر، التي يشار إليها بالبنان، وقد رأيت هذا بنفسي وعاصرته وأعرف كثيراً منهم.
وقد تعوّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، أن يبدأ شعره بالفلسفة والحكمة والتدبر وحث الناس على قراءة مقدماته عدة مرات؛ لأنها قصائد من شاعر قائد فذ زعيم مجدد، فلا بدَّ أنَّ في معانيه كثيراً من الحكم والرؤى والأفكار والنظرات في الحياة والسياسة والاقتصاد والقيادة، والحديث أيضاً عما يشعر به كشاعر مفلق وزعيم لا نظير له بين الزعماء اليوم، وإن أنسَ لا أنسَ قوله في مقدمة أحد ألغازه، وهو اللغز الخامس، وأنا دائم التمثل بهذه الأبيات، فيقول بوراشد، رعاه الله:
حَكَّم زماني والدهر دوم عَيّال
والزَمْ عليّه بالوفا والسدادِ
ودَبَّر مودِّي عقب ما زاد الاحمال
على الفواد اللى لطيفه ينادي
كنّي من أحكام الليالي بمدهال
أسِدّ درب السيل والسيل بادي
يظنّني الغافل مريحٍ بمنزال
ما فيه غير الإنس رايح وغادي
ما يدري أنّي أحمِلْ هموم ثقال
وأجالِد الدنيا طويل الجلادِ
فمن يقرأ هذه المقدمة، سيتعرَّف إلى العمق الشديد في أشعار سموه التي يصعب على النقاد سبر أغوارها، وإنما يصلون إلى سطحها، ولا يمكنهم العوم في محيط هذه المعاني، التي لا أعدّها من السهل الممتنع فقط، ولكني أعدّها من معجز الشعر الذي لا يستطيع أن يصل إليه أحد من الناس، إلا شاعر قائد له مواصفات زعيمنا المفدّى بوراشد، وفقه الله وسدد خطاه.
منذ يومين، فوجئت بوصول قصيدة إلى (واتساب) جوالي وأنا قادم من مدينة العين، بعد تخريج الدفعة الثامنة والثلاثين من طلبة وطالبات جامعة الإمارات، فأخذت الجوال وبدأت أقرأ القصيدة مرة ومرتين وأكثر، ثمَّ غنيتها وسجلتها وبدأت أستمع إليها، وأتفكر في مفرداتها ووزنها ولحنها ومعانيها وفلسفتها، ولم أنتبه أنَّ فيها لغزاً صعباً جداً، يختبئ في ثناياها، فقلت في نفسي: ما هذه، أهي تحفة فنية من فنان عظيم، أم هي سيمفونية من ملحن خطير، أم هي جمل فلسفية نحتاج إلى ابن رشد ليحللها ويعرف فحواها ومفهومها، أم هذه رسائل وعظية.
لا أدري، فقد صرت في حيرة من أمري، أجول في سيارتي وأنا أفكر في جمالها وسحرها، وكيف أستطيع حل لغزها العجيب، ولهذا قلتُ: لا بدَّ أن أشرحها لنفسي أولاً، وللقراء الكرام، ثمَّ أبحث عن إجابة لهذا اللغز الذي حيّر الشعراء والنقّاد.
يقول سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم:
بـادَرَتـني وفــي يـديها الـكتابُ
عَــنْ سُــؤالٍ لا يـعـتريهِ جَـوابُ
عندما قرأت هذا البيت الأول في هذه القصيدة العصماء تعجبت من صياغته وحبكته، فقد جمع فيه المبادرة والكتاب والسؤال والجواب، فهل هي امرأة حقيقية مثقفة تحمل الكتاب في يديها وتسأل أسئلة صعبة صوّرها كأنها بين أعيننا، أم هي من خياله الذي أراد بها أن يلفت أنظارنا إلى الحقيقة من مغزى هذه القصيدة، وعلينا أن نراها كما يراها هو، وقد جزم بأن سؤالها صعب لا يعتريه وليس قريباً منه الجواب، ثم آثر أن يتابع وصفه ليزيل عنا الظن أو الشك، فقال إنَّ هذه الفتاة التي تحمل الكتاب بيديها جميلة جداً، فهي:
بَــضَّـةٌ كَـفُّـهـا كـمـلـمَسِ طـفـلٍ
ومـنَ العيدِ بانَ فيها الخِضابُ
بضة: ناعمة البدن، ملمس كفها من ليونته كما تلمس الطفل، ولم يتوقَّف عند وصفها، بل ذكر وقت السؤال وهو يوم العيد، الذي تتزيَّن فيه النساء وتضع الحناء على الأيدي والأقدام، كما جرت عادتهن في الخليج العربي وبعض الدول الأخرى، فما سؤالها يا ترى، ولماذا وجّه الشاعر عيوننا إلى هذه اللوحة الجميلة في اليوم السعيد؟ هذا ما سنعرفه بعد قليل..
ثمَّ يتابع شاعرنا الكبير في وصف هذه الفاتنة، ويؤكّد أنها حقيقة، ولها صفات ومهارات، فهي ذات صوت جميل:
وتُـغَـنِّـي الــعـود شَـــدوٌ ولَـحـنٌ
وتُــهَـنِّـي ولـلـعـطورِ انـسـكـابُ
وهذه صورة جميلة يمكننا أن نتخيّلها، فهي رائعة الجمال في مكانٍ ما تمسك الكتاب، وتسأل هذا الزعيم الكبير الشاعر، ولا تكتفي بذلك، بل تمسك العود، وتغني وتهنّئ بالعيد السعيد، ولعلها هنّأته بكلمات شعرية وعطور العيد تضوع في المكان، فكأنها من كثرتها وطيب ريحها تنهمر على الشاعر في تلك اللحظة وكل الحاضرين، وشاعرنا وهو يصف هذا الجمال والطيب تذكر بهما طيب عمل الخير وجماله، فتخلص إلى وصف الخير والحث عليه، فقال:
لا يــزالُ الـورىَ بـخيرٍ إذا هُـمْ
جَـعَلوا الـخيرَ منهجاً فيهِ ذابوا
يـزرَعُ الوَردَ راغبُ الجَنْيِ ورداً
كـلُّ شَـيْءٍ لَـهُ يـكونُ احـتسابُ
نعم، لا يزال الناس بخير إذا عملوا الخير، وساعدوا أهل الحاجة، وجعلوا الخير منهجاً فيه، بل ذابوا في أعماله ولم يتركوه، وهذه وصية عظيمة يوصينا بها سموه، كما أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله عز وجل الخير بين فرض الصلاة والعبادة والجهاد، فقال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وجاهدوا في الله حق جهاده﴾، وما كان فعل الخير ليقع بين هذه العبادات العظيمة إلا لعظمته، وإن كان ندباً، ولكن في هذه الآية، وغيرها من الآيات والأحاديث، دلالة عظيمة على عظمته، وهو ما يقوم به بوراشد ليل نهار من مساعدة الناس في مشارق الأرض ومغاربها ولا يتوقف عنه لحظه منذ صغره، رعاه الله، تشهد عليه كل هذه المبادرات الإنسانية الكبرى التي لم أرَ لها مثيلاً في الدنيا؛ لأنَّ زارع الورد لن يجني غير الورد، وكذلك من يزرع الخير يلقَ الخير، والعكس صحيح؛ لأنه يكون لكل شيء في هذه الحياة حسبة لا خطأ فيه.
ونــتـاجُ الأشــيـاءِ يـنـتُجُ مـنـها
مـنـطِقٌ لـيسَ فـي مَـداهُ عِـتاب
ومـــنَ الـــذَّاتِ والـمَـلَذَّاتِ رَجْــعٌ
فـيهما يَـعذِلُ الـمُصابَ المُصابُ
انتقل هنا الشاعر إلى موضوع فلسفي، يمهد فيه ما سيأتي من القصيدة، فقال: إنَّ الأشياء المنطقية والأفكار الصحيحة ينتج منها كلام منطقي، لا يمكن أن يعاتب الإنسان عليه، لأنه لا يخالف العقل السليم والفطرة، ومع هذا فإنَّ الذات والنفس التي تحب الملذات والتهاون، لها رجوع إلى الحق، وهناك تلوم النفس اللوامة، ويعذل من أصيب منها صاحبه المصاب أيضاً، فتعود إلى رشدها وفطرتها السليمة وإن ابتعدت قليلاً، ولهذا أيها القارئ الكريم:
وتَــرَىَ الـنـاسَ كـالمعادنِ أمْـراً
ذَهَـــبٌ مـــنْ نـفـوسـهِمْ وتُــرابُ
فهنيئاً لمن كانت نفسه من الذهب الخالص، التي تحب العمل والجد ونفع الناس، ولا تكون كمثل أولئك الذين رضوا بالدون، وتركوا المعالي فهم والتراب سواء، وفي الحياة أيضاً لا يمكننا أن نفرق العجيب عن أخيه الغريب، فالدنيا مليئةٌ بالعجائب والغرائب، ولكن مع وجودها لا يمكن للغراب أن يحاكي مشية القطاة، فمن كانت نفسه ترابية فلن يصل إلى درجة الذهب، ولو حاول ذلك مراراً، ولهذا يقول سموه:
وعَـجـيـبٌ أخـــوُ غـريـبٍ ولـكـنْ
لا يُـحاكي مشيَ القَطاةِ الغُرابُ
ثم يتابع سموه في فلسفته وتسلسل أفكاره، وكأنه يقول: لعلَّ معترضاً يعترض على ما قلته من حجج وأدلة والرد عليهم بأنه:
جُــعِـلَ الـعَـقـلُ حُــجَّـةً ودلــيـلاً
وإلــىَ الـعَقلِ لـلعقولِ انـتسابُ
الفرق بين العقل والجهل والجنون أنَّ العقل ينتسب إلى العقول النيرة المفكرة، بل العقل وحده حجة، ودليل على المعترضين، فكيف إذا أضفنا الشواهد والاعتبارات إلى ذلك. ثم يكمل شاعرنا الكبير هذه الفلسفة العجيبة فيقول:
وحـجـابانِ عَــنْ كـثـيفٍ لـطيفٍ
طــابَ مـنْ طـيبِهِ الـمِلا والـمَلابُ
وانـكشافُ الأمـورِ عـنْ عبقَري
فـي سـرابٍ يقفو خُطاهُ سَرابُ
فــي تـلابـيبه مـن الـعلم حـشو
ومــن الـفـهم والـضـياء إهــاب
ما هما هذان الحجابان؟ هل هما حجابان يحجبان العقل عن الفكر الصحيح الذي وصفه بأنه كثيف ولطيف وله رائحة طيبة تطيب منها العطور نفسها، ولكن بسبب وجود الحجابين يبتعد العقل فيضل عنه وعن الوصول إلى الحقيقة المنشودة والمكانة الصحيحة، ولكن العبقري تتكشف له الحقائق، ولو كان يسير في سراب يتبعه سراب لا شيء فيه يحسبه الظمآن ماء، وليس بماء، فهو يحمل في صدره علماً محشواً وفهماً وضياءً يدله إلى الطريق الصحيح، وإن كان في مفازة صحراء لا أعلام فيها يحيط بها السراب من كل مكان.
اللغز
هذا العبقري يستطيع أن يحلَّ أيضاً هذا اللغز إن وصل إلى المراد منه في هذه القصيدة، ولهذا انتقل سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى لغزه العجيب، بعد فلسفة عجيبة ونصيحة فريدة ووصف رائع، كأننا ننتقل في رواية ممتعة تنتهي بلغز، وعلى القراء أن يصلوا بما تقدم من مفاتيح إلى حل هذا اللغز، ولن أقوم بشرحه هنا، لأنني سأقوم بشرحه وحله في قصيدة منفصلة، فيقول بوراشد ملغزاً:
وسـؤالـي عــن مـستظل بـغيب
ذي شـمـول لــه الـمدى يـنساب
ومــن الـخـيل إن فـهمت فـخبّر
ولــه فــي حـوادث الـدهر نـاب
فـاتـحـا لـلـحياة والـخـير بـابـا
وعـلـى الـمـوت مـنـه يـفتح بـاب
وعـــمــود لـــــه وثـــــم عـــمــاد
واعــتـمـادٌ وصــحـبـة أغـــراب
ولــــه إخـــوة بـأسـمـاء شــتـى
مـــن تـراهـم يـا أيـها الأحـبـاب
هــــو لــغــز مــوضّــح وخــفـي
حــاضـرٌ غـائـبٌ وفـيـه ارتـيـاب
هل عرفتم قصدي إذاً خبروني
ومـــن الــلـب كــانـت الألــبـاب