869 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
تقارير الرحّالة الأوربيين الذين زاروا الجزيرة العربية خلال القرون الماضية القريبة أعدها من الكتب الجميلة والمفيدة التي أحرص على اقتنائها أينما وجدتها، وقد تجمع عندي منها المئات بلغات مختلفة، ولكني أستمتع بقراءتها باللغة العربية إن كان المترجم العربي متمكناً سلس العبارة، وإلا فأعود وأقرأها بالإنجليزية، لأنّ المترجم المتقن الفذّ لا بدّ أن يدخلك في عالم ساحر.
ويعود بك إلى ذلك الزمن الماضي بقوة تأثير العربية وسحرها، فكأنك رافقت الرحّالة في رحلته الشاقة، وعانيت ورأيت معه كل ما رأى، أما القراءة بلغات أخرى فإنك لا تشعر بهذه الفخامة، وإن كنت من متقني هذه اللغة، لأنّ اللغة الأم تختلف تماماً عن أية لغةٍ أخرى مكتسبة، وأيضاً فإنّ من مميزات لغتنا العربية، والتي فاقت بها كل لغات العالم، أنّها قمةٌ لا تبلغها قمّة في الوصف والشعور بمفرداتها، وكأنها عندما تسمع ألفاظها أو تقرأها يخيّل إليك من سحرها أنّها مشاعر وأحاسيس حيّة تؤثر بنا حتى تصل إلى الأعماق من أرواحنا.
من أصحاب هذه الرحلات الخطرة؛ رحّالةٌ شاب بريطاني يدعى “وليم هنري شكسبير”، اسمه يشبه الأديب الكبير البريطاني، ولهذا عندما يُسمع اسمه يظن بأنه شكسبير المعروف، وهو شاب مخلص جداً لحكومته، في غاية الذكاء والمهارة والإقناع، وُلد في مدينة “بومبي” الهندية عام 1878م، حيث كان والده يعمل موظفاً هناك، ثم انتقل مع والدته إلى بريطانيا، ودرس في مدرسة «بورتسموث النحوية»، ثم في 1896م دخل كلية «ساندهيرست».
وتدرج في الرتب حتى أصبح قائد سلاح الفرسان السابع عشر في بنغلادش في سنة 1899م، ثم تغيرت حياته تماماً بعد أن انضم إلى الخارجية وشؤون دول الكومنولث وأصبح مستشاراً ثانياً في الهند البريطانية، وعيّن قنصلًا في “بندر عبّاس” و”مسقط”، ثم في 1908م عيّن مساعداً للمقيم السياسي في الخليج، وفي عام 1909م أصبح عميلاً سياسياً لدولته لدى “الكويت”، وكان فصيحاً في العربية، ولا أعلم أين تعلمها، وقد يكون درسها بعد تعينيه في “بندر عباس” أو مسقط، لأنه يتقن أيضا اللغات الفارسية والأردو والبشتو، ما يدلك على أنه كان يتمتع بعقلية فذّة سخّرها لخدمة علَمه البريطاني.
قام هذا المغامر الخطير بسبع رحلاتٍ استكشافيةٍ مهمة في الجزيرة العربية، وهي وإن كانت قصيرة، ولكنها لم يسبق أن قام بها أحد قبله، وكان ينطلق من الكويت ويعود إليها، وفي عام 1911م التقى لأول مرة الملك عبدالعزيز بن سعود وهو في ضيافة الشيخ مبارك الكبير، وقال له الملك: “بما أنك صديق للشيخ مبارك فأنت صديقي”، ومن هذه الزيارة توطدت علاقته بالملك، وأخبره بأن بريطانيا ليس لها مطامع في نجد، وإنما تريده ألا يتعرض إلى مناطق نفوذها في الخليج العربي، وقد وافق الملك على ذلك لأنه يريد مساعدتهم في القضاء على العثمانيين في المنطقة.
العجيب أن شكسبير مع احتفاظه بصداقته مع الملك عبدالعزيز، إلا أنه كان يرسل لحكومته تفاصيل سرية كثيرة عن الملك وسياساته وأسرته، ووصفاً دقيقاً لجيشه وعتاده، وهذا إخلاص منه منقطع النظير، وليتنا نتعامل بهذه الحرفية مع الآخرين لكي لا نقع ضحية لطيبة قلوبنا، واستغلال بعض أعدائنا الذين يظهرون لنا بمظهر الأصدقاء المحبين، وكما قال الشاعر الأول:
احذر عدوّك مرّةً
واحذر صديقك ألف مرّةْ
فلربما انقلب الصديقُ
فكان أدرى بالمضرّةْ
في الثالث من فبراير من عام 1914م بعد عودته من بريطانيا، انطلق النقيب “وليم شكسبير” في رحلته الأخيرة إلى عمق الجزيرة العربية لزيارة الملك عبدالعزيز، ورافقه عشرة رجال معهم 18 جملًا، بعضها للركوب، والباقي لحمل الأمتعة، وكان شكسبير يمتطي ناقته “ذهبية”، وقد عزم أن تكون رحلته هذه شاملة ليكتشف كل ما يقدر عليه اكتشافه لخدمة أغراض دولته العسكرية. وقد اتجه من “جادة الباطن” إلى “الرقعي”، حيث تم تهديده على مياهها من قبل بعض قبيلة مطير، ثم إلى “الحفر”، ثم إلى “قبة”، حتى بلغ الدهناء، ليكون أول من يصلها من قومه، ثم بلغ مدينة “الزلفي”.
وبعدها توجه إلى “الرياض”، وكان يسجل كل شيء ويدرسه، وفي الثالث من مارس وصل إلى “الرياض” واستقبله الملك عبدالعزيز، وبقي فيها حتي الثاني عشر من الشهر نفسه بعد مشاورات طويلة مع الملك، وبعد أن وصف الرياض وصفاً دقيقاً وتجول فيها وصوّرها، انتقل بعدها لإكمال رحلته إلى القصيم، ثم إلى الجوف، حتى بلغ سينا، ليكمل 1800 ميل لم يعبر أغلبها أوروبي قبله.
نشر في البيان