1,209 عدد المشاهدات
المقالات التي يدأب الكتّاب، من شعراء وروائيين، على نشرها في الصحف أو المجلات، هل يمكن جمعها في كتب وتحريرها من أسر اللحظة التي كتبت فيها بصفتها مقالات متفرقة، متعددة الحقول والشواغل؟ هذا السؤال غالباً ما يُطرح كلما أقدم شاعر أو روائي على جمع مقالات له كان نشرها في الصحافة، في كتاب. ولئن كان شائعاً ان كتابة المقالات في الصحف تخضع لظروف ومسوّغات تختلف عما هي عليه في الكتابة الادبية والابداعية، فمن الملاحظ ايضا أن كتابة المقالات يمكنها ان تبلغ في أحيان كثيرة مرتبة الكتابة الابداعية. ولكن هل كل ما يكتبه الادباء في الصحافة صالح لأن ينشر في كتاب ويخرج من سياقه الزمني والموضوعي الذي تفرضه الكتابة الصحافية؟ طبعاً لا. وفي الغالب يعمد الادباء الى انتقاء المقالات التي يجدونها خليقة بالنشر في كتاب ثم يخضعونها لنظام التبويب فتبدو وكأنها كتبت لتستقر ختاماً في كتاب يسبغ عليها طابعاً فريداً. هذا ما يسعى اليه عادة الكتّاب الذين يطلون على قرائهم في الصحافة، من خلال مقالات تختلف كل الاختلاف عن المقالات السياسية و«التعليقات» اليومية. إنها مقالات مكتوبة بروح إبداعية، ببراعة وأريحية، وفيها يعتمد الكاتب لغة تجمع بين المتانة والبساطة، وأسلوباً يوفّق بين السلاسة والإيجاز، فتكون هذه المقالات في متناول القراء العاديين والنخبة في آن واحد.لعل الشاعر جمال بن حويرب في مقالاته التي جمعها وأصدرها حديثاً في كتاب عنوانه «يوميات» هو واحد من هؤلاء الكتّاب الذين نجحوا في استقطاب القراء على اختلاف مشاربهم بعدما تمكن من رفع الكتابة الصحافية الى مرتبة الكتابة الادبية ذات الهم الثقافي والاجتماعي والوطني. وقد وفّق الشاعر في اختيار عنوان هذا الكتاب، فـ «اليوميات» تحمل الكثير من المواصفات الاسلوبية واللغوية، وهي أبعد دلالة من «المقالات»، علماً انها في أصلها مقالات كتبت في تواريخ محددة. ولعل إدراج بن حويرب لها في سياقات جديدة و»أبواب» منحها فعلاً صفة «اليوميات»، من غير ان تكون يوميات سردية او مذكرات تُكتب يوماً تلو يوم. بل هي كتابة شبه يومية ترافق قضايا جمة تعني المواطن مقدار ما تعني الجماعة، في الامارات كما في العالم العربي.تمـــيّــزغير أن ما يميز «يوميات» جمال بن حويرب هو خلفيتها الثقافية والمعرفة وابتعادها عن النزعة الإنشائية او الادبية التي تسم كثيراً من المقالات التي يكتبها الادباء في الصحافة. لكنّ هذا الابتعاد لا يعني ان بن حويرب يغض الطرف عن الناحية اللغوية والاسلوبية والجمالية في ما يكتب، بل هو يمنح اللغة والاسلوب كبير اهتمام ولكن ليس على حساب المضمون والقضايا التي يعالجها، وهي تحتاج أصلاً الى التحليل والدقة في النظر. وهنا تكمن خصائص الكتابة الصحافية لديه، فهو يجمع بين الموضوعية والهم اللغوي والاسلوبي، فلا يكاد البعد المعرفي في مقالاته، يفارق البعد الادبي. ومن خصال مقالات بن حويرب الرشاقة في التعبير والايجاز والابتعاد عن الإطناب، فهو يُنزل الفكرة في لبوسها من غير زيادة أو نقصان. وقد يسأل قارئ بن حويرب: كيف لهذا الشاعر المعروف بأصالته ان يتطرق الى موضوعات علمية ومعرفية غالباً ما يعزف عنها أهل الشعر والادب ويتحاشون الاقتراب منها؟ والجواب ان الشاعر يمكن ان يكون حاضراً في قلب المعترك المعرفي الحديث وان يحافظ على طباعه وهويته.هكذا يتطرق بن حويرب الى موضوعات وقضايا تعني الحياة العربية الحديثة والانسان والمجتمع العربيين، ومنها على سبيل المثل: الولاء، المواطنة، الثقافة الالكترونية كالتويتر والفايسبوك وسائر وسائل التواصل الاجتماعي، الداء والدواء، الانحطاط الفكري،، تغريب التعليم، الرياضة بصفتها ثقافة العصر، البطالة، الزواج، سوء الفهم، المكتبة العامة، تحديات اللغة العربية، غزو اللغات الاجنبية، العولمة، التراث، اللهجات المحلية، التسامح… وهذه الموضوعات أو القضايا تتوزع كما تدل عناوينها في حقول عدة ترواح بين السياسة والاجتماع والثقافة اليومية والتاريخ والعلم والتواصل واللغة وسواها. ويتطرق الكاتب في المقدمة الى قضية طالما الحّت عليه وهي النشر، فهو كما أعرب مرات عدة، كان يتردد في نشر ما يكتب سواء من شعر أم من نثر، وقد باشر النشر في الصحافة في منتصف التسعينات عندما راح ينشر قصائده بعد طول تردد. ويقول في هذا الصدد: «وكنت في حيرة من أمري أتساءل: أأترك هذا النتاج الادبي طيّ الكتمان أم أدسه في التراب أم أنثره في صفحات الصحف؟». ويشير الى ان الانترنت لم يكن وجد آنذاك ولا شبكات التواصل الاجتماعي التي تتيح للمرء ان يكتب ما يشاء ويرسله (ينشره) متى يشاء. ولكن سرعان ما بدأ النشر، شعراً ومقالات، وواظب على النشر حتى باتت اطلالاته وفيرة وبات قراؤه لا سيما في صحيفة «البيان» ينتظرون مقالاته، وهو منها اختار مادة كتابه «يوميات» الصادر حديثاً عن دار «العبيكان» (الرياض).شموليةيفاجئ جمال بن حويرب قارئه بشمولية ثقافته واتساع رقعتها وقد وزع مقالاته وفق الابواب الآتية: وطنيات، اجتماعيات، لغويات، اشتقاقات، تراثيات، مشاهدات. ويحار القارئ امام هذه المروحة من المقالات التي يصعب تناولها في مقال صحافي بخاصة انها تتناول شؤوناً متعددة تعدّد وجهات النظر التي يلقيها الكاتب من حوله، ناقداً ومعلقاً ومحللاً يدق ناقوس الخطر ويسعى الى اداء دور اصلاحي، ولكن في منأى عن أي وعظ أو ادعاء أو تكلف.في مقالته «اكتبوا تاريخكم قبل ان يُكتب مشوّهاً» يرى ان «كتابة التاريخ أمانة عظيمة تهاون في حملها بعضهم وآخرون تطفلوا عليها فحملوها ظلماً وعدواناً، حتى شوّهوا محيا التاريخ الجميل بكذبهم وتلفيقاتهم مرة وبجهلهم واختلاط الامور عليهم تارة اخرى». هذه الملاحظة الصائبة هي حافز على معاودة النظر في كتابة التاريخ وتصحيح ما اعتراها من أخطاء وهنات، ولا بد من استعادة النصوص التاريخية والنظر فيها بغية الوقوف على حقيقتها وصوابيتها. وفي تناوله مسألة «الولاء» عبر مقالات عدة يضع بن حويرب الاصبع على الجرح، فالولاء قضية إشكالية يعانيها العالم اجمع وليس عالمنا العربي فحسب، وهي كما يقول «مفردة عظيمة لا يعرف قيمتها من لا يفهمها، أو لا تنفع قلبا فهمها واستخدمها في غير محلها. ومن خطر هذه الكلمة انها قد تكون سببا لتغيير دول في غمضة عين، نسمعها او نلفظها ولا نشعر بأهميتها وهي الخير كله او الشر كله». يخص الكاتب قضية الولاء بإثني عشر مقالا فتبدو المقالات بتتابعها كأنها دراسة مكتوبة بدراية ومعرفة. ويحذر من اخطار الولاء الخاطئ ومن «الولاء بالفكر المتقلب الضعيف»، ويخلص الى ما يسميه «فلسفة» الولاء. وهذه المقالات تحتاج الى مقال على حدة نظرا الى اهمية الطروحات التي تحملها.اما قضية التواصل الاجتماعي الحديث ووسائله فيخصها بن حويرب بمقالات عدة طريفة وعميقة وصائبة، قهذه القضية التي تعد من نتاج العولمة، تجتاح حياتنا اليومية وتكاد تهدد ثقافتنا جراء استخدامنا الخاطئ لها. في احد المقالات وعنوانه «عزيزي المغرد… إحذر أنت في خطر» يرى الكاتب ان التقنيات الحديثة كلما تطورت في العالم الافتراضي تقاربت المجتمعات المتباعدة بعضا عن بعض، في الافكار والمعتقدات و اللون واللغة، وكأنها باتت تحيا في قرية صغيرة يمكنها بفضل التقدم العلمي ان تتسع لمليارات الافراد من كل مكان، وفي اللحظة نفسها في عالمنا الخيالي. لكنّ هذه التقنيات، كما يشير،خرجت عن السيطرة وتخطت حدود الفهم. وإن كان صحيحا ان مستخدم الانترنت يتعلم منه كل يوم بل كل لحظة تبعا لكثرة المعلومات التي تفيض منه، فإنّ هذا المستخدم ينبغي له ان يظل متنبها للاخطار والاخطاء التي تنجم عن استخدامه. الانترنت اختراع رهيب، «فضاء واسع جدا لا يمكن ان تقاس ابعاده ولا تُدرك اسراره ولا تكتشف خباياه»، لكنه لا يخلو البتة من المساوئ التي تتهددنا وتتهدد الاجيال الجديدة.هذه ليست إلا نماذج من مقالات جمال بن حويرب التي يصعب استعراضها في مقالة صحافية، وهي مقالات تجمع بين عمق التحليل ودقة الملاحظة وسلاسة الاسلوب، وهذه الخصائص هي التي منحتها بعدها المعرفي والانساني وحررتها من الطابع العرضي الذي غالباً ما تتسم به المقالات الصحافية.