3,339 عدد المشاهدات
الكاتب: خليل البرّي
“برج راشد، ميناء راشد، مطار دبي الدولي، ميناء ومدينة جبل علي، الحوض الجاف، مصنع الإسمنت، الألمنيوم، الفولاذ.. إلخ، كلها علامات بارزة مضيئة، ليس في سجل دبي فحسب، وإنما في مسيرة دولة الإمارات العربية المتحدة الناهضة.
هذه العلامات الآخذة في الرسوخ، جعلت الرأي العام الدولي والعربي، يتساءل عن الإنسان الذي يقف خلف هذه الإنجازات العظيمة، إنه صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، حاكم دبي.
والحقيقة المقرونة بالأرقام والوقائع تؤكد أنَّ سموه يخطِّط ليس لدبي وحدها، وإنما للدولة كلها، وإلى عشرات السنين المقبلة، وفي خلده أنَّ أيَّ إنجاز تشيِّده دبي، أو أي تقدم تحرزه، ما هو إلا إنجاز وتقدم لدولة الإمارات من أدناها إلى أقصاها”.
تلك كانت مقدمة تحقيق كتبته في العدد الحادي والعشرين – السنة الثانية عشرة، من مجلة “أخبار دبي”، الصادر يوم السبت 4 حزيران “يونيو” 1977، تحدَّثت فيه عن إنجازات المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، طيّب الله ثراه. وفي مقدمتها ميناء جبل علي الذي أطلقت عليه الصحافة الغربية حينها بأنه “معجزة العصر”.. فما قصة هذا الميناء المفخرة؟
لعلي هنا أستشهد بما كتبه معالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، في مجلة الشرطة قبل وفاة الشيخ راشد بعامين، في مقالة بعنوان «المفاجأة الكبرى» قال فيها: “كان الشيخ راشد يداوم صباحاً في الديوان، ثمَّ يذهب ليجلس مقابل جبل علي في خيمة هناك، فسرت إشاعة أنه مريض ويحتاج إلى الراحة بعيداً عن صخب المدينة، والحقيقة أنه كان يخطِّط لبناء أكبر ميناء على وجه الأرض، بل وتكفي رماله المستخرجة لتلف قطر الكرة الأرضية”.
واستذكر خلفان كيف أنَّ الشيخ راشد كان يصل قبل الجميع إلى خيمة بسيطة مع مجموعة من صحبه، إلى منطقة جبل علي التي كانت سبخة لا حياة فيها، فكانت فكرة إنشاء ميناء في سبخة تقع في قلب اليابسة، إلى أن جاء وفد ياباني لزيارة دبي، وتفقد خلالها منطقة جبل علي، فقال رئيس الوفد: إنَّ هذا المشروع سيكون الأنجح على مستوى المنطقة، بل وسيشكِّل أهمَّ مصادر الدخل لدبي ما بعد عصر النفط.
فقال الشيخ راشد، رحمه الله: “إنَّ إقامة هذا الميناء، تأتي تماشياً مع خططنا لجعل هذا البلد مركزاً له شأنه في المجتمع العالمي، ولكي نحوِّل بلدنا من بلد يعتمد على التجارة فقط، إلى مركز يسهم في الصناعات العالمية المتطورة، ويسهّل السُّبل أمام هذه الصناعات لتمضي قدماً في خدمة الإنسانية ومجالات الحياة المختلفة”.
مشاريع صناعية كبرى
في العدد التاسع – السنة الثانية عشرة، الصادر يوم السبت 5 آذار “مارس” 1977، في تحقيق بعنوان: “ماذا يجري في جبل علي؟”، كتبتُ: “جبل علي أصبح اسماً على كلِّ لسان، ليس في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومنطقة الخليج العربي فحسب، بل وفي العالم بأسره.. فالمشاريع الجبّارة العملاقة التي يجري تنفيذها هناك بآلاف ملايين الدراهم، ومئات ملايين الجنيهات الاسترلينية والدولارات، من شأنها أن تغيّر الوجه الاقتصادي لهذه المنطقة، وتحيلها من منطقة منتجة للبترول، فحسب، إلى منطقة صناعية كبرى على وجه الكرة الأرضية، تضج بحركة لا تهدأ، وتستقطب الخبرات التقنية العالية من كل أرجاء المعمورة. سيتم إنجاز 10 مشاريع صناعية كبرى في جبل علي تشمل: مصهراً للألمنيوم، مصنعاً للألمنيوم، مصنعاً للإسمنت، ميناءً عميقاً، ميناءً سياحياً، ضواحي سكنية، مصنعاً للغاز، مصنعاً للصلب، محطة كبرى للكهرباء، مصفاة للبترول ومطاراً. أمّا مدينة جبل على السكنية فسوف تتسع لنصف مليون نسمة، وتختصر المسافة بين دبي وأبوظبي إلى 100 كيلومتر فقط”.
إليزابيث تشهد الافتتاح
خلال زيارتها للدولة في العام 1979، افتتحت الملكة إليزابيث يصحبها الشيخ راشد “ميناء جبل علي” الذي ضمَّ 72 رصيفاً واستغرق العمل فيه 4 سنوات، وضمَّ ترسانة لإصلاح السفن وأرصفة خاصة مجهزة برافعات تبلغ حمولتها 6 آلاف طن، وحوضاً جافاً يضمُّ مرابط للسفن التي تبلغ حمولتها 30 ألف طن.
وقام الموكب بعد ذلك بجولة في أنحاء المنطقة الصناعية في جبل علي، حيث كان يجري استكمال إنشاء معمل ومصنع الألمنيوم الذي بدأ إنتاجه في شهر أكتوبر 1980، كما كان العمل يجري آنذاك على قدم وساق لإنشاء مصنع غاز النفط السائل الذي سيقوم بتكرير كل الغاز الطبيعي الناتج من حقول «فتح»، إضافة إلى مصنع للإسمنت تبلغ طاقته الإنتاجية نصف مليون طن سنوياً، وورشة تصنيع هياكل الفولاذ الإنشائية ومحطة توليد الطاقة البخارية ومصنع كوابل الأسلاك الكهربائية.
وتوجّه الموكب الملكي بعد ذلك إلى مجمع ومصهر الألمنيوم ومشروع تحلية المياه. حيث كان في استقباله آنذاك سمو الشيخ حمدان بن راشد وزير المالية والصناعة ورئيس مجلس إدارة شركة دبي للألمنيوم المحدودة «دوبال»، ودعا سموه الملكة إليزابيث الثانية لإلقاء كلمة موجزة، ومن ثمَّ التفضُّل بتدشين مشروع تحلية المياه التابع لشركة ألمنيوم دبي المحدودة.
نهج دقيق ومنظم
عُرِفَ عن الشيخ راشد، رحمه الله، أنه كان يتبع نهجاً دقيقاً ومنظماً ومتفرداً لمتابعة الأعمال والمشاريع ضمن جدول يومي، حيث كان يقوم بجولتين في مدينة دبي يومياً يتابع فيهما المشاريع. ولا يكتفي باستطلاع سريع، بل كان يتابع أدقَّ التفاصيل لأيِّ مشروع قيد التنفيذ في دبي، وكان يتابع كلَّ شيء بنفسه خطوة بخطوة، وكانت هذه الجولات فرصة للالتقاء بعامة الناس عن قرب والاستماع إليهم وتلبية مطالبهم، وبعد عودته من جولاته اليومية كان يمضي كثيراً من الوقت في أعماله الرسمية من خلال مجلسه الذي يتيح الفرصة للناس للالتقاء به، حيث يشاركهم قضاياهم ويصغي لمطالبهم ويعمل على تلبيتها.
وأولى الشيخ راشد، رحمه الله، مجلسه اهتماماً كبيراً، وحظي بإعجاب الجميع لما تحلّى به من حلم وصبر، إذ كان يصغي لكل رأي أو مظلمة، ضامناً للجميع أفضل الحلول للقضايا والمشكلات، وموفراً المساعدة لكل فرد، وكان المجلس يضمُّ أشخاصاً من جنسيات متعددة وفَّر لهم قاعدة للحوار البنّاء، ورجالاً يعتدُّ برأيهم، وكانت تتمُّ في المجلس دراسة المشاريع دراسة وافية والنظر إليها وإلى مراحل تطورها، ما يؤدي إلى تفهمها التام من قِبَل أعضاء المجلس.
التحليل والمقارنة
يقول معالي الفريق ضاحي خلفان في كتابه عن الشيخ راشد: “من بين خصاله وصفاته العديدة، القدرة على التحليل والمقارنة، فراشد بن سعيد آل مكتوم، كان رجلاً وحاكماً، من ذلك النوع الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على التحليل والمقارنة. وقد كان ذلك الأسلوب واحداً من أساليبه التي اعتمد عليها في ممارسة مهامه ومسؤولياته المنوطة به، كرجل يعتلي سدَّة الحكم وقمة المسؤولية في هذه البلاد. ومن هذا المنطلق، فإنَّ التطوير والرقي وشموليتهما بالنسبة لدبي، والإمارات بصفة عامة، والوصول بالبلاد إلى مقدم الركب الحضاري، ليس فقط على المستوى الخليجي، وإنما على المستويين العربي والعالمي، كان من أهم أهدافه، وبالتالي، اتخذ من التحليل والمقارنة لكافة ما يصادفه خلال تلك العملية التنموية، أسلوباً مميزاً في حياته”.
ويضيف معاليه: “كان راشد، رحمه الله، يملك القدرة على اختيار الوقت المناسب لتنفيذ عمل ما، فلم ينفذ أيَّ خطة من خطط التنمية بكافة أشكالها، إلا واختار لها الوقت المناسب”.
مجلس «هايدبارك»
ويؤكد خلفان: “القائد الناجح، هو الذي يملك القدرة على متابعة ما يصدره من أوامر وتعليمات، والمتابعة هنا، نقصد بها المتابعة الميدانية التي تُعدُّ وسيلة من وسائل الضبط والربط. فلا يكفي لأي إنسان مسؤول أن يصدر تعليمات وأوامر، دون التأكد من أنها تنفَّذ تنفيذاً مناسباً ومعقولاً. وقد كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، قائداً فذاً.. امتلك القدرة على متابعة قراراته متابعة مثالية”.
ويختتم معاليه قائلاً: “لم يكن مجلس الشيخ راشد للمجاملات، بل كان منبراً للتعبير عن الآراء مثل الـ«هايدبارك» في بريطانيا، كما أطلق عليه في حينها”.
وأوضح أنَّ “من أبرز صفات الشيخ راشد القيادية التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، ومن هذه النماذج، منطقة مطار آل مكتوم، وميناء جبل علي”.
وأضاف أنَّ “الشيخ راشد كان يداوم صباحاً في الديوان، ثمَّ يذهب ليجلس مقابل جبل علي في خيمة هناك، حيث كان يخطِّط لبناء أكبر ميناء على وجه الأرض، وحاول البعض أن يثنيه عن إنشاء الميناء، فقال لهم (إذا لم أَبْنِهِ فلن تبنوه)، وهذه فلسفة آل مكتوم، التي توارثوها أباً عن جد، وهي أن يبنوا للمستقبل لا للحاضر فحسب”.