الصائغ الأحسائي ناشي المهنا

Business مدارات ونقوش - العدد 28 -29

 2,523 عدد المشاهدات

الكاتب:أحمد علي حمد الأمير – كاتب سعودي

كانت مدينة الأحساء -ولم تزل- مصدر إشعاع حضاري ومن أهم الحواضر الاقتصادية منذ القدم، حيث تعدُّ مقصد أهل الجزيرة العربية من بدو وحضر، حتى أضحى اسمها على قائمة المدن التي أنجبت عدداً لا يحصى من الأدباء والعلماء والشعراء، وحتى الصنّاع الذين أثروا الساحة الاقتصادية بحرفهم وصناعاتهم منذ ذلك الزمان الذي اعتمد بشكل رئيس على اليد العاملة المبدعة قبل غزو الآلات والنهوض الصناعي اللاحق.

من معالم مدينة الأحساء التاريخية وواحتها الغنية

لقد كانت مدينة الأحساء مهداً لعدد كبير من الحرفيين الذين استلهموا إبداعهم في الموروث الفني من النخلة التي تحيط بهم من كلِّ جانب، واستوحوا جودة نتاجهم من طيب ثمرها من رطب وتمر، كماً وكيفاً. حيث اشتهرت بوفرة الحرفيين المهرة في شتى الحرف، فكانت حرفهم مضرب المثل في الإتقان والإبداع حتى أصبحت الأحساء علماً على نتاجهم، حيث يُقال «المرتعشة الحساوية» و«البشت الحساوي» وغيرها الكثير، وذلك لجودة عملهم وإتقانهم المتناهي الذي يرغب في اقتنائه أهل الأحساء وخارجها، فشجَّع ذلك أهل الأحساء على السفر والهجرة للعمل في دول الخليج، حيث ينشط الطلب على نتاج حرفتهم في بلد في بعض الأوقات ويكسد في بلد آخر.

مرتعشة حساوية

   يقول شاعر الأحساء جاسم الصحيح:

(أحساءُ) يا جَنَّـةً بالنخلِ تلتـحـفُ

     يكادُ يُشرِقُ في عليــائِها السَّـعَـفُ

ما بين جَنبَيكِ.. لم يبرحْ يُـوَحِّـدُنا

     أَصْلٌ بهِ يلتقي الأحفادُ والسَّــلَــفُ

وفي ثراكِ أقـــامَ الفـــنُّ معبــــدَهُ

     للناسِ، فانطلقَ الإنسانُ والحِرَفُ

نحو دبي

من هؤلاء الحرفيين الأحسائيين الصائغ المحترف المرحوم ناشي بن علي المهنا.

مكث الصائغ الأحسائي الحاج ناشي بن علي المهنا، رحمه الله، في دبي قرابة سبعة وأربعين عاماً متواصلة دون أن يقطعها بزيارة إلى موطنه الأحساء، وبدأت رحلته في الثلاثينيات الهجرية من القرن الماضي، بعد أن تزوَّج في صباه في الأحساء، وغادر إلى دبي في مقتبل عمره سعياً لطلب الرزق، حيث عمل صائغاً في دبي في سكة الخيل، وبعد أن طال سفره في دبي بدون رفقة زوجته طلقها بوكالة لأحد أقاربه، حيث لم ترغب بالسفر، وتزوَّج بامرأة أخرى في دبي، وكان نسله منها، حيث استمرَّ مع زوجته الأخرى في دبي قرابة خمسة عقود قبل أن يقرروا جميعاً الرجوع إلى الأحساء هو وأولاده وبناته وزوجته، التي ذهبت معه إلى الأحساء، حيث تقدم إلى ابنته أحد أبناء عمّها من الأحساء وتزوجت به، وعلى إثر ذلك نزلوا جميعاً إلى الأحساء، فقفل ناشي إلى الأحساء التي غادرها في عمر العشرين ورجع لها في نهاية الستين من عمره،  وكان ابنه أحمد -أبو هاني- له من العمر ثلاثة أشهر أثناء عودتهم من دبي، وكان ذلك في نهاية السبعينيات الهجرية([1]).

الصائغ ناشي المهنا وهو يزاول حرفة الصياغة

محبة وتقدير

لَم يكن مكوثه الطويل في دبي وبعده عن الأحساء أمراً غريباً، فكان المكوث في دبي دافئاً رؤوماً كدفء أمه الأحساء، رغم بساطة العيش فيها آنذاك إلا أنَّ أهلها كانوا هم الإضاءة واللمسة الحلوة التي تضفي على تلك القطعة المالحة من الأرض، حيث كان البحر مصدر الماء والغذاء على الغالب، لكن طبيعة أهلها هي ما تميز أرضها بسعيهم دائماً نحو الأفضل منذُ القدم باستقبالهم الوافد وما يجلبه معه من حِرَف وعلم وثقافة، ومعاملتهم له بكل احترام وتقدير وعدل ومساواة، ليكون باعثاً للتوافد إلى بلادهم والاستقرار فيها، حيث لقي الحاج ناشي المهنا، رحمه الله، المحبة والتقدير من أهلها، فقد كان يصيغ حلي الذهب من المرتعشات الحساوية والسبحة الحساوية (المرية) والبناجر([2]) لكريمات الشيوخ، ومنهن الشيخة حصة المر زوجة الشيخ سعيد آل مكتوم والدة الشيخ راشد بن سعيد، رحمهم الله، ولعموم أهل دبي وغيرها من الإمارات؛ فكان الشيوخ والأعيان يصحبونه في طلعاتهم البرية في مواسم الربيع لما يكنّون له من محبة وتقدير.

الطب الشعبي

وكان بصحبته من الصاغة الحساوية في دبي أحمد العبد العزيز الناصر، وعبد الحميد الدجاني، وعبد اللطيف الدجاني، وحسين السمين، وأسرة آل الأمير من معازيب البشوت الحساوية، وغيرهم من الحساوية في الفترة التي واكبت وجود الصائغ الحاج ناشي المهنا في دبي آنذاك. ولَم يكن بعده عن الأحساء عقوقاً لها وزهداً منها، بل كان رجوعه إليها رجوع الابن المشتاق لأمه التي استقبلته استقبال الأم الرؤوم التي لا تكره أبناءها، حيث عوضه الله حرمان البعد عن الأحساء الذي دام قرابة خمسة عقود في دبي، بأربعة عقود أخرى في الأحساء؛ إذ كان من المعمّرين الذين امتدت أعمارهم بستة سنوات بعد المائة، حيث خدم المهنة إلى آخر عمره المديد. وكان الصائغ الحاج ناشي المهنا هو وأبناؤه من علامات الصياغة البارزة في الأحساء، حيث برعوا واشتهروا في النقش على الذهب([3]). كما كان له اهتمامات في الطب الشعبي، حيث كان يقصده من شتى مدن وقرى وبادية الأحساء وحتى من بعض دول الخليج ممن يعاني بعض الأمراض مثل «البوصفار» وغيرها من الأمراض التي تُعالج بالكي([4])، إلى أن لبّى نداء ربه في مسقط رأسه الأحساء عام 1417هـ، رحمه الله. 


[1]– مقابلة مع الحاج أحمد بن ناشي المهنا (أبي هاني) في محله في سوق الذهب بالهفوف في 15/1/2019م.

[2]– نوع من معاضد اليد الحساوية وتكون عريضة وثقيلة.

[3]– إفادة من الباحث الأستاذ أحمد بن حسن البقشي.

[4]– إفادة من الأستاذ حسين علي المحمد علي، مراسل هجر.