2,903 عدد المشاهدات
د. صالح محمد صالح – أستاذ ترميم وصيانة الآثار المساعد
كلية الآثار – جامعة الفيوم
د. إيهاب أحمد الخطيب – أمين بمتحف النسيج المصري
تأثرت الحضارة الإسلامية بالعديد من الفنون السابقة لها وأثرت فيها أثناء الفتوحات الإسلامية أو خلال التجارة الخارجية؛ ليتكوَّن فنٌّ يجمع بين الاقتباس والتجديد، ويحترم حدود العقيدة، فالفنُّ الإسلاميُّ من أعظم الفنون التي أنتجتها الحضارات؛ حيث تمــيز بخلق تصميمات جذابة ومتجددة لمنتجاته، واتجه فيها للابتكار، فلم يكرِّر نفسه على وجه الإطلاق، ولم يتقيد بعناصر معينة، كما نظر إلى الطبيعة وأخذ منها معانيها الخالصة، فشكَّل منها تشكيلات فنية وطبقها بحرية. وتعدُّ صناعة النسيج من الضرورات الدينية والاجتماعية، بل إنَّ وجودها للمسلمين من فروض الكفاية، ولذلك تطوَّرت في صناعتها وزخارفها.
نتناول في هذا المقال «زهرة البوته»، وهي نوع من التجديد في الزخرفة الذي انتشر على الملابس منذ القدم، وخاصة في القرن التاسع عشر، حتى صارت أهم أنماط الزخرفة على الملابس حتى الآن.
و«البوته» مأخوذة من الكلمة الهندية التي تعني الزهرة أو الشجيرات الكثيفة، وفي اللغة الفارسية تعني لمعان الأوراق، وهناك من يرى أنَّ البوته نوع من أشجار النخيل الذي يطلق عليه البوتيه Butiya، وهي إشارة إلى سعف النخيل، والتي ترمز للخصوبة، وهي نمط متكرر يشبه الدمعة الملتوية أو الفاصلة أو بعض الثمار مثل الباذنجان أو الكمثرى، ويطلق عليها أيضاً زخرفة المانجو، وتُعرَف باسم الباسيلي، وهو مسمّى يرجع إلى بلدة باسيلي، مأخوذ من الحضارة الآرية القديمة (بوتيــه)، فزهرة البوته تمثّل خاصية مميزة لنموذج البازيلي، والتي يطلق عليها في أذربيجان وكشمير اليوتا.
شواهد تطبيقية على زخارف البوته
نستشهد بالدراسة التي قام بها (سايروس برهام) على الفنون التطبيقية الإيرانية التي يعود بعضها إلى ما قبل الإسلام وبعده؛ حيث ظهر هذا العنصر الزخرفي في الفن السكيثي والإخميني، الذي استمرَّ تصويره بنفس الطريقة حتى العصر الساساني.
ويؤكد «برهام» أنَّ الفنون الساسانية المتأخرة والعصور الإسلامية الأولى فيها بعض الأدلة على وجود علاقة في الشكل بين شجرة السرو والبوته، بل يقال: إنَّ الشكل الأصلي للبوته مستمد من شجرة السرو التي انتشرت في الفنون الإيرانية قبل الإسلام، كما أنَّ البوته تشير أحياناً إلى لهب الزرادشتية كرمز للأبد، طبقاً لتقاليدهم الفلكلورية، كما أنها ترمز إلى النار في أذربيجان.
ونشأ هذا الأسلوب الزخرفي، وانتشر استخدامه على الشال الكشميري الذي كان يعتمد في زخرفته على المناظر الطبيعية، إضافة إلى التصميمات الهندسية المنمقة للغاية، والتي تمَّ تنفيذها بالتطريز بالخيوط المعدنية وخاصة على الحرير، وتميز هذا النوع من المنسوجات بألوانه المتعددة ومنها الأبيض والأصفر والأسود والأزرق والأخضر والقرمزي، لدرجة أنه يمكن دراسة تاريخ الزخرفة بالتطريز من خلال تتبُّع تاريخ هذه الزهرة.
الأنماط الزخرفية للبوته
تأثر التصميم الأصيل للبوته بالعديد من الثقافات، ومنها الأوروبية، حيث انتقل إلى الغرب نتيجة لتجارة السلع الكشميرية وصولاً إلى الهند وفارس، ثمَّ انتقل إلى أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، فهو ناتج عن مزج الثقافة الهندوأوروبية، «فالفن الإسلامي لم يكد يعرف في الغرب حتى نزل منزلة التقدير العظيم، فاتخذت القطع الفنية الإسلامية التي وصلت إلى أوروبا ثمَّ إلى أمريكا فيما بعد الصدارة»، وهناك العديد من أشكال البوته التي تمَّ رصدها على الملابس والسجاد على مر العصور، وكل منها لها شكل مميز، ومنها:
1- نبات Aslender
أصله فارسي يعود انتشاره إلى عام 1680م، وهو من أساليب الزخرفة قديماً، والذي يؤرخ بأنه أصل الزخرفة بالبوته، وقد انتشر هذا التصميم على أرضيات إيرانية تعود للفن المغولي.
2- الزهرة التوأمية
هناك تشابه بين شكل البوته والزهرة التوأمية، وتعدُّ التوأمة من أهم مميزات هذا الأسلوب الزخرفي، والذي يتكوَّن من مجموعتين تتصفان بالتناظر، ولذلك يجب عند دراسة زهرة الباسيلي أن نركِّز في درجة التماثل بين نصفيّ الزهرة.
3-البوته والــيين يانج
اليين يانج هو عنصر يرمز لكيفية التطبيق في العلوم الصينية القديمة؛ حيث تمثل الدائرة الخارجية «كل شيء»، بينما الأبيض والأسود داخل الدائرة يمثلان التداخل بين طاقتين متضادتين، وهما طاقة اليين الأسود، واليانج الأبيض، وهما طاقتان مؤديتان لخلق متطلبات الحياة، وهما ليسا أبيض وأسود تماماً، بل مثلهما مثل أي شيء في الحياة، وما ندلل به على العلاقة ما بين اليين يانج والبوته أنه عثــر في مدينة نيسابور (تقع شمال غرب إيران) على نقوش جصية بها عنصر البوته بطريقة الين-يانج.
4-البوته الكشميري
يعود أقدم انتشار للبوته الكشميرية المنسوجة إلى الربع الثالث من القرن الخامس عشر الميلادي، والتي صنعت للسلطان زين العابدين 1468م، وقد ذكر كثير من المؤرخين والجغرافيين والباحثين الكشميريين أنَّ هذا السلطان قام بإحضار التصميمات الزخرفية من إيران إلى الهند، وأصبح هذا العنصر من الموضوعات الشائعة جداً في الأوشحــة الصوفية الكشميرية.
5-الباسيـــلــي
الباسيلي هو الاسم الغربي للبوته، وهي بلدة تقع في غرب اسكتلندا بالقرب من جلاسكو، وكانت متخصصة في إنتاج الأوشحة والشالات المزينة بالبوته التي يرتديها الرجال والنساء، بل أصبحت مركزاً لتقليد المنسوجات الهندية.
وفي النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي أدخلت شركة بريطانية منتجات الأقمشة المصنوعة في كشمير إلى أوروبا، وأصبحت تلك المنتجات الواردة من كشمير، وخاصة شالات النساء لها شعبــية كبيرة في كل أنحاء أوروبا.
وأخذت بريطانيا زمام تقليد المنسوجات المنتشرة، والتي تعتمد على استخدام البوته، والتي انتشرت في الفترة ما بين 1790-1792م، بينما الشالات الأوروبية التي تعود لعام 1870م كانت أثقل وزناً، وافتقرت إلى محاكاة الطبيعة في أشكالها، وهي تعديل للنمط الزخرفي الكشميري، والذي استخدمت فيه التقنيات الحديثة.
وانضم نساجو مدينة بازيلي لتطوير هذه الصناعة المتــنامية، وفي عام 1812م أدخل النساجون خمسة ألوان مختلفة من الغزل بعد أن كانت مقتصرة على لونين فقط.
وفي فرنسا قام جوزيف جاكار بثورة في صناعة النسيج من خلال إدخال نول يعمل بنظام البطاقات المثقوبة، والتي تتميز بالكفاءة والدقة والسرعة في إنتاج الأقمشة، وذاع صيت هذا المصنع الذي زارته الإمبراطورة جوزفين، زوجة نابليون عام 1805م، وهذا يدلل على أهمية تلك التقنية، وعلى الرغم من التكنولوجيا الصناعية التي كان يمتلكها الأوروبيون، فإن الإنتاج كان أقل في الجودة من بلاد فارس وكشمير، حيث كانوا يستخدمون الأنوال اليدوية.
واهتم العرب اهتماماً كبيراً بصناعة المنسوجات، وتميز اليمن ومصر عن غيرهما من البلاد العربية، وعثر في مصر على العديد من الآثار النسيجية في حالة جيدة؛ بفضل المناخ الجاف والتربة الرملية، وتمَّ تسجيل زخارف البوته في منسوجات إخميم، والتي ترجع إلى (القرن السادس – الثامن قبل الميلاد).
والفرق بين الشالات الكشميرية والأوروبية: أنَّ الأولى تتميز بزخارف ذات أشكال أنيقة ساحرة ومبهجة، ودقيقة الصنع، ومنسوجة من الصوف مع شعر الماعز، ولذلك فهي أخفُّ وزناً عن مثيلاتها في البلدان الأوروبية.
وانتشر هذا التصميم على السجاد المصنوع حديثاً في يزد وكرمان، وهو في الغالب نُســج من الحرير والصوف، وكذلك على الأوشحة الكشميرية، وهذا التصميم ظهر في المناطق الأثرية التي اشتهرت بأنها مراكز للتجارة الخارجية. وفي عام 1960م حدث رواج كبير للزخرفة بالباسيلي، وفي عام 1994م قام Ritu Kumar بتجديد تصميم الباسيلي في مجموعة Karabagh’s collection وزاد هذا من أهمية انتشار هذه الزخرفة بما أضافته من قيمة للتصميمات المختلفة، بل زاد من انتشارها أنها استخدمت في زخرفة المواد الأثرية الأخرى مثل الحلي واللوحات الجدارية، والأغطية النسيجية، والفخار وغيرها الكثير.
وسوف تظل البوته هي الأسطورة القديمة التي ما زالت معاصرة لأحدث صيحات الموضة في الوقت الحاضر، والتي لم تؤثر فيها الميكنة أو التقنيات الحديثة، كما هو موضح بالصور.
نماذج حديثة لزخرفة الملابس بزهرة البوته
www.wikipedia.com
المراجـــع:
1-ت كويتر ينج، الشرق الأدنى، ترجمة: عبد الرحمن أيوب، م. أبو العلا عفيفي، محمد محمود الصياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002، ص29.
2-صلاح حسين، صناع النسيج في الآثار العربية الإسلامية في العصر العباسي، المورد، 1986، ص31-38.
3-محمود حمدي زقزوق، «الفــــن التجريدي»، موسوعة الحضارة الإسلامية، القاهرة، 2005، ص851.
4-Ankita Kallan, Evolution of paisley motif of Kashmir: A report on paisley motif of Kashmir, International Journal of Home Science 2018; 4(1): 172-180
Global History of Capitalism Project, From India to Europe: The Production of the Kashmir Shawl and the Spread of the Paisley Motif, University of Oxford, 2018
6-file:///H:/بوتة ايران القاجاري/pasily all web/Kravet inspired news — Ask Alice The Origin of Paisley.htm
7-www.wikipedia.com
8-Joan Hart, Kashmir Shawls: The Perfect Exemplar of a Textile
Shaping and Being Shaped, Textile Society of America Symposium Proceedings, Textile Society of America, 2016, p.673
9-سايروس برهام، والتي نشرت في دانيش لعام 1999 في المجلد 16، العدد 4، 1378.