2,066 عدد المشاهدات
الكاتب: سعد بن عبد الله الحافي
اختلاف الروايات في النصوص الشعرية العامية سمة غالبة نتيجة غياب التدوين، وكلما ابتعد زمن النص كثر الاختلاف في أبيات النص بل وفي شاعر النص، حتى إن أبياتاً معينة في النص تنسب لعدد من الشعراء نتيجة تشابه القافية والوزن مع نص للشاعر أو ربما نسب كامل النص لشاعر آخر نتيجة الشهرة التي تكون له في منطقة معينة وفترة زمنية معينة طغت فيها شهرة هذا الشاعر فينسب له كل نص أشكل معرفة شاعره عن جهل من الراوي ومحدودية الاطلاع، وحتى الآن ما زالت هذه الإشكالية قائمة وهناك أخذ وردّ على صفحات الصحف والمجلات المختصة وفي مجالس الشعر والرواة.
النص:
يقول دليان عبيد الفاضل
ينود ومن غير النعاس يذود
وايق على الما يا مشيط بن فاضل
عسى على الما يا مشيط ورود
تلقى بنات البدو يلعبن فوقه
ينسفن من فوق الغدير جعود
ولا درن بالعبد في جذع سدره
وقف على رأسه ذوابة عود
يا عم شفت البيض فيهن تنافل
كما الخيل فيهن سبقن وقعود
منهن من تسوى ثمانين بكره
ومنهن من ترخيص بقيد قعود
ومنهن من تضوي ويضوي لها الغنى
ومنهن من تنحى الغنى بعمود
ومنهن جناتٍ تداعج نهوره
ومنهن نيرانٍ بغير وقود
الشاعر:
هو دليان مملوك مشيط بن فاضل وفق ما جاء عند منديل الفهيد (رحمه الله) في كتاب ردود الرسائل بين المجيب والسائل الجزء السادس من سلسلة من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية ولم أجد من حدد عصره أو مكانه.
مناسبة النص:
جاء في تقديم النص أن المدعو دليان مملوك ابن فاضل كان مغرماً بالنظر إلى جمال نساء البوادي.. وعند نزولهم بالصيف على الموارد يحصل لهم مجتمع كبير فيقطنون حول أماكن تجمع مياه السيول (الغدير) والذي يبقى فيه الماء مدة طويلة على شكل بحيرة صحراوية وفي أطرافه يكون شجر السدر. وكان دليان قد جعل من هذا السدر مكاناً يختبئ فيه قرب الماء فإذا صدر الواردون بعد أن يستقوا من الماء فإن النساء يبقين للسباحة فيه فيتمكن من اختلاس النظر إليهن، وقد قال هذا النص في وصفهن.
دراسة النص:
نجد أن الشاعر بدأ قصيدته بذكر اسمه وأنه مملوك ابن فاضل، ثم يخاطب عمه مشيط بن فاضل مستفسراً عن مشاهدة جموع الواردين على الماء مؤكداً عند ذلك أنه سيجد الفتيات الجميلات يمرحن في الماء وهن يرفعن شعورهن المجعدة والمبللة بالماء ويحركنها للخلف بعد أن أطمأنن أن لا أحد يراهن ولم ينتبهن للمملوك المختفي في جذع شجرة السدر وقد وضع فوق رأسه أغصاناً من شجر السدر حتى لا يرى، ثم يصف مشاهدته للنساء ومعرفته بطباعهن وأن هناك بينهن اختلاف وتفاضل كما بين الخيل بين الأصيلة السابق والكديش، فيؤكد أن من النساء من تسوى ثمانين بكرة أي أنها تشبه الفرس الأصيل التي يقدر ثمنها بثمانين ناقة شابة، وهناك من النساء كالفرس الكديش التي لا تستحق أن يدفع فيها عقال صغير الإبل دلالة على حقارتها، وأن هناك من النساء من تكون خيراً وبركة على زوجها فبقدومها على زوجها أتت وأتى معها الخير والغنى، وهناك من النساء من تكون سبباً لفقر الزوج وكأنها تحمل العصا الغليظة على الغنى فتطرده عن زوجها، وأن هناك من النساء من هي كالجنة للزوج وهناك من هي كالنار.
وهنا تنتهي الأبيات التي أوردها منديل الفهيد ليؤكد أنه اقتطعها من نص فيه أبيات أخرى تخرج عن شيمة العرب وأخلاقهم وقد علق على ذلك بقوله: “أبيات أعتقد أنها ملصقة فيها لأن العرب ما يرضون سقط الكلام وما يقرب للشك ويتباعدون عنه وما يحدث من أسبابه من شر على الجميع فأنا توقفت عن ذكره لهذا السبب”.
تغيير النص
أقول: إن إشكالية الزيادة والتحريف تزداد في النصوص القديمة، فكلما ابتعد زمن النص توغل فيه التغيير سواء في المفردات والجمل أو زيادة أبيات أخرى حتى يصل إلى خلق نص آخر مغاير وتتعدد أسماء الشعراء المنسوب لهم، ونحن هنا لا نتهم من الرواة أحداً بعينه، ولكن المسألة تراكمية تمتد من قرون فكل راوي ينقل ما سمع ولكنه ان نسى شيئاً من النص فإنه يأخذ بالظن فيجعله كحقيقة وإن كان خطأ وهكذا من راوٍ لآخر، حتى تصبح ككرة الثلج، فنجد أن هذا النص الذي بين يدينا نسب لأكثر من أربعة شعراء وتغير النص من شاعر لآخر؛ ففي إحدى الروايات ينسبون إلى سالم عبد الغالبيات الذي يستعرض تجربته في الزواج من النساء ويصف طبائعهن فقط، وهذا لا يتصور من مملوك، مما يدل أن النص غير صحيح النسبة له وربما اشتبه على الرواي مع نص آخر ينسب لسالم فأضاف له هذا النص بهذه الرواية كما يلي:
يقول عبد الغالبيات سالم
ينود ومن غير الـنعاس ينود
أخذت في عمري ثمانين راجع
وثمانين مـا قلب لهن نهود
يا عم واثر فالـعذاري نفايل
عواتق جميلاتٍ وبيض خدود
منهن من تسـوى ثـمانين بكره
ومنهن ما تسوى عقال قعود
ومنهن جنات تداعج نهورها
ومنهن نيرانٍ بغير وقود
ومنهن من هي هرةٍ مستهرة
كنه هرير النار بالوقود
ومنهن من تضوي ويضوي لها الغنى
ومنهن من تنحى الغنى بعمود
ومنهن من تأكل الصاع مثني
كبيرة جنوب وبالمقام تنود
بينما نجد في مخطوط العمري أبياتاً تنسب إلى فيصل الجميلي، وهو شاعر من أهل القرن الحادي عشر الهجري، وفي الأبيات يتحدث الشاعر ساخطاً على النساء اللائي لم يرغبن فيه لكبر سنه رغم أنه فارس شجاع ويملن إلى من لا همة له من الرجال، ثم يذكر أنواع النساء كما في الروايات السابقة:
يقول الجميلي والجميلي فيصل
ما للعذارى بالجميل عهــــــود
ما يبن شيخٍ يطعن الخيل بالقنا
يذبح ويرمي والعجاج ركود
وبهن من تضوي ويضوي لها الغنى
وبهن ما تنحى الغنى بعمود
ومنهن جناتٍ تداعج نهوره
ومنهن نيرانٍ بغير اوقود
ومنهن ما تسوى ثمانين بكره
ومنهن من ترخص ابقيد قعود
فنجد أن كل نص مما سبق يأخذ منحى مختلفاً في سياقه وإن اشتركوا في بعض الأبيات، كما نجد أن ابن المجاور في القرن السابع الهجري قد أورد في تاريخ المستبصر بيتين من الشعر في وصف النساء مستشهداً بها في سياق قصة امرأة بدوية وجد زوجها رجلاً يمتهن السقاية قد ظل به الطريق وأشرف على الهلاك فأنقذه بعد أن كاد يهلك في الصحراء وبعد أن قاموا على رعايته وتعافى راود المرأة عند ذهاب زوجها للصيد فشدت وثاقه إلى جانب كلب وعند عودة الزوج لم يسئ له أو يعاقبه وإنما ذهب به إلى دياره سالماً:
ففيهن من تسوى ثمانين بكره
وفيهن من تسوى عقال بعير
وفيهن من لا بيض الله وجهها
إذا قعدت بين النساء بزير
ولا شك أن البيتين من الشعر العامي الذي كان منتشراً تداوله في بادية الجزيرة العربية ومن رحل من قبائلها إلى الشام وشمال إفريقيا في القرن السابع فنجد أن البيت الأول:
ففيهن من تسوى ثمانين بكره
وفيهن من تسوى عقال بعير
يتطابق إلى حد كبير مع البيت الذي يرد في جميع الروايات:
منهن من تسـوى ثـمانين بكره
ومنهن ما تسوى عقال قعود
فيرجح لدي أن النص الذي ورد منه بيتين عند ابن المجاور هو النص الأصل وقد تعرض للتحريف خلال ثمانية قرون حتى كثرت رواياته وكثروا شعرائه.