6,911 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
الحديث عن العظماء لا ينتهي في مقال صحفي أو برنامج وثائقي أو ما شابههما؛ لأنَّ حقَهم أعظم وأكبر ولا يمكن أن نوفيه في أسطر أو كلمات معدودة، بل يحتاج إلى أوقات طويلة تمكننا من معرفتهم، وسبر سيرة حياتهم، وأخذ الحكمة والاستفادة منها في حياتنا.
فالتاريخ لم يكتب للتسلية ولا للسمر وإمتاع النفوس الخالية، بل كُتِب لتتعلَّم منه الأجيال الناشئة ما يفيدها منه، ولتكمل مسيرة البناء، ولتتجنَّب أن يعيد التاريخ نفسه فيما يضرها، ولكي تقتدي بها أيضاً فإنَّ من أرفع دواعي السمو والوصول إلى درجات العظماء، هو الاقتداء بهم وقد قيل قديماً:
فَتَشَبَّهوا إن لمْ تَكُونوا مِثْلَهُم
إنَّ التَّشبُّه بالْكِرَامِ فَلَاحُ
وفي هذا العدد من (مدارات ونقوش) نقفُ معكم أمامَ شخصيَّةٍ عظيمةٍ، وهبها الله الحُكْمَ والقوَّةَ والهيبةَ والحِكْمَةَ والحِنْكَةَ السياسيَّة؛ فَوَهَبَتْ وأَعْطَتْ وثَبَتَتْ، وأقامت كياناً قويًّا أصله ثابت كالجبال الشامخة التي جعلها الله استقراراً في الأرض؛ فنالت حبَّ النَّاس واحترام الدول العظمى. هذه الشخصيَّة هي شخصيَّة الشيخ الكبير زايد الأول، حاكم أبوظبي وشيخ بني ياس، جَدّ رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله، وهو أيضاً جَدُّ نائبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم “رعاه الله”. فدعونا نفتح معكم باب تاريخ قصر حصنه العريق، ولنتذكر سيرته العطرة رحمه الله.
هو الشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط آل نهيان، أجداده حكَّام أبوظبي وشيوخ قبيلة بني ياس، القبيلة المشهورة التي يقول عنها سالم السيابي- رحمه الله- في كتابه إسعاف الأعيان:
“بنو ياس لهم زعامة أبوظبي ودبي وما إليهما، وتلتفُّ عليهم قبائل عديدة، وتتعلق بهم في مهماتها أمم، وبنو ياس هم الصميم فيهم، وأهلاً ببني ياس بن عامر أهل الخيل ولهم الفضل الذي لا يُنْكَر. وحدّث عن بني ياس؛ فهم الأبطال التي لا تقف على قياس، والأشبال التي لا ترهب من الباس، وهم ليوثٌ وُلِدُوا على ظهور الخيل، وتوسَّدوا أحلاسها، وتمرنوا على مراسها”.
وكلُّ من يمتدح قبيلة بني ياس يؤكد مواقفهم البطولية وبأسهم، وأنهم أهل الخيل فكأنهم ولدوا على ظهورها، ويقول عن ذلك الرواحي في قصيدته الطويلة التي كان يحثُّ فيها القبائل، وقد خصَّ قبيلة بني ياس بأبيات رائعة:
ومــا رجــاءُ بـني ياسٍ عـلى خـطأ
فـإنَّـمـا الـقـومُ أعـوانٌ وإخـوانُ
قـومٌ عـلى صَـهواتِ الخـيلِ طـفلهمُ
يربـو لـه مـن دمِ الأبطـالِ ألبـانُ
مساعرُ الحربِ إنْ تنزلْ لهم نزلوا
وإنْ تعـاضـلـهـمُ ركـبـاً فركـبـانُ
أسـدٌ خدورهــم سمـر الـرمـاح فـإنْ
شبَّ الهياج فتلك السمر شهبانُ
إنْ حاربوا صعَّبوا أو أكرموا هانوا
لا يقتنـون ريـاشاً فـوق سـابغـةٍ
كــأنَّـــهُــنَّ إذا ألـقــيـــنَ غـــدرانُ
وغـيـر صـفـحةِ هـنـديٍّ مـفـلّـلـةٍ
كـأنَّـها بـنـفـاثِ الــمــوتِ ثــعــبـانُ
وغـيـر أنـيـابِ أغـوالٍ مــسـنَّـنـة
من عـهـدِ عـادٍ لـهـا ذكـرٌ وأسـنـانُ
كل ما مرَّ هو وصف للسيوف وللدروع ثم قال عن خيولهم:
وغـيرُ شُـمـسٍ سراحـيبٍ مفـنقـةٍ
كـأنَّـهـا في قــتـامِ الـحـرب غـربـانُ
تعلَّمت من مراس الحرب نجدتها
فـهـنَّ تحــت يـد الشُّـجعانِ شجعـانُ
كـأنـهـنّ أعـاصـيـرٌ إذا احـتـدمـتْ
نار الوغى وهي في التسنين ذؤبانُ
تلكـم حصونُ بني ياسٍ ومعـقلهم
لا يـحـصـنُ الـقـوم أسـوارٌ وأفــدان
هذا وصف بليغ لقبيلة بني ياس لا يستطيع أحد أن يصفهم بأكثر من ذلك في تلك الأيام.
بعد وفاة الشيخ طحنون بن شخبوط آل نهيان سنة 1833، تولى من بعده أخوه الشيخ خليفة، وكان حاكماً عادلاً منصفاً أحبَّه الناس وكلُّ من تعامل معه، حتى حكَّام الدول المجاورة كانوا يثنون عليه، بل إنَّ الدولة البريطانية المستعمِرة أثنت عليه ووصفته بالذكاء والحكمة والاقتدار. وقد استطاع بحنكته السياسية أن يستخدم كلَّ القوى لصالحه، وتمكَّن من إخماد الاضطربات التي كانت تحملها رياح التغيير من هنا وهناك. وقد ارتبط بعلاقة وطيدة مع جيرانه، خاصة مع الشيخ مكتوم الأول حاكم دبي، فلم يكن فقط حاكماً ومن أبناء عمّه، حيث الانتماء القبلي الواحد، بل كان صديقاً وأخاً له.
وعُرِفَ الشيخ خليفة بن شخبوط بحبه للأدب وقول الشعر، وله أشعار جميلة تدلُّ على شاعريَّة لا تقلُّ عن شاعريَّة كبار الشعراء، تتناقلها الأجيال ومنها قوله:
بــو يــادلٍ بـنــسـاعـه
واقف على الطروق
شروى البدر مطلاعه
خــده ســنا لـبـروق
إلى أن قال:
ركبوا هله فزّاعه
خيل وصنايع نوقناسٍ
لـفــت بــاطـمـاعـه
وانـا لـفــيــت بـعــوق
في هذا البيت الكريم.. بيت حاكم أبوظبي الجليل، وُلِدَ الشيخ زايد بن خليفة سنة 1837 تقريباً، وهناك أقوال أخرى في سنة ولادته، ولكن أقربها إلى الصواب هذا التاريخ، لما سيأتي من الأخبار.
والدة الشيخ زايد من أسرة بلهول التي تنتمي إلى قبيلة السودان وواحدها سويدي، وهي إحدى قبائل الصميم من بني ياس، وآل بلهول لهم مكانة اجتماعية مرموقة، حيث يمتلكون أموالاً ومراكبَ للغوص ومن أثرياء أبوظبي، وخال الشيخ زايد صالح بلهول من كبار الأثرياء، وصاحب سفن وله مكانته عند الشيوخ وأعيان الناس.
نشأ الشيخ زايد كما ينشأ أبناء الشيوخ على الفروسية وتعلُّم الرمي وغيرها من المهارات البحرية والبرية، ولكنه لم يعِشْ مع والده كثيراً فقد توفي الشيخ خليفة سنة 1845. وازدهرت خلال عهده الحالة الاقتصادية، وعمل بإخلاص لتوحيد القبائل ونشر الأمن في ربوع المنطقة. قال عنه المقيم السياسي “هنيل” سنة 1941: “الشيخ خليفة زعيم يتمتَّع بالشجاعة والجرأة والنشاط والمهارة في مختلف المجالات والمشاريع التي قام بها، ولذا فإنني لن أتفاجأ لو تمكَّن في غضون سنوات من فرض سيادته على القبائل الداخلية التي تبعد عن حدود حكمه”.
بقي الشيخ زايد وأخوه الأصغر الشيخ ذياب عند والدتهما وأخوالهما بعد وفاة أبيهما، وكانت والدة الشيخ زايد حكيمة ومربية، فشملتهما بالرعاية الكاملة والمراقبة، لكي لا يتعرض الولدان الصغيران لأي أذي؛ فالأوضاع في ذلك الوقت كانت صعبة، والمخاطر محدقة من كل مكان، ولهذا وجب على والدته أخذ كل شيء بعين الاعتبار.
في سنة 1847 شعر خال زايد ببعض الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، فأخذه معه إلى دبي ليكون تحت حماية الشيخ مكتوم بن بطي حليف والده الراحل، وقد جاء في الوثائق البريطانية لسنة 1947 الخاصة بـ”هنيل” المقيم السياسي البريطاني للمنطقة يقول فيها:
“كان الشيخ مكتوم بن بطي، حاكم دبي، أوَّل من قام بزيارتي يرافقه ابن الشيخ خليفة بن شخبوط، شيخ أبوظبي السابق وهو فتى يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات.
من هذا التقرير يمكن تقدير ولادة الشيخ زايد، وكذلك نستطيع معرفة قوة علاقة الشيخ مكتوم الأول بالشيخ خليفة، ولهذا قام بحماية ولديه والاعتناء بهما والدفاع عن حقوقهما المشروعة.
كبر زايد واشتدَّ ساعده، ولم يُلْهِهِ البعدُ عن إمارته بأمور اللهو، بل ظلَّ ينتظر الفرصة ليعود ثانية، وقد كان يستعدُّ للوقت الصحيح؛ لأنه منذ طفولته فيه من القوة والشجاعة والحزم ما كان يذهل الناس، بل كان في حداثة صغره لا يخطأ إذا رمى.
تسارعت الأحداث في الخليج كله، وقام ابن عمه الشيخ سعيد بن طحنون بنقلات سياسية وعسكرية كبيرة ناجحة، جعلت من أبوظبي قوَّة في المنطقة مهابة الجانب لا يستهان بها، وانتعش الوضع الاقتصادي للإمارة على كثرة الأحداث التي مرت بها. والله ييسر للناس معيشتهم، حيثُ لم تكن التجارة إلا تجارة اللؤلؤ ولها دورة كبيرة؛ فالكل يستفيد منها من أصغر سيب إلى حاكم البلاد.. والله يرزق من يشاء.
في سنة 1945 قرَّر حاكم أبوظبي الشيخ سعيد بن طحنون مغادرة أبوظبي طواعية، تاركاً الحكم لابن عمه الشيخ زايد الذي ذاع صيته آنذاك بأنه شيخ له صفات قيادية، ويستطيع أن يصبح حاكماً متميزاً، ولهذا قرَّر آل نهيان أن يتولَّى الشيخ زايد حكم أبوظبي، فعاد إليها حاكماً وأكمل مسيرة آبائه، وأطاعته جميع القبائل؛ لأنَّ سمعة الشيخ زايد كانت تسبقه في كل مكان.
ورث الشيخُ زايد إمارةً قوية لها مكانة سياسية واقتصادية كبيرة، ولكن لا بدَّ من المعوقات في أول الحكم.
جاء في كتاب قصر الحصن من تأليف جوينتي مايترا وعفراء الحجي:
“مع أنَّ الشيخ زايد ورث إمارة ناهضة اقتصاديًّا وقوَّةً يعتمد عليها على الصعيد السياسي على ساحل الخليج العربي، إلا أنَّه واجه الكثير من المشكلات التي كان من الممكن أن تشكّل خطراً على مكانته السياسية داخليًّا. وقد كانت سنوات حكمه الأولى مملوءة بالمشكلات والأحداث التي استنفدت جلَّ اهتمامه، إلا أنه تمكَّن من حلّها بكل اقتدار؛ فقد اكتسب أثناء ذلك مزيداً من الخبرة التي استخدمها في ممارسة الحكم على مشيخته مستقبلاً”.
وإذا نظرنا إلى عُمُرِ الشيخ زايد الأول يوم تولّيه الحُكْمَ وكيف تصفُ التقاريرُ أسلوبه في إدارة الأزمات، حيث نجحَ فيها جميعاً بكل ثبات وعزم وحكمة، نعلمُ يقيناً أنَّه كان مستعدًّا لهذا الأمر العظيم، وقد قال ابن سينا الطبيب والفيلسوف: المستعدُّ للشيء يكفيه أهون أمره أن يظفر به.
وقيل في زايد:
رويـداً فـإنَّ الكـلَّ فـي ذمـر زايـد
ومـا زايـد للـذمـر يـومـاً بـخـافر
فتىً لا يـراع الجـار فـي كنـفاتـه
ولا يشتكي يوماً صروف الدوائر
فتىً ربعه مرباع من كان مجدبـا
ومأمن من قد خاف صولة قـادر
يـدعُّ بـمـاضـي عـزمـه وحسامـه
صدور العدا عـنه وجـز الحناجـر
خميس غداة الروع من كل باسل
سبـوق إلـى داعـي الكمـاة مـبادر
منذ أن تولَّى الشيخ زايد الأول مقاليد الحكم سنة 1855، أخذ بمبدأ تقوية علاقاته بجيرانه خاصة القريبين منه، وفي نفس الوقت عمل بكل حرص وحماس على النهوض بشعبه من الجانب الاقتصادي والتعليمي، وَوَضَعَ أُسُسَ القضاء العادل مع قلَّة الامكانات في ذلك الوقت العصيب.
لقد شكَّل وصول زايد إلى الحكم فارقاً تاريخيًّا مهمًّا؛ لأنَّه مهَّد لتجديد البلاد وتوحيدها على يد زعيم قوي يريده الناس بشدة، وقد جاء في رسالة أرسلها الشيخ زايد للمقيم السياسي سنة 1855:
″أخبركم أني لم أكن موجوداً وقت مغادرة الشيخ سعيد بن طحنون أبوظبي، وقد جاءني بعض من قبيلة بني ياس يطلبون مني أن أكونَ الحاكمَ، وقد رفضت عرضهم ولكن عندما رأيت جميع الأطراف غاضبين من رفضي وخشيت فرقة الناس، قبلت الحكم وقدمت إلى أبوظبي، لأحتويَ الأوضاعَ المضطربةَ وأجمعَ كلمةَ القبيلة وألمَّ شملَهم″ .
من هذه الرسالة نعرف جليًّا أنَّ الشيخ زايد جعل همَّه وحدةَ شعبِه، وبناءَ مجتمعٍ آمنٍ منذ بداية حكمه، وقد وُفّقَ أيّما توفيقٍ كما سنراه في متابعة أحداث حياته.
قبل تولّيه حكم أبوظبي بثلاث سنوات؛ أي في سنة 1852 تُوفّي الشيخُ مكتوم بن بطي، حاكم دبي ومؤسسها، وبوفاته فقد حليفاً قويًّا ووالداً أدَّى واجبَ صديقِه وحليفه وأخيه الشيخ خليفة- رحمه الله- بكل إخلاص. ولكن، وإن كان موت الشيخ مكتوم خسارة كبيرة بالنسبة إليه؛ فهناك أخوه الشيخ سعيد بن بطي، وأبناؤه الذين حكموا من بعده وبقوا عوناً وسنداً لأخيهم حاكم أبوظبي الشيخ زايد الكبير طيلة أيام حكمه المديدة.
كانت القيود البريطانية على الخليج قوية، فهي المهيمنة الأولى على كل المنطقة، وقد عمدت إلى فرض غرامات كبيرة على كل من يخرق هذه الاتفاقيات بالتهديد تارة وبالمغريات تارة أخرى. وبسبب ما يحصل تلك الأيام من غارات بعض لصوص البحر على السفن- من دون علم الحكومات- تقوم بريطانيا بتغريم الحاكم الذي تُنْسَبُ إليه هذه المجموعات، وكذلك كان المستعمر يستخدمُ أساليب غير صحيحة في البحار، ممَّا أدَّى إلى زيادة ضعف أصحاب السفن، ولهذا قام الشيخ زايد الأول بمساندة الناس الذين لا يمتهنون غير تجارة اللؤلؤ والغوص عليه، فخفَّف عنهم ودافع عن حقوقهم، وتصرَّف بحكمة كبيرة، وحنكة سياسية عجيبة. والغريب في الموضوع أنه لم تمضِ سنة بعدُ على تولّيه الحكم، ولكنه أثبت جدارة عالية مكَّنته من تسوية كثير من النزاعات الدائرة آنذاك محليًّا وإقليميًّا.
في تلك الأيام الصعبة التي لا يمكن تصويرها في بال أحد، كانت تحدث النزاعات القبلية في أماكنَ شتَّى؛ إمَّا بسبب المراعي، أو سوء فهم شيوخ القبائل الذين كان كلُّ واحدٍ منهم يراعي مصلحة قبيلته، وكان الشيخ زايد الأول يقوم بالإصلاح ما بينهم، حريصاً على العدل في تعامله مع كل أحد حتى ممَّن يسمّون بالخصوم؛ فقد كان يرضيهم ويستميلهم له بالأساليب الطيبة، وإذا بغى منه باغٍ سلَّط سيف عدله عليهم، ثم يقوم بعد ذلك بالإحسان إليهم.
والمتتبع للوثائق الموجودة في عهد الشيخ زايد، منذ توليه حتى يوم وفاته، سوف يلاحظ هذا بكل وضوح، ولا يخفى ذلك على المؤرخ الخبير، بل لا يزال عهده مثار اهتمام لنا لكثرة ما مرَّ فيه من أحداث وأخبار كثيرة وكبيرة وكان يجتازها بكل كفاءة.
في عامي 1858 و 1859 حصلت بعض الاضطربات في عمان، وكان الشيخ زايد الأول يزور سلطان عمان؛ لأنَّ شيوخ بني ياس حلفاء سلاطين عمان منذ القدم، فعمل هو والشيخ سعيد بن بطي حاكم دبي بتهدئة الأوضاع حتى تم تسوية الأمور سلميًّا، وكان يرافقهما أيضاً الأمير أحمد السديري نيابة عن الإمام فيصل بن تركي آل سعود، وكان الشيخ زايد الأول أيضا يحتفظ بعلاقات ودية مع حاكم الدولة السعودية الثانية الإمام فيصل ووكلائه في المنطقة.
في سنة 1866 توفي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وقد بلغ المائة من عمره، وكان من كبار زعماء المنطقة، حيث عاش زمناً طويلاً في أحداث كبيرة استطاع تجاوزها بدهاء الخبير وحنكة المجرب للأمور، وبوفاته زادت مهمات الشيخ زايد الأول؛ لأنَّ المسؤلية صارت أكبر، خاصة في تسوية النزاعات المستمرة ولأسباب كثيرة.
كانت هذه السنوات الصعبة والأحداث المتسارعة في الجزيرة العربية وفي الخليج، تسير في صالح الحاكم الشاب الشيخ زايد، الذي نجح في سياسته الإقليمية والمحلية، وأحكم قبضته على البلاد بحلمه وصدره الرحب الذي وسع جميع الناس، وفي نفس الوقت أجبرت هيبته وشجاعته وحكمته، شعبه على طاعته والولاء له، وهكذا كما تقول كتب سياسة الشعوب القديمة بأنَّ الحاكم يجب أن يُظْهِر من الأفعال ما تهابه بها رعيته، ليتمكن من أداء مهام حكمه، ولكنه في الوقت ذاته يضمر لهم الود والرحمة في داخله، لتسيير أمور الناس وليعيشوا في طمأنينة.
لا يوجد لدينا للأسف، كثير من التقارير عن الأوضاع المعيشية في تلك السنوات، ولكن إذا نظرنا بشكل عام فإنَّ الاستقرار الاقتصادي كان موجوداً في إمارة أبوظبي، وهي نتيجة حتمية بسبب تجنُّب الشيخ زايد الدخول في الصراعات التي يعرف بأنها ليست من صالح المنطقة، ولهذا انشغل في تأمين إمارته وتحسين ظروف معيشة الناس بالإمكانات المتوافرة في تلك الأيام، وكان كما ذكرنا بأن الاقتصاد لا يتجاوز تجارة اللؤلؤ بكل تفاصيلها، ولهذا فإنَّ نجاح الشيخ زايد في مسألة الأمن في بلاده ومناطق الغوص على الؤلؤ وأماكن بيعه التي تعج بالناس من كل مكان في مواسم الغوص حول أبوظبي وفي جزيرة دلما وغيرها، كان أمراً لا تهاون فيه.
أدَّى هذا الازدهار إلى أمرين مهمين:
الأوَّل: ظهور حالة الترف النسبية بمقياس ذلك الزمن، يقول المؤرخ حميد الشامسي عن هذه الفترة في كتابه نقل الأخبار :
“عندما عظمت الثروة في البلاد وكبرت، توسَّع أهلها في المأكل والطيب والملابس الفاخرة، وجلبت من الهند الأسِرَّة بجميع أنواعها، والصناديق الجميلة، وأخذ النساء يتحلين بالذهب المطعَّم باللؤلؤ، ويلبسن الحرير والجوخ بأنواعه، وتمَّ استعمال العطور، وجلب العود القماري والصمغ للبخورات، وأخذ الناس يستفيدون من نعم الله″.
الأستاذ حميد قصد بأنَّ مظاهر الترف زادت عن ذي قبل، بسبب سياسة الشيخ زايد ومدة حكمه المديدة؛ لأنَّ هذه المظاهر كانت موجودة في السابق ولكنها في عهده، عهد الاستقرار، ظهرت بشكل أوسع.
أما الأمر الثاني، فهو تزايد عدد السكان من كل مكان؛ فقد زاد تعداد السكان لإمارة أبوظبي زيادة كبيرة في عهد زايد الكبير، لما شهده عهده من انفتاح وأمان وازدهار .
اهتمَّ الشيخ زايد أيضاً بالتعليم والقضاء؛ فقد كثر العلماء والمدرسون في وقت حكمه، وقام بمساعدتهم وإكرامهم، كما أعطى القضاة صلاحيات مهمة، ممَّا شكَّل بدايات القضاء في الإمارة. وقد ذكر الشيخ مجرن بن الشيخ محمد الكندي أنَّ الشيخ زايد الأول طلب من الشيخ سلطان بن مجرن أن يرشح له قاضياً عالماً، ليحكم بين الناس؛ فأرسل له ابنه الشيخ أحمد، وكان آل مجرن في تلك الفترة يسكنون منطقة “اللية” في الشارقة مع مجموعة كبيرة من المرر، فعمل الشيخ أحمد في القضاء، ثمَّ من بعده ابنه الشيخ محمد الكندي. وكانوا يقضون في مجلس الحاكم وفي بيوتهم وفي المسجد؛ إذ لم يكن هناك دوائر للعدل ولا مبانٍ للقضاء كما تشاهدونها اليوم، وقد انتشرت مدارس التعليم الدينية في عصره بسبب وجود شيوخ العلم الذين كانوا يعلّمون الناس بما فتح الله عليهم من العلم، حتى جاء المحسن الوجيه خلف بن عبدالله العتيبة؛ فافتح المدرسة الأولى في أبوظبي في أواخر عهد الشيخ زايد الأول وبتشجيع منه.
عمل الشيخ زايد في تقوية صلاته بحكَّام الإمارات المجاورة وشيوخ القبائل، بالهدايا تارة، وبالزيارات المتكرّرة وبمصاهرته لهم أو أحد أبنائه تارة أخرى، فقد تزوج الشيخ زايد الأول الشيخة حصة بنت مكتوم الأول، من حبه له وتقديره ووفائه، وكان ذلك في حكم أخيها الشيخ حشر بن مكتوم. والشيخة حصة بنت مكتوم الأول هي جدة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة “حفظه الله”. كذلك تزوج الشيخ سلطان بن زايد الأول من الشيخة سلامة بنت حامد بن بطي، شيخ قبيلة القبيسات القبيلة الياسية المشهورة، ممَّا قوَّى الصلات بينهما، وكان من بركات هذا الزواج أن رزقنا الله بالموحّد الباني الشيخ زايد الثاني- طيب الله ثراه.
عرف الشيخ زايد بحبه الكبير للأدب وللشعر، ولا شكَّ أنها عادة متوارثة في آل نهيان؛ فهم يحفظونه ويقولونه ويقدّرون أصحابه، ولم يكن في عِلْمِنَا أنَّ الشيخ زايد الأول يقول الشعر حتى أرسل لي أخي الأديب الشاعر البحريني مبارك العماري الدوسري، حفظه الله، قصيدة للشيخ زايد محفوظة في مخطوط للأديب مبارك بن مسعود يقول فيه :
أرسل الشيخ حمد الأول بن عيسى آل خليفة، إبَّان ولايته للعهد، حصاناً يُدْعَى شويمان وأرفقها بأبيات قال فيها:
الـغـوج مـبـذولٍ إلى عـاد تـبـغيه
يا شيخ يا حامي حدور التوالي
يلّى إلى من ضيّع السمت تشريه
زايد إللى عدّت علـوم الرجـالي
الغوج ما طـاري لنـا دوم نجزيـه
إلَّا لـشخصـك يا حـميد الـفعـالي
هـاذاك لك واللـى غـلا منه نفـديه
الحـال مـبذولٍ فـكـيف الـحـلالي
فما كان من الشيخ زايد الأول إلا أن أجابه بقصيدة جزلة تدلُّ على شاعريته، ولكننا لم نجد من شعره إلا هذه الأبيات يقول فيها:
حـي الـكـتــاب اللـى لـفـانـي وهـاديـه
به مـرحـبـاً وأهـلاً بــردّ الـســؤالـي
اعـــداد مـا بـــرقٍ مــزونٍ تــشـابــيـه
واعداد ما نسنس هـبوب الـشـمـالي
فـكّـيـت بـرشـامـه وأحـطــنـا مـعـانـيـه
في الغوج لى كامل جميع الخصـالي
ساعة لفى (شويمان) غزر النظر فيه
مقـبول مـن شيـخٍ جـزاه وهـدى لـي
هاذي عوايد من «حمد» والسخا فيه
يـا الـلـه تـكـفـا لـه صـروف اللـيـالي
حـالك جـمـيل وفـضـل جـودك يكـفّيـه
والـفـرق معـدومٍ إلى أتـلـى الـتوالـي
أولع الشيخ زايد الأول بحب الخيل، حتى إنَّ الملوك والحكَّام يرسلون إليه الخيول الأصيلة هدايا؛ لأنهم يعرفون حبَّه لها، فهو فارس وحفيد فرسان.
ومن جزيل الشعر الذي قيل في الشيخ زايد قصيدة مبارك العقيلي، وفيها يذكر هدية شريف مكة هذه:
إمامٍ لأمره تخضع عمان كلها
وتخشاه آساد مهيبٍ زئيرها
إمامٍ يطيعه حضرها والبوادي
وهاداه من يدعى بمكه أميرها
إذا قيل شيخ عمان فالقصد زايد
منيع الحمى جابر بجودها كسيرها
بعد مرور أكثر من أربع وخمسين سنة على تولّيه الحكم بكل جدارة واقتدار محفوف باحترام الناس وحبهم، انتقل الشيخ زايد الأول إلى جوار ربه في سنة 1909، ورثاه الشعراء وبكته العيون المُحِبَّة التي نعمت وسعدت في عهده. هذا، وقد رُزِقَ الشيخ زايد الأول بأبناء وأحفاد كرام نهجوا نهجه من بعده، وكان أكبرهم الشيخ خليفة، ولكنه لم يحكم بل حكم الشيخ طحنون، ثمَّ من بعده الشيخ حمدان جد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي “رعاه الله”، ثمَّ من بعده الشيخ سلطان، ثمَّ صقر بن زايد، رحمهم الله جميعاً.