كوري .. المرأة التي فازت بنوبل مرتين!

مقالات متنوعة

 1,535 عدد المشاهدات

الكاتب : جمال بن حويرب

لتاريخ النساء في العالم كله والعالم العربيّ خاصة شجونٌ غير الشجون التي تحيط بعالم الرجال وتاريخهم فهنّ الضعيفات الرقيقات الجميلات اللاتي خُلقنَ للحنان والحبٍّ والعطف والحنوِّ على الأسرة والأطفال ومن مدارسهنّ تخرّج كبار القادة والإعلام الذين ملكوا الدنيا وقادوا الجيوش المظفّرة وبنوا عجائب الدنيا واكتشفوا للبشرية العلوم القديمة والحديثة حتى نالوا أرفع الجوائز من مثل جائزة نوبل العالمية، ولكنّ النساء ولأسبابٍ كثيرةٍ لم يحصلنَ على ما حصل عليه الرجال من الاهتمام من كُتّاب التاريخ على مر عصوره، ولا نلنَ من الحمد والخلود.

 

إلا قليلاً من خلال الجوائز العريقة التي لم تقدّر للمرأة جهدها وتفانيها وإخلاصها في كل وقتٍ ومكانٍ إما تحت ظل الرفاهية والغنى أو تحت ظل الذلةِ والمهانة والعمل بأجرةٍ رخيصةٍ ليعيش أبناؤها وفلذات كبدها في صحةٍ وخيرٍ ونعمةٍ وليظفروا من تعبها بحياةٍ رغيدةٍ وقد لا ينظرون إليها ولا يهتمّون بها إذا أدركوا مبتغاهم من الرفعة والعزة والأموال الطائلة ونسوا ما قدّمت لهم والدتهم فبسببها نالوا العلم واستطاعوا أن يغيّروا التاريخ لينالوا هذه الجوائز التقديرية.

حتى الآن لا نجد للنساء نصيباً في هذا التقدير العالمي بعد مرور كل هذه الحقب وقد تقع الملامة على المرأة نفسها بأنّها لم تبحث عن وضع اسمها بين سجلات الخالدين من العلماء كما فعلت العالمة البولندية الأصل ماري كوري التي بعزيمةٍ وصبرٍ منقطع النظير استطاعت أن تغيّر وجه العلم وتفرض نفسها عالمياً حتى فازت بجائزة نوبل مرتين ولا عجب في ذلك فقد استحقت ذلك بجدارة كما سنعرفه في هذا المقال.

ولدت ماري سالوميا سكلودوسكا في مدينة وارسو البولندية في السابع من نوفمبر من عام 1867م وكانت بلادها خاضعة لسيطرة القياصرة الروس وتشهد بين حين وآخر مظاهرات ضد المحتل.

كانت أمها كاثوليكية محافظة ووالدها مدرس ماهر في علم الفيزياء ويتمتع جميع إخوتها بالذكاء ولكنّ المآسي تتابعت على ماري، فقد ماتت أختها سنة 1874 ثم ماتت أمها بسبب مرض السل سنة 1878 ولم يكن العالم اكتشف بعدُ جرثومة السل مما جعلها تدخل في حزنٍ شديدٍ.

درست ماري وتخرجت من مدرستها وهي في الخامسة عشرة من عُمُرها وعُرفت بذكائها الحاد ثم بدأت مرحلة البحث عن جامعة لأنّ جامعة مدينتها وارسو لا تقبل الطالبات وعندما لم تجد حلاً لإكمال تعليمها دخلت في حالة اكتئاب مرةً أخرى فأراد والدها أن يخرجها من حزنها فأرسلها للريف لتتغير حالتها النفسية وتعيش سنة من أجمل أيام حياتها.

بعد ذلك عادت ماري إلى المدينة لتعمل مربيةً للأطفال وتعطي دروساً خصوصية للتلاميذ من أجل جمع مال يكفيها للدراسة في باريس وهذا ما فعلته في نهاية عام 1891 فقد استقلت القطار إلى فرنسا وسجلت في قسم الفيزياء في جامعة السوربون العريقة وبقيت مع أختها برونيا التي كانت تدرس الطب هناك أيضاً.

تحقق لماري ما تريد وكان عدد الطالبات في السوربون لا يتجاوز 23 طالبة من مجموع ألف طالب وهذا بحد ذاته معاناة كبيرة لها مع سكنها في غرفة باردة ليس فيها أدوات الراحة وكانت تعود كل سنة في الصيف إلى وارسو لرؤية أهلها هناك حتى تخرجت عام 1893 بعد كثير من التعب والكدّ، ولما عادت إلى بولندا حصلت على بعثة تعليمية ودرست الرياضيات حتى حصلت على درجة علمية أخرى فيها.

بدأت ماري أبحاثها الكثيرة فتوصلت هي وزوجها بيير إلى اكتشافات مهمة ومنها اكتشاف عنصر البلونيوم والراديوم وغيرها من الاكتشافات وفي سنة 1903 فازت ماري هي وزوجها بجائزة نوبل في الفيزياء ولم يستطيعا تسلم الجائزة لأنهما كانا منشغلين في أعمالهما، ثم في سنة 1911 نالت ماري جائزة نوبل الثانية في فرع الكيمياء وهذا من أعجب الصدف لتكون هذه المرأة العجيبة إحدى النساء اللاتي خلّدن أنفسهن في التاريخ وفتحت أبوابه بقوة علمها.

 بعد حصولها على الكثير من الجوائز وتغييرها مسار العلم في العصر الحديث مرضت ماري كوري بمرض خطير وبقيت سنوات تعاني منه حتى يوم وفاتها في سنة 1934 تاركة وراءها إرثاً علمياً لا يمكن أن تغفل عن جامعة من جامعات الدول المتقدمة وكل من يريد الوصول إلى الحضارة والعلوم، وهكذا يُصنع المجد.

إذا فازت امرأة واحدة بجائزة عالمية مثل جائزة نوبل، فإنها ستمثل بهذا الفوز كل نساء الأرض العالمات المكتشفات والمهملات اللاتي لا يقدرهنّ أحد إلا قليلاً، بسبب ضعفهنّ وسلطة الرجل التي لا تسمح لهنّ بالدخول في مملكة الرجال العلمية والعملية والأدبية، ولهذا يُعد فوزها نصراً مؤزراً ليس يشبهه نصرٌ، لندرته، وكأنّها المسكينة قد ظفرت بالكبريت الأحمر كمثل حصول ماري كوري بجائزتها الأولى في سنة 1903م، لتصبح أول امرأة في العالم تنال هذا التكريم من هذه الجائزة المرموقة.توالت أبحاث ماري كوري في مجال الإشعاع واكتشفت كثيراً، وانتشرت أبحاثها على نطاق عالمي، ولم تنظر إلا لعلمها وحمايته من الضياع وإلى بيتها وبناتها، ولم تنس دولتها بولندا المحتلة كما يفعل بعض المتجنسين، بل سمت أول اكتشاف لها بلونيوم تيمناً بوطنها، وكذلك علّمت بناتها اللغة البولندية وفاء وولاء لموطنها، وكانت تصحبهم دائماً لزيارته، وقد أسست في مدينتها «وارسو» معهداً متخصصاً للعلاج بالراديوم سنة 1932 ويسمى الآن باسمها.

تزوجت ماري بالعالم الفيزيائي الفرنسي بيار كوري في سنة 1895 وعملا في نفس المختبر وفي نفس المجال، ونالا مع أستاذها هنري بيركل جائزة نوبل في أبحاث الإشعاع المؤين، وكادت لا تحصل عليها لولا تدخل عالم الرياضيات السويدي ماجنوس، وتظلم زوجها لتدخل التاريخ من أوسع أبوابه.

قد تواجه المرأة صعوباتٍ كثيرة في بيتها أو دراستها أوعملها أو مجتمعها بشكل عام لعدة أسبابٍ، منها العادات والتقاليد أو لقلة حيلتها وضعفها، وهناك أسباب سياسية تمنعها ظلماً من ممارسة حقوقها التي وهبها الله لها عبر شريعته وضمنتها لها مواثيق الأمم المتحدة والقوانين الدولية، ولكنّ تأبى كثير من الأوساط الرجالية المسيطرة على العالم إلا أن تقلل من شأن المرأة ولا تفسح لها الطريق لتأخذ مكانها الصحيح الذي جعله الله لها في مشاطرة الرجل ومناصفته في كل شيء إلا ما فضّل الله به الرجل عليها كما جاء في الكتاب العزيز، وليس تقليلاً من شأنها أو إنقاصاً من حقوقها، بل من أجل عزها ورفعتها وحمايتها، ولأجل تنظيم إدارة الأسرة، فإذا لم يكن هناك قائد، فإنّ الرعية لا بدّ أنّها ستضيع.ومن فضل الله علينا في دولة الإمارات العربية المتحدة أنه حبانا بقيادةٍ حكيمةٍ عادلةٍ وكريمةٍ جعلت نُصب عينها سعادة شعبها، وجعلت الفُرَص متكافئةً للجميع من رجال ونساء، واهتمت جداً بالشباب، وفتّحت لهم الأبواب على مصاريعها، وحوّلت البلاد إلى واحةٍ غنّاء لشعبها، ولكلّ من يريد أن يعيش بأمانٍ وطمأنينة من المقيمين في أرضها، وهو كما قال أستاذنا حمد خليفة بوشهاب، رحمه الله.

لو خُيّر الناسُ من عُربٍ ومن عجمٍ
     عنِ الإمارات ما اختاروا بها بدلا

وهذا أيها الأعزاء الكرام من نِعَم الله علينا وعلى الناس رزقنا الله شكرها وأتمّها علينا.

ماري كوري البولندية الأصل كانت ولا تزال مثالاً للمرأة المناضلة من أجل الحصول على حقها العلمي، فنقشت اسمها في سجل أرقى جائزة علمية في العالم، وحظيت باحترام جميع الأوساط الأكاديمية التي يسيطر عليها الرجال سيطرةً كاملةً، بل لم يكن أحد أن يتوقع حصولها على جائزة نوبل مرتين، ولم يخطر على بال رجل أنّ امرأة ستقوم بإدارة مختبر للأبحاث بكامله حتى قال الأستاذ الجامعي جون بابتيست بيرن: »لم تكن السيدة كوري فيزيائية مشهورة فقط، ولكنها كانت أعظم مديرة لمختبر قابلتها في حياتي«، من هذه المقولة نعرف أنّ ماري كوري لم تكن عالمة ومكتشفة وأنقذت حياة الملايين من البشر، بل كانت إدارية من الدرجة الأولى، كما شهد بذلك كل من عمل معها، وهذا تميّز لكل النساء، لأنهن إداريات بارعات، إذا تعلمن يردن أن يحصلن على فرصةٍ مناسبةٍ لهنّ فقط.

عندما بدأت الحرب العالمية الأولى في 1914 وغزت القوات الألمانية فرنسا هربت كوري بالقطار إلى بوردو، مكان الحكومة الفرنسية المؤقت، وحملت معها إمدادات الراديوم خشيةً من وقوعها في أيدي الألمان، ورغبةً منها وابنتها في إنقاذ حياة الناس بسبب الحرب أعدت شاحنات خاصة بأشعة إكس تعتمد على بطارية السيارة، فتمّ استخدامها لإظهار مواقع الإصابات عند الجرحى، فتمكن الأطباء من عمل العمليات الجراحية وإنقاذ أرواح كثيرة، وقد التقطت معدات كوري هذه مليون صورة، وكان يسمي الجند هذه الشاحنات »كوري الصغيرة.

مع كل نجاحات ماري، فقد عانت من عقباتٍ كثيرة، ولكنّها تغلبت عليها بعزمها وإرادتها، يقول عند ذلك فليب ستيل: »عانت ماري من العديد من العقبات والأحزان في حياتها، وعلى الرغم من ذلك لم تفقد قط تخيّلها لحلم حياتها، فكان الذي يدفعها إلى لاستمرار هو إيمانها بالعلم والتقدّم والعمل الجادّ والتعليم ومساعدة الآخرين.

قلتُ: إني لا أدعو في هذا المقال إلى أن تترك المرأة عاداتها أو تعمل بضدّ قوانين مجتمعها، ولكنّ عليها أن تتعلم، وأن تهتمّ بالعلم والاكتشافات، لتشارك الرجل في انتصاراته العلمية وجوائزه التقديرية، ولكي نصنع حضارة متواصلة من الرقي والتقدم، فطموحنا لا حدود له، كما واصلت إرين ابنة ماري كوري، ففازت بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1935 بعد سنة من وفاة والدتها.