1,533 عدد المشاهدات
الكاتب: علي عبيد الهاملي
كتب وتحدَّث الكثيرون قبلي عن المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، وسيكتب ويتحدَّث عنه الكثيرون بعدي، لكنَّنا لن نفي الشيخ زايد، عليه رحمة الله، حقَّه وقدره؛ لأنه كان زعيماً من نوع نادر. والذين يتتبَّعون حياة الزعماء، عادة ما يجدون في حياتهم جانباً مضيئاً يركِّزون عليه، لكن من يتتبَّع حياة الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، يجد فيها جوانب مضيئة كثيرة، لا يقل جانب منها عن جانب؛ لأن الشيخ زايد كان فريداً بين الزعماء والقادة، قلَّ أن يجود بمثله الزمان. لذلك سنظل نستذكر سيرته العطرة، ويتذكَّر كلُّ من عاصره جانباً منها ربما لم يره أو يعايشه غيره.
كانت فترة الثمانينيات من القرن العشرين زاخرة بالعمل الذي يضيف كل يوم إنجازاً جديداً لهذه الدولة وأبنائها، وكان الشيخ زايد، عليه رحمة الله، يركِّز جهوده على التنمية والبناء. في هذه المرحلة كنت قد أنهيت دراستي الجامعية للإعام، وتخصَّصت في مجال الإذاعة والتلفزيون، والتحقت بتلفزيون الإمارات العربية المتحدة رئيساً لقسم الأخبار، وتدرجت في الوظائف، فأصبحت نائباً لمدير عام التلفزيون ومديراً للبرامج، ثمَّ مديراً عاماً للتلفزيون. وقد عايشت خال فترة عملي في تلفزيون أبوظبي، التي امتدت 18 عاماً، الجهود الكبيرة التي بذلها المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لترسيخ كيان الاتحاد، وبناء الدولة التي كانت قد دخلت عشريتها الثانية وقت أن التحقت بالعمل في تلفزيون أبوظبي، بعد أن تجاوزت مرحلة التأسيس الصعبة، وأصبحت تتطلَّع إلى المستقبل بنظرة متفائلة، وطموح يعانق عنان السماء، لا يقدر على تحقيقه إلا العظماء من القادة والزعماء، وقد كان الشيخ زايد، عليه رحمة الله، واحداً من هؤلاء القادة والزعماء الذين لا يتكررون.
رغم انشغال الشيخ زايد في تلك المرحلة ببناء الدولة، ووضعها على المسار الصحيح للمضي قدماً في طريق النهضة والتقدم، إلا أنه كان يولي الإعام اهتماماً خاصاً، ويعرف أهميته في التنوير والتطوير ومواكبة مسيرة البناء، من خال تسليط الضوء على الجهود التي تقوم بها الدولة من أجل إسعاد المواطنين، وتوفير كل الخدمات لهم، ومواكبتها بالصوت والصورة، مع المحافظة على القيم التي ورثناها عن الآباء والأجداد، انسجاماً مع مقولته الشهيرة «من ليس له ماضٍ فليس له حاضر ولا مستقبل ». ويحضرني في هذا المقام موقف حدث أثناء قيامه، عليه رحمة الله، بجولة في المنطقة الغربية من إمارة أبوظبي؛ «الظفرة » حالياً، وقد كان، رحمه الله، كما يعرف كلُّ من عايش تلك المرحلة، يقوم بجولات منتظمة في كلِّ أنحاء الدولة على مدار العام، يطّلع خلالها على المشاريع التي كان يجري العمل فيها، ويلتقي بالمواطنين؛ يستمع إليهم ليطمئن إلى أحوالهم، ويلبِّي لهم مطالبهم. في هذه الجولة طلب، رحمه الله، من المصور التلفزيوني الذي كان يرافقه، وهو الزميل محمد موسى الخالدي، مدير وحدة الإنتاج السينمائي وقتها، أن يركِّز على خزَّان ماءٍ في منطقة صحراوية مرُّوا بها أثناء الجولة التي كانت تتمُّ في أشهر الصيف شديد الحرارة. وقد فعل المصور ذلك فدار حول الخزَّان مرة واحدة، وانطلق سريعاً كي يلحق بموكب الشيوخ. ولأنَّ التصوير كان يتمُّ بواسطة كاميرا سينمائية، ولأنَّ الشمس كانت في كبد السماء، فقد رأى «المونتير» الذي قام بعملية «مونتاج » الجولة لعرضها في نشرة الأخبار أنَّ اللقطة، التي كانت مدتها لا تزيد على عشر ثوانٍ تقريباً، غير صالحة فنيًّا؛ لأنَّ ضوء الشمس القوي كان ينعكس على العدسة، فقام بحذفها أثناء عملية المونتاج، ولم تظهر في نشرة أخبار التاسعة على تلفزيون أبوظبي، التي كان ينتظرها الجميع، ويضبطون عليها ساعاتهم، وكان الشيخ زايد، عليه رحمة الله، يتابع كلَّ ما يعرض على شاشة التلفزيون، لا سيَّما نشرة الأخبار التي كان يعقبها البرنامج الإخباري المميز «العالم هذا المساء »، قبل أن تظهر القنوات الإخبارية والمحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجون الذين تزخر بهم الشاشات هذه الأيام، ولا تعرف جيدهم من رديئهم.
وما أن انتهى فيلم الجولة حتى أتاني اتصال هاتفي من السيد محمد الخالدي، وكان صوته متهدجاً، يسأل عن لقطة خزَّان الماء، ولماذا لم تظهر في فيلم الجولة، وأخبرني أنَّ الشيخ زايد، عليه رحمة الله، غاضبٌ أشدَّ الغضبِ؛ لأنه لم يرَ صورة الخزَّان الذي أمر بتصويره. انطلقنا، أنا والزميل أسامة قطينة، الذي كان يرأس قسم الأخبار وقتها، إلى غرفة المونتاج السينمائي، فوجدنا «المونتير » الذي قام بإعداد أفام النشرة للعرض في الغرفة، وبقايا الأفام «الديشيهات » ما زالت في السلة التي تحت الطاولة لم يتخلص منها بعد، فأخذنا نبحث عن «فريمات » لقطة الخزَّان بحركة جنونية، حتى وجدناها وأعدناها إلى مكانها من الفيلم، وقمنا بإعادة عرض الجولة مرة أخرى بعد النشرة، كي يرى الشيخ زايد، عليه رحمة الله، اللقطة التي كان حريصاً على تصويرها.
ربما تبدو الحكاية لمن لا يعرف الشيخ زايد غريبة، لكن من يعرف جيداً الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، يدرك هدفه من طلب تصوير خزَّان ماء في وسط الصحراء، حيث لم يكن العمران قد وصل إلى ذلك المكان بعد، وعرضه في نشرة أخبار التلفزيون الرئيسة. لقد كان يريد إيصال رسالة إلى الجميع، وهي أنَّ الدولة مصمِّمة على نشر العمران في كلِّ مكان، والماء هو أساس العمران والحياة، وعندما يوصل زايد، عليه رحمة الله، الماء إلى مكانٍ ما، فهذا يعني أنه عازم على تعمير هذا المكان، ونشر الحياة فيه.
أتذكَّر هذه الحادثة، ونحن نحتفل بمئوية زايد، الذي كان مياده فجراً جديداً لهذه الأرض وشعبها. رحم الله الشيخ زايد رحمة واسعة، وجزاه عنَّا خير الجزاء، فقد كان قائداً بعيد النظرة.. عميق الحكمة.. صائب الفكرة.