وثِّقوا لهجتنا قبل الانقراض

block-3-1 مجلة مدارات ونقوش – العدد 2

 906 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب 

يحاول مجموعة من العلماء الأستراليين توثيق اللغات المحلية القديمة التي كانت موجودة قبل احتلال الرجل الأبيض للقارة سنة 1788م، وكان يقدَّر عدد سكانها بمليون أسترالي (أصلي) وهم، وإن كانوا قليلاً في العدد، يتكلمون مئتين وخمسين لغة مختلفة.

ولا نعلم لماذا كل هذه اللغات الكثيرة لشعب قليل في العدد، ولا نعلم هل هذه اللغات مختلفة في الأصوات والمعاني، أم الاختلاف هو من قبيل وجود بعض المفردات في لغة ولا توجد في لغة أخرى، أو هو فقط في اختلاف طريقة النطق، أعني اختلافاً جزئياً يجعلها لهجات مختلفة. فلكل لهجة خصائصها مثل اللهجة المصرية واللبنانية صافية مسامعها سهلة التقليد والحفظ، وأخرى كاللهجة التونسية والمغربية حادة في مقاطعها.

في المكتبة الوطنية في نيو ساوث ويليز، بعض الكتابات القديمة للأستراليين كتبت بلغات انقرضت اليوم، فمن أصل 250 لغة لم يبقَ إلا 130، وقد قال وزير الفنون في هذه الولاية جورج سوريس: ″إنَّ اللغات الوطنية الشفهية والمكتوبة تمثِّل العمود الفقري للثقافة في البلاد″. ولا ندري كيف صرَّح هذا الوزير بتصريح كهذا في بلد يتجاوز عدد سكانه 22 مليون نسمة، في حين يقدَّر عدد سكانه الأصليين بأقلَّ من نصف مليون بعد أن قتل المهاجر الأبيض نصف هذا الشعب القديم، وقضى على كلِّ آماله وانتهى كثير من لغاته بسبه، والغريب أنَّ من تبقَّى منهم لا يعيشون طويلاً بسبب المخدرات والإحباط الذي يعاني منه صاحب الأرض (الأصلي).

ومن العجائب أنَّ الشركات الأسترالية الكبرى هي التي ترعى هذا المشروع الغريب على أجندة الشركات التجارية التي لا تبالي إلا بالأرباح. يقول نيلسون الذي يعمل مديراً لإحدى هذه الشركات التي تدعم المشروع: ″إنَّ الوثائق المباشرة للمستوطنين الأوائل في مكتبة الولاية شيء فريد، وإنَّ المشروع سيربط الناس مع الثقافة الأصلية وسيقدمها إليهم″. وهذا يعني أنَّ المهاجر الذي قدم طامعاً في خيرات أستراليا، ونهب ثرواتها وقضى على شعبها، وبعد مرور أكثرمن قرنين يبحث عن اللغات الضائعة لهذا الشعب المسكين، من أجل تعزيز الهوية الثقافية للمجتمع الأسترالي إذا أحسنا الظن. وقد يكون الأمر هو دعاية للشركات ولأطماع أخرى لا نعرفها.

يستمر هذا المشروع ثلاث سنوات كما ذكر أصحابه، وقد يحالفهم الحظ في توثيق هذه اللغات وقد لا يتمكنون، لأنهم انتظروا وقتاً طويلاً حتى بدؤوا في هذا المشروع الثقافي المهم، ولا أظن أنَّ السنوات الثلاث ستكفي للإنجاز، ولكن لا بأس من المحاولة.

ونتساءل أيضاً: لماذا لا نبدأ بمشروع مماثل للهجتنا الإماراتية المحلية التي هي لهجة واحدة، ولا تزال موجودة عند كبار السن، وإن اختلفت في طريقة نطقها في بعض المناطق، ونقوم بإنقاذها قبل ضياعها للأبد؟ وخاصة أنَّ الجيل الحديث يتحدث بأقل من4% من لهجتنا المحلية القديمة، حسب نتائج بحث قمنا به شخصيًّا. ولماذا لا تقوم الشركات الكبرى، التي تنعم بخيرات هذه الدولة ولا نرى شيئاً من نفعها، برعاية هذا المشروع؟ فهل يجب أن تضيع ثم نجري للبحث

عنها كما يفعل الأستراليون اليوم؟

ذات يوم قال لي صاحبي وهو يحاورني: ما لي أراك تهتم بالعاميَّة وتطلب منَّا توثيقها، ولم نعرفك إلا مدافعاً عن العربية الفصحى وأنت من أربابها؟ أليس عجيباً دعوتك هذه في وقت نحن ندعو إلى إصلاح المنطق والعودة إلى اللغة الأم.. لغة الفصاحة والرقي الثقافي، وما تساوي هذه العامية شيئاً أمام عالمية لغة القرآن وأصحاب المعلقات والأدب الرفيع؟ فلماذا نوثق ما لا ينفعنا وهو زائل لا محالة؟

فقلت: ليس الأمر كما تظن، ولا دعوتي من جانب الاهتمام بلهجة من خارج كيان العربية، بل هي ابنتها وضعتها كرهاً بعد كره، لما هدمت أركانها التي بنيت عليها بسبب انتشار العرب في كل مكان، ودخول ألسنة كثيرة غير العربية في بلادهم فاختلطت فصاحتهم، وضاعت ملكتهم اللغوية؛ فلما ماتت السليقة، حلَّت محلها ابنتها اللهجة المحلية، لتقوم ببعض مهماتها، وكان ″عور اللغة أفضل من العمى″، ولولا هذه اللهجة لما استطعت تعلم اللغة العربية بهذ السرعة؛ لأنَّ لهجتنا هذه التي نتكلَّم بها هي نفس اللغة العربية، ولكنها خالية من القواعد النحوية والتراكيب البلاغية التي كان يستخدمها فصحاء العرب ويتعمدونها، ولو نشأت مثلاً في الهند أو بنغلادش لن تملك شيئاً من العربية إلا بعد ″اللتيا والتي″، وقد لا تنجح، فاحمد الله على النعمة.

اللهجة المحلية هي بنت الصحراء العربية، وهي أيضاً بنت اللغة الأم التي لو أنفقت كلَّ ما في الأرض، فلن تعود سليقة بسبب التغيرات التي طرأت عليها منذ أكثر من اثني عشر قرناً، كما يعلم كلُّ مهتم بهذه اللغة العظيمة.

واللهجة الملحية يجب توثيقها؛ لأنها تعين على معرفة اللغة الفصحى، وإنَّ كثيراً من تعابيرها صحيحة كما وردت في اللغة الأم، ما عدا مفردات دخلت علينا من دول مجاورة وهي قليلة ومحصورة يمكن الاستغناء عنها، كما ذكر أخي سهيل معلقاً على مقالاتي، وسأضرب على ذلك أمثلة، فإني كنت جالساً عند بعض كبار السن، وذكر أنَّ فلاناً يقدح في نسب فلان، فقال آخر: نعم نضحه، فتساءلت لماذا قال نضحه ولم يقل عابه أو سبه؟ فلما رجعت إلى المعاجم وجدت أنَّ من معاني النضح هو القدح في العرض.

وكذلك حدث لي مرة، أني كنت أقرأ كتاب ابن قتيبة المعروف بأدب الكاتب، فقلت لجدتي رحمها الله: ما الخبيط في لهجتنا؟ فقالت: في البر أو البحر؟ فقلت في البر، فقالت: الخبيط أن يأتي الراعي فيخبط الشجرة بعصاه، فما تساقط منها فهو خبيط تأكله الإبل، فنظرت إلي ما كتبه ابن قتيبة فإذا هو قد كتب المفردات نفسها، كأنه أخذه من بدوي أو بدوية، مثل جدتي مع اختلاف الزمن.

الاهتمام باللهجة المحلية ودراسة أساليبها وحفظها يجب أن يلقى عناية كبيرة منَّا، فهو دليل على الفصحى، ومعين لنا على فهمها، وشاهد على تاريخنا الذي سطَّر في هذه الأشعار العامية، وكفى تعجرفاً وكبراً عليها، وإني إن قلت هذا فلم أقله إلا حرصاً مني على لهجة بدأت تضيع، ولغة عربية فصحى أضيع منها، فانتبهوا قبل ضياع لا عودة بعده.