1,605 عدد المشاهدات
الكاتب: د. شهاب غانم
اللغة ركن أساسي في هوية أي شعب، واللغة العربية جزءٌ لا يتجزَّأ من هويتنا في الإمارات وفي كل الوطن العربي، كما أنها لغة القرآن ولذلك فهي عزيزة على قلوب كل المسلمين. والحقيقة هي أن القرآن كان له الدور الأساسي في حفظ اللغة العربية كلَّ هذه القرون، حتى في القرون التي ضعفت فيها الأمة وعاشت تحت الاستعمار. فبينما نجد فرقاً كبيراً بين لغات مثل الإنجليزية أو الفرنسية المعاصرة، وبين ما كانت عليه هاتان اللغتان قبل ستة قرون، إلا أننا نستطيع أن نقرأ ونفهم النصوص العربية التي تعود إلى فجر الإسلام، بل وحتى التي تعود إلى فترة الجاهلية كما في معلقات الشعر الجاهلي. واللغات كالكائنات يبقى منها الأكثر مرونة، ويبقى منها التي تتحلى بخواص البقاء. وهناك لغات كانت لإمبراطوريات قادت العالم في وقتٍ ما، كالإغريقية القديمة والفهلوية واللاتينية، ثم أصبحت لغات شبه ميتة يعرفها المتخصصون فقط، أو تستعمل للعبادة أو تولَّدت منها لغات أخرى. والسنسكريتية نموذج آخر.
وكجزء من مشروع النهضة في وطننا وفي البلدان العربية، لا بدَّ من النهوض باللغة العربية التي تتميز بخصائص تجعلها لغة عالمية دائمة الحيوية، ومن ضمن تلك الخصائص مقدرتها على الاشتقاق، واستيعاب الأفكار والأشياء الجديدة. ونحن نجد اليوم دولاً ناهضةً مثل كوريا والصين، وحتى أمريكا تهتم بتدريس اللغة العربية؛ لأنها تعتقد أنها ستكون أكثر أهمية في المستقبل، وستستعيد مجدها الغابر في المستقبل، وأن المنطقة العربية ستكون ذات أهمية كبرى بالنسبة لها اقتصادياً.
ولا بدَّ من تخطيط جاد جدًّا لهذا الموضوع، ربما بتكوين لجنة من المفكرين والخبراء، وإن أمكن على مستوى الجامعة العربية، بدعم معنوي ومادي كامل من القيادات العربية لمثل ذلك المشروع. ونحن نعرف أنَّ قادة الحركة الصهيونية عندما عملوا لإنشاء إسرائيل، خططوا لإحياء اللغة العبرية التي كانت شبه ميتة وجعلوها بعد ذلك لغتهم الرسمية، وهم في الأصل مهاجرون من بلدان شتى بلغات مختلفة. ولا شك أنَّ ذلك احتاج إلى كثير من التخطيط العلمي والصرامة في التنفيذ. الصين أيضاً في بداية 1950 قرَّرت أن تكون الماندرين هي اللغة السائدة في الصين بعد أن كان هناك لغتان سائدتان، وقد باتت الماندرين اليوم معروفة لدى الأغلبية الساحقة من الصينيين. وقد سقت هذين المثالين، لأبيِّن أنَّ أمرَ نهضة اللغة ممكنٌ إذا وُجِدَت الإرادة واتُّخِذَ القرار من القيادة بشأن ذلك.
لا شكَّ أن الإمارات قامت حتى الآن ببعض الخطوات في الاتجاه الصحيح مثل قرار عام القراءة، الذي مُدِّد ليستمرَّ عشرة أعوام. وكذلك إنشاء جمعية حماية اللغة العربية التي أُنْشِئَت في الشارقة في سبتمبر 1999. كما أكَّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي “رعاه الله” أنَّ “رؤية الإمارات 2021” تهدف إلى جعل الدولة مركزاً للامتياز في اللغة العربية. وكذلك قرار صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الصادر في ديسمبر 2016 بشأن إنشاء مجمع للغة العربية في الإمارات، ليتضافر في الجهود مع مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد.. إلخ.
ولكن اللغة أيضاً أداة للعيش الكريم وسوق العمل في بلد مثل الإمارات، حيث يهتم الطلاب باللغة الإنجليزية ويركزون عليها، ومثل ذلك يحدث أيضاً في بعض البلدان العربية الأخرى. وهذه معضلة تحتاج إلى حل، ربما من خلال دراسة عميقة من قِبَل لجنة من الخبراء في التربية والتعليم والإعلام والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع.. إلخ، بتكليف ودعم من القيادة لدراسة معالجتها. وقد يتطلب تنفيذ توصيات تلك اللجنة إلى ميزانية ضخمة، فلا بدَّ من موافقة القيادة ودعمها لذلك.
ومن الاقتراحات التي يمكن تقديمها للدراسة كعوامل مساعدة لنهضة اللغة العربية ما يلي:
1) إنشاء معاهد شبيهة بالمجلس الثقافي البريطاني (البريتش كاونسل) الذي يهتم بنشر اللغة الإنجليزية والثقافة البريطانية بأسعار زهيدة مدعومة، وكذلك “الألاينس فرانسيز” الذي يهتم باللغة الفرنسية، ومعاهد جوته التي تهتم باللغة الألمانية. وهذه المعاهد المقترحة ستهتم بنشر اللغة العربية لدى الأجانب بأسعار رمزية، وستساعد على نشر الثقافة العربية الإسلامية. وكنت قد كتبت هذا الاقتراح في مقالات قبل عقدين. ويمكن للإمارات أن تبدأ بهذه المبادرة ولا تنتظر الجامعة العربية أو الدول العربية الكبيرة لتقوم بذلك؛ فالإمارات اليوم هي قائدة في مجال المبادرات الناجحة، وهي نموذج يحتذى ويتطلع إليه.
2) الاهتمام بتعليم اللغة العربية في المدارس؛ فنحن اليوم نجد أبناءنا يجيدون الإنجليزية أكثر من العربية، ومن أسباب ذلك ضعف المدرسين في اللغة العربية، وأساليب تعليم اللغة، ولذلك قد يكون من اللازم لاجتذاب المتفوقين للتخصص في اللغة العربية رفع رواتب أساتذة اللغة العربية المتميزين أو تخصيص علاوة خاصة بأساتذة اللغة العربية.
3) الاهتمام بالترجمة؛ فقد اهتمت الحضارة العربية الإسلامية كثيراً بموضوع الترجمة في بداية نهضتها في العصر العباسي الأول، وأعطى ذلك دفعة كبيرة للتقدم العلمي والفكري، وكذلك اعتمدت نهضة أوروبا على ترجمة ما توصَّلت إليه الحضارة العربية الإسلامية.. إلخ.
4) التخطيط لتحويل التعليم الجامعي للعلوم والطب والهندسة إلى اللغة العربية؛ لأن الإنسان يستطيع أن يبدع أكثر إذا كان يفكِّر بلغة الأم ولذلك نجد دولاً مثل اليابان وكوريا تدرس أبناءها المواد العلمية في الجامعات بلغاتها. ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة من اللجنة المقترحة أعلاه، وربما يحتاج إلى تأسيس مشروع الترجمة العلمية أولاً، وربما إلى جيل أو أكثر من الخريجين الذين يجيدون لغة أجنبية كالإنجليزية بجانب إجادة اللغة العربية.
ولا شكَّ أنَّ هناك الكثير من الأفكار الأخرى التي يمكن أن تناقشها اللجنة المقترحة.