1,904 عدد المشاهدات
الكاتب: محمد بابا
من الذين عاشوا في حي الشندغة وكتبوا عنها، رونالد كودري، الذي كانت زيارته الأولى للمنطقة في عام 1948م، قرب نهاية خدمته التي شملت سنوات الحرب العالمية الثانية، وما بعدها في صفوف سلاح الجو الملكي البريطاني، وقد أسره كما كتب في مذكراته عن رحلته التي نشرت تحت عنوان «الألبوم العربي»، ذلك الجزء من العالم، حين كلف بالعمل في شركة تنقيب عن النفط في الساحل المتصالح، فاتخذ من دبي مقراً له.
وأجمل ما في رحلة كودري، هو تلك الكاميرا التي كان يحتفظ بها، وأحياناً أخرى تكون مع زوجته، حيث صوّرا المظاهر الاجتماعية في الإمارات وفي دبي الفتية نهاية الأربعينيات بشكل حاذق، وإن كانا فَعَلا ذلك تلبية لشغف وهواية خاصة، فقد وثّقاً تفاصيل الحياة، وكانت صورة مرساة العبرات على ضفة الخور هي أول صورة لكودري في دبي، وكانت سنة 1948م، لكن تبعتها ومضات عديدة للمصور الهاوي والشغوف بالمجتمع والتعرُّف إليه.
كما ساعدته زوجته باميلا في مرحلة لاحقة، فسجّلاً مختلف جوانب الحياة، كما كان لليوميات التي دوّنها الزوجان كبير الأثر في إضفاء مسحة من الصدق، والموسومة بالكثير من المعلومات عن ذكرياتهم في تلك الفترة.
الشندغة والخور
لقد اندمج كودري وزوجته في النسيج الاجتماعي لأهل دبي، وأحبّا الحياة الجديدة، المملوءة بالبساطة والدفء، خلافاً لحياة لندن الباردة، وتشاركا مع الناس أفراحهم وحياتهم، وتعرّفا إلى عمق المجتمع، تحدوهما رغبة صادقة، كما وصف كودري، حين قال: أحببت المكان، وكنت أستمتع بما تتيحه الإجازات من رحلات، كما كان العمل نفسه اكتشافاً لمنطقة في طور التحديث، فتعرَّف عن قرب إلى البدو وإلى أهل الحضر، وركب المطايا، ونام في الصحراء، وخاض غمار البحر على السفن التقليدية من نوع «البوم» و«الجالبوت»، ويقول عن هذه الرحلة: «مضيت إلى دبي لأول مرة بحراً في العام 1948م… دنونا بعد رحلة استغرقت ثمانية أيام انطلاقاً من مسقط، على متن جالبوت يُدعى فتح الخير، من الميناء الذي ينتمي إليه مركبنا، وهو ميناء دبي، وبدا أفراد طاقمه الذين استبد بهم الانفعال لقرب لقائهم بعائلاتهم، وقد نفد صبرهم انتظاراً للوصول، تماماً مثلما نفد صبرنا تلهفاً لمشاهدة مكان جديد..».
ويضيف كودري في وصف المكان، عبر رحلة برية أخرى قادته من عمان على ظهور العيس إلى دبي، «تراءت أشجار النخيل مشيرة إلى اقترابنا من المدينة، وكانت متناثرة بين الرمال عند مشارفها، وليست مجتمعة في أجمات، وبدا شريط ممتد ورفيع من المساكن تعلوها البراجيل خلالها. وفي رحلة جوية أتاحت له النظر إلى المدينة من أعلى كتب، «لم يكن من المدهش أن نجد أنّ المدينة لم تتمدّد رأسياً، ولذا كانت تتخذ شكلاً متطاولاً منخفضاً لا يزيد ارتفاعاً على نخيلها أو أشرعة سفنها التقليدية الراسية في خورها، وكانت أعلى نقاطها أبراج مراقبتها وبراجيلها وذروة قلعة الفهيدي..».
ويأتي على وصف الخور والشندغة فيقول: «يقسم الماء مدينة دبي الساحلية ثلاثة أجزاء متميزة؛ هي بر ديرة على الشاطئ الشرقي للخور، والشندغة التي تشغل رقعة من الأرض تشبه المهماز تفصل الخور عن البحر، وبر دبي، ولكلِّ قطاع من قطاعات المدينة طابعه..»، ويخلص إلى الشندغة فيقول: «هي عنقٌّ بريٌّ ضيقٌ يحدُّه البحر من جانب والخور من جانب آخر».
اللقاء الأول مع الشيخ
وفي يوميات كودري بتاريخ 15 إبريل عام 1948م، ذكر أنه قابل للمرة الأولى الشيخ سعيد بن مكتوم، حاكم دبي آنذاك، وابنه الشيخ راشد بن سعيد، طيَّب الله ثراهما، وذلك عندما زارهما للإعراب عن الشكر على الرواحل والمرافقين، الذين أمر بإمداده بهم، من أجل رحلته من دبي إلى منطقة الذيد.
ويصف حفاوة الاستقبال والضيافة التقليدية التي تبدأ بالقهوة وتنتهي بتبخير الضيف بالبخور وأطاييب العود، كما يصف دار الحاكم، وموقعها وتردُّد أهل الحضر والبادية عليها، ويقول: إنَّ الأثاث الوحيد في المجلس هو السجاد.
وفي موضع آخر من يومياته، يصف بتاريخ 31 أغسطس عام 1950م رحلة الشيخ راشد بن سعيد من دبي إلى مكة، وبصحبته نحو ستين شخصاً، مستقلين سبع عربات، قاصدين حج بيت الله الحرام، ومظاهر عودتهم واستقبالهم بعد ذلك، على وقع إطلاق الرصاص من البنادق، والمأدبة العظيمة التي أقيمت في الشندغة احتفالاً بمقدمهم الميمون.
ويصف كودري بيته في الشندغة، وهي دار مطلة على الغبيبة، أقام فيها المؤلف وزوجته بعد زواجهما في عام 1952م، ويقول عنها: إنها آخر بناء حجري في دبي من جهة أبوظبي، وقد شيّده الشيخ راشد بن سعيد، وكان بناءً تقليديَّ التصميم، استخدم في بنائه الجص وحجارة الشعب المرجانية، وله نوافذ ذات مصاريع مزودة بقضبان حديدية، ولا يستخدم الزجاج فيها، وعندما كان جديداً، كانت له ركائز يترك البدو رواحلهم مربوطة فيها، وفي قت لاحق أضيفت متاجر للمبنى.
والمتابع لـ«الألبوم العربي»، يجد في كل صورة من صوره وانطباع من انطباعات يومياته، معلوماتٍ دقيقةً عن الحياة في دبي منتصف القرن العشرين، هذه المدينة التي أسرته بناسها وأهلها، وحركتها ومرونة الانسجام في مجتمعها، وعلى رأسهم شيوخها الذين قدّموا له كلَّ التسهيلات والمساندة، كما تحدّث عن العادات الاجتماعية في مختلف أطراف المدينة، والجنسيات المهاجرة من البلدان القريبة كإيران والهند، وعن دبي بشكل عام قال كودري إنها مدينة كوزموبوليتانية، يستحيل أن يسكنها المرء دون إدراك الأهمية المزدوجة التي يحظى بها موقعها.