8,066 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش – خاص
المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، كان دائماً مقصداً محبباً لمطالع القصائد والقوافي، يبرز في المدونة الشعرية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عبر الكثير من التجليات في النصوص؛ رمزاً وقدوة تتعدَّد صورها، ودلالاتها التعبيرية، وتأخذ أبعاداً متوالدة ومتشابكة، فهو الأب والوالد في بعده الخاص، وهو الزعيم والقائد في بعده العام، كما يتقاطع الوجدان الخاص مع الجماعي أحياناً كثيرة في هذه الصور الشعرية، مقدماً ملمحاً جلياً لرمز ومثل أعلى في دلالات النص.
فسيرة وحياة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، أثرت عميقاً في وجدان كلِّ من عايشه وسمع به، لثراء تجربته الإنسانية والقيادية، إذ لم يكن زايد مدرسة إلهام لعموم الناس فقط، بل كان مُعلماً لمعلمين وقادة أفذاذ ساروا على نهجه بنفس الروح والشغف، ومن هؤلاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي كان زايد مُعلمه الأول، ومدرسة ألهمته من قيمها الأصيلة، ونلحظ ذلك التأثير العميق في أقواله عنه وآرائه، وفي أشعاره وقصائده التي تزدان بحضور مُميز لزايد، يعبّر عن تلك المكانة، حيث يتجلّى كطيف ورمز ساكن في الوجدان، يضيء جنبات الروح والأمكنة، فالشيخ زايد خلّدت ذكرَه أعمالُه العظيمة وتغنّى كبار الشعراء بمنجزاته.
مدرسة ورمز
زايد هو المثل الأعلى والقدوة والبطل، ونجد ذلك في جُلِّ قصائد محمد بن راشد، كما في قصيدة «أحلام شعب»، التي يقدّم فيها مشهديات شعرية بليغة وبانورامية عن جميع مراحل تشكل اتحاد الإمارات، فيما يشبه الملحمة والتوثيق الشعري لما قام به الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، من جهد مع أخيه المغفور له الشيخ راشد، وإخوانهما المؤسِّسين، رحمهم الله جميعاً، ويقول في مقطع من هذه القصيدة:
أشــــوف فــي زايــــد تتحـــقــق أحلامـــــي
يحيـــــا لنـــا قايــــــد عـــــام ورا عـــــامي
مــــا دامـــه الرايـــــد مـــــا نخـــاف الأيـــامي
ويصل الوصف الشعري أوج تعابيره، حين وصف زايد بوجه الزمان، ولا يخفى ما في ذلك من تهويم شعري غاية في الرقة والجمال، ونشرت تلك القصيدة في أغسطس 1998 بمناسبة الذكرى 32 لعيد جلوس زايد، يقول فيها محمد بن راشد:
وجْه الزّمان اللّي تعودّت أشوفهْ
متبَسّمٍ والعيدْ كلّهْ أمَاني
عِيد الجُلوس اليومْ هلّتْ طُيوفهْ
وعَادَتْ وفي يومهْ نزفّ التهَاني
للّحَاكمِ اللّي لوْ كتبْنا حُروفهْ
باعدادْ مجْدهْ مَا ترومْ المعَاني
الشيخْ زايدْ لي عَلينا كُفوفَهْ
جودٍ وإحْسانٍ وظلّ وأمَاني
يولد من المعاني معاني شعرية أكبر، ومن صور الواقع الذي تغيّر في عهده، والذي لا يخفى على العين تعابير قريبة للروح، تليق بزايد ومآثره، وخيره الوفير وجوده العميم:
على بلادهْ مَا نعدّ امعْروفهْ
متوَاصلٍ كالغيثْ أوّلْ وثاني
ولولاهْ إنْ كان الدّهرْ مع صُروفهْ
غيّرْ عَلينا كلّ شي ف ثوَاني
جرّدْ على غدْرِ اللّيالي سيوفهْ
حتّى توَقّفْ مَا يدُور الزّمَاني
وامّا على بلادهْ فيَا كثرْ خوفَهْ
وشعْبهْ يعيش براحة وإطْمناني
منْ عهْده الزّاخرْ جنينا قُطوفهْ
ومن ما يصدّقْ أننا في الجِنَانِ
هَذي أمَانينا بشوقْ امعزوفهْ
للشيخْ زايدْ لي يحبّ المعَاني
تتكرّر الصور ذاتها، التي تشبهه بالغيث في عطائه وخيره، كما في هذا الوصف الدقيق والبليغ لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهو يصف زايد بالسحابة، يهمي كما يهمي الغيث، ويحمل الكَلَّ ويتولّى صعاب الأمور بعزيمة وشجاعة:
يا سحابه قدرها فوق السحاب
لا يصيبك باسْ يا بحر الندى
تحـت غيثك كلّ أنواع الشـراب
الحيا لاهلك وموت لمـن عـدى
عذبه لجـارك وللعـادي عذاب
كـم سقيـت المعتـدي طعـم الــرّدى
يا يـدٍ فيها الشـجاعه ما تهـاب
كــل غـالي لاجلهــا يعلـه فــدى
تحمليـن الضـرّ عنـا والصعاب
وتدفعين الضـيم ليـن آخـر مدى
شفافية ومآثر
وعبر قراءة نقدية لما تجود به النصوص من أفكار ومضامين، نجد أنَّ الشيخ زايد في أشعار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، تأخذ مظاهر مختلفة، وفي عمومها يجد القارئ تصويراً شفّافاً لسيرة بطل وقائد، من خلال حكمته وهمّته وأعماله الخالدة، فزايد رجل الحكمة، وفارس الصحراء ورجل البداوة والشاعر المرهف، والسياسي المحنَّك، وصاحب المآثر والإنجازات، التي أصبحت مفاخر لكلِّ العرب، يقول سموه في قصيدة «في رثاء والدنا الشيخ زايد»:
أيــــــنَ منهـــا زايـــــــــدُ الخيـــرِ الــــــــــذي
كــــــــانَ نجمـــــــــــاً فـــــي عُلُـــــوِّ الرُّتَــــبِ
عَرَبــــــــــيٌّ كــــــــــان فـــــــي طَلْعَتِـــــــهِ
خُلُـــــــــقُ الفَــــــــــــــارِسِ عنــــــدَ الطَّلــــبِ
لَــــــــمْ يَكُـــــــــــنْ زايـــــــــــدُ فينـــــا واحـــداً
بـــــــــــلْ هُــــــوَ الأُمَّــــــةُ حيـــــــنَ النُّــــوَبِ
وبين الشيخين مساجلاتٌ شعريَّةٌ، ومن ذلك ما ذكره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، في ديوانه «ديوان عام زايد»، وهو أنَّ سموه وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، كانا مع الشيخ زايد، رحمه الله، في قمّة من القمم العربية، وكان الشيخ زايد مشغولاً بأمور القمّة، لكنه فجأة تذكّر المحمدين فلم يجدهما حوله فداعبهما بهذه الأبيات:
اختفى محمد ورا محمد
حد يحضر وحد يغيبي
والسبب ما ظن متعمّد
السبب حب الغراشيبي
كم با نخفي وبنيود
من فعلهم راسك يشيبي
ولما وصلت الأبيات إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كتب في جوابه يقول:
سيدي يشرح لك محمد
عن أمور عنك ما تغيبي
الخبر لي لافك وعوّد
يا بعد شبّاني وشيبي
لك تركنا الجو يتجدّد
حولك تحوم الرعايبي
والحرار اللي تبا تصعد
في القنص تقنص ولا تخيبي
قاصره عن صيدها تبعد
عن عقاب له مخاليبي
وصيدة الشبل الذي مبرد
تختلف عن صيدة الذيبي
الغائب الحاضر
زايد الشاعر، كانت القصيدة مطواعة بين يديه، سواء في ساعة الجد أو في ساعة المرح والدعابة، وكذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، الذي تتكرّر في نصوصه صورة زايد كطيف يملأ جنبات الروح والعقل والمكان، وهو الطيف الأثير لزايد، ما يشي بحضوره رغم الغياب، كما في قصيدة «إلى روح زايد»، الذي يقدّم فيها ملمحاً تعبيرياً رقيقاً ومؤثراً، لذلك التذكّر من خلال أخيلة مجنحة وآسرة، تستدعي الحضور من خلال تعبيرات متكررة «ضميت طيفك/ أضم الطيف/ أضمك»:
ضمّيت طيفك وكنت إنته محَلّ الطيف
محال أنّي أضمّ الطيف وآضمّك
لو كان بيني وبينك مثل حَدّ السيف
بآحط عِنْقى عَ حدّ السيف وآشمّك
يا بوي يا ضيف عَ الرحمن واغلى ضيف
آشوف زولك ولكن ما اقْدَر آلمّك
سَمّوك زايد وكان اسمك قصيد وْكيف
واكرَمْت شعبك وأهديت الوطن دَمّك
وفي قصيدة «ربان البلاد» يقدّم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، محاورة شعرية مع طيف زايد، ما يؤكد أنَّ زايد متأصِّلٌ في وجدانه، لمكانته الأثيرة والكبيرة، ولأثره الذي يعرفه كلُّ من عرفه، أحرى من عايشه، فقدره فوق ظن الناس، وكذلك ودادهُ، فمن لقي زايد لدقائق يذهل به، فكيف بمن قضى معه عمراً كان فيه الوالد والصديق الناصح والقائد الهُمام، ويشرح ذلك محمد بن راشد أكثر في مطلع هذه القصيدة:
زارني الطِّيفْ الذي ما يرحَلي
صاحي آشوفَه وفَ أحلامْ الرِّقادْ
طيفْ زايدْ لي بذكرهْ تَكْملي
راحتي وإنْ عادْ طيفهْ الخيرْ عادْ
عايشٍ في خاطري متْأصِّلي
كنِّهْ الأنفاسْ منْ طولْ إعتيادْ
ويقول سموه في قصيدة «ذكر زايد»:
اســتـظــل بْـاسـم زايد كـل لـيـلـه
وكــل لـيـله فـي مـنـامي لـه حـضـور
مـن أغَـمّـض عـيـنــيْ إتْشب الفتيله
وأشْـهـده وأشـاهـده وِيْـشِـع نــــــور
مــن جـبــيـنـه يشْعِلْ الظلما شعيله
وْهَــمْـس صـوته لي به تْطيب الصدور
زايد أنموذج راسخ في الذاكرة، وأثر قوي حاضر في الخاطر لا يغيب، ولا يبرح الوجدان والقلب، يضيء كما تضيء فتائل النور، ويتردّد صدى صوته عميقاً، وهو من تطيب بذكره الأنفس والصدور، والذكرُ للإنسان عمرٌ ثانٍ، لذلك فكلُّ ما يقال في زايد لا يُعدُّ مبالغة، فقد كان أهلاً لكل خير، ويعجبه، رحمه الله، الشعر والمدح؛ لأنه يحثّه على مكارم الأخلاق ومعاليها وكما قال أبو تمام:
ولولا خلالٌ سنّها الشعرُ ما درى
بغاةُ العلا من أين تؤتى المكارمُ