5,345 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
منذ صغري وأنا شغوف بالتاريخ، وبدأت أول ما بدأت بالسؤال عنه من أهلي كبار السن، كجدي مبارك بن حويرب، وخالي عبد الله بن حويرب وجداتي، رحمهم الله. فكنت أزعجهم بأسئلتي عن أنسابهم وتاريخهم، فحفظت بعضاً من سيرتهم وأشعارهم بما استطعت أن أحصل عليه منهم، وفاتني أن أسجل أحاديثهم أو أكتب كلَّ ما أسمعه منهم، فأنا صغير قليل الخبرة ولم أجد من يوجهني آنذاك، بل لم أجد من يشجعني، والناس كما تعلمون في تلك الأوقات لاهية منشغلة في البحث عن رزقها، وليس لديها وقت لسماع ما نسميه «خراريف»، وهي كلمة عامية مفردها خروفة وأصلها فصيح من حديث خرافة المشهور الذي اختطفته الجن، ثمَّ لما عاد حدثهم بما رأى فكذبه الناس وقالوا حديث خرافة، ولكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، رُوِيَ عنه أنه قال: خرافة حق.
مصادر التاريخ
هذه القصص والأخبار التاريخية التي يراها بعضنا أنها من جنس الأساطير ولا فائدة منها قد تكون مصدراً مهماً من مصادر تاريخنا الذي ضاع معظمه بسبب عدم التدوين، وإن قالوا وماذا نستفيد من تدوين أخبار زمن لم تكن فيه حضارة ولا تقدم، وإنما هي صحراء وإبل وبحر، فالجواب على هؤلاء: إنَّ هذه الحضارة التي ترونها اليوم ما هي إلا تكملة لجهود الماضين المؤسِّسين، فلا يُبْنَى بناء في الهواء، وإنما على قواعد ثابتة، وهذه هي حضارتنا الحديثة بنيت على قواعد أجدادنا الثابتة التي هيّأت لنا كلَّ ما ترونه، ومن حقِّ الأجيال الناشئة أن تعرف تاريخها وتدوِّن ما صار من قبل لتأخذ العبرة وتستفيد لحاضرها ومستقبلها، ويجب ألا ننسى مقولة والدنا الخالد الشيخ زايد، رحمه الله: «من ليس له ماضٍ ليس له حاضر».
زمن استقرار
في زمن استقرار وازدهار الكويت في عهد الشيخ عبدالله الثاني بن صباح الصباح الذي أتقن فنون السياسة والحرب، وزادت سفن أهل الكويت كثيراً في عهده، ما يدل على القوة الاقتصادية والحربية التي استخدمها في معاونة الجيوش العثمانية في سنة 1871، في هذا العهد المستقر ولد الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد البداح في الكويت سنة 1887م، في بيت فضل، ترجع أصول والده إلى منطقة الزلفي في نجد التي تعرضت لقحط شديد، فغادرتها أسرته واستقرت في الكويت، وعملت في تجارة الجلود وصوف الأغنام.
كبر الشيخ عبد العزيز فلما بلغ الثامنة من عمره أدخله والده الكتّاب، فتعلّم كتاب الله والخطّ ومبادئ الحساب التي هي أساسيات التعليم آنذاك، فلم يُعرف بعد التعليم الحديث إلا بعد فترة طويلة من هذا العهد.
يقول محمد ملا حسين عن هذه الفترة المبكرة من حياة الشيخ عبدالعزيز الرشيد: «ترك الشيخ عبدالعزيز الكتّاب لتعاطي التجارة مع أبيه، وكان آنذاك من تجار الكويت المعدودين ويشتغل بتجارة الصوف وجلد البهم، فزاول البيع والشراء مدة وهو لا يفكر في العلم؛ لأنه لم يتذوَّق حلاوته، لكنه أحب قراءة القصص الخرافية كقصة حسن الصائغ وغيره».
بسبب ولع الشيخ عبدالعزيز الرشيد بالقراءة، بدأ يبحث عن العلم ويحرص عليه؛ فالتزم الدراسة عند الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان، وكان من أهل العلم والورع، فمكث يتعلّم عنده فترة من الزمن وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقرأ الفقه الحنبلي، ثمَّ وردت عليه فكرة الرحلة في طلب العلم؛ لأنَّ بقاءه في الكويت لن يفيده، فعارض والده هذه الفكرة بسبب خوفه عليه، وفي إحدى سفرات والده خارج الكويت انتهز هذه الفرصة فرحل إلى منطقة الزبير، والتي كانت مركزاً للعلم في تلك الأيام وعمره خمس عشرة سنة، كان ذلك في سنة 1902، وكان لسان حاله يقول :
لأستسهلنَّ الصَّعبَ أو أُدْرِكَ المُنَى
فما انقادت الآمالُ إلا لصابر
يقول الأستاذ محمد ملا حسين: «للأب عذره في هذه المعاملة القاسية، لما كان يشاهده على طلاب العلم في الكويت من الزراية والفاقة، غير أنَّ الجوى لا يعرف الحدود فإذا طفح به القلب تدله به صاحبه؛ ولذلك ضرب الولد صفحاً عن نصائح والده في الكفّ عن طلب العلم، ودبّر وسيلة للسفر لانتجاع الآداب والعلوم».
دخل الشيخ عبد العزيز الرشيد، الزبير العراقية القريبة من الكويت، والتي كان عامة أهلها من أهل نجد الذين قطنوها من زمن بعيد، فدرس المذهب الحنبلي في مدرسة الزهير على يد الشيخ محمد العوجان، وتابع دراسته اللغوية والجبر والفلك وكل ما يراه مفيداً له، وهذا دأب طالب العلم المجتهد الذي لا يفتر عن التعلُّم وهو مقبل عليه.
في عام 1903 عاد الشيخ عبد العزيز إلى وطنه، وقد درس قدراً من العلم لم يشبع نهمه، ولكن الوالد الذي يخاف على ابنه فكّر في حيلة يقوم بها فيغيّر من فكره، فلم يجد غير الزواج، فعرض عليه الأمر فوافق، وفرحت العائلة بهذا الخبر، وظنوا أنه سيبقى في الكويت إن تزوج، وبعد الزواج بفترة عاوده الحنين لطلب العلم فرحل إلى الأحساء، وهي منطقة عامرة بكبار العلماء حينئذٍ، فدرس ألفية ابن مالك وبعض العلوم الأخرى، كان ذلك في سنة 1906.
لم يستطع الوالد تقبُّل رحلة ابنه، ولهذا بعد عودته من الحج عرّج إلى الأحساء وأمره أن يسافر معه إلى الكويت، فامتثل أمره وعاد، ولكن الأمر لم يطل عليه كثيراً، فقد خرج ثانية إلى الأحساء في عام 1908، درس فيها العلم، ثمَّ عاد إلى وطنه واشتغل في تجارة والده، وسافر معه في رحلات الغوص.
بحثاً عن العلم
لم يقنع الشيخ عبد العزيز بما حصّله من العلوم، فعزم في سنة 1911 أن يشدَّ الرحال إلى بغداد، فدرس العلم عن العلامة الشيخ محمد شكري الآلوسي، نبذة من شرح السيوطي على ألفية ابن مالك، وأكمل هذا الشرح على أخيه السيد علاء الدين الآلوسي، ودرس الفقه والحديث على العلماء، ثمَّ وجد الشيخ عبدالعزيز أنَّ بغداد لا تكفي لإشباع نهمه العلمي، فارتحل منها إلى القاهرة، وأمل في الانضمام إلى دار الدعوة والإرشاد التي أسَّسها الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
تغير كبير
في عهد الشيخ مبارك الكبير تغيَّرت مشيخة الكويت كثيراً، وكان من أهم ملامح هذا التغير بداية ظهور حركة تعليمية وثقافية كبرى يقودها أهل المال والعلم والوجاهة، ويرعاها حاكم البلاد ويشجعها. ولعلَّ افتتاح المدرسة المباركية في الثاني والعشرين من ديسمبر سنة 1911، وهي أول مدرسة نظامية في الكويت، وكانت تعتمد على تبرعات الأعيان، وفرضت روبيتين على كل طالب يعدُّ أهله من ميسوري الحال، أما الفقراء فقد كانت الدراسة مجاناً لهم، وهذا قمة التعاون في الخير، ومن بركة هذه المدرسة المباركية أنه بلغ عدد الطلاب سنة 1912، أي في سنتها الأولى، أكثر من مائتين وخمسين طالباً، وكان من الطبيعي أن يتضاعف هذا العدد خلال السنوات، كل هذا يشهد لهذا التغير في المجتمع الكويتي، وقد تكون أحد أهم أسبابه الطفرة الاقتصادية نوعاً ما في أسعار اللؤلؤ ونماء الاقتصاد والاستقرار السياسي، وهو نفسه السبب الذي جعل التاجر والمحسن أحمد بن دلموك يفتتح مدرسة الأحمدية في دبي، وقد تابع ابنه محمد من بعده مشروعه الخيري، رحمهما الله تعالى.
في هذه الأثناء كان الشيخ عبدالعزيز الرشيد يتابع تعليمه في بغداد على يد الشيخ العلامة محمود الآلوسي صاحب المصنفات المشهورة، منها كتاب «تاريخ بغداد ونجد»، وكتاب «بلوغ الأرب في أحوال العرب»، والتي نال عليها جائزة من ملك السويد، وقد بقي عنده ينهل من علومه، وحثه على أن يؤلف رسالة في بعض الفتاوى الحديثة، فطبع رسالته الأولى في مطبعة دار السلام ببغداد، وسمّاها «تحذير المسلمين من اتباع غير المؤمنين»، وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وقد جاء على غلاف الكتاب تأليف: العالم الجليل والكامل النبيل الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد البداح الكويتي، وهذا يدل على علوّ درجته العلمية آنذاك، ولا أظنه كتب عن نفسه ذلك، بل قامت إدارة الرياض البغدادية بإضافة هذا الوصف المستحق له.
كتب الشيخ عبد العزيز في مقدمة الكتاب: هذه رسالة مختصرة وعجالة ميسرة، انبعث العزم إلى تركيب جملها، واندفع الفكر في ترتيب مجملها ومفصلها، تشتمل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية مفسرة مقررة مشروحة محررة بأقاويل أهل العلم وأرباب الفضل والفهم.. إلى آخر ما كتبه.
سمع الشيخ عبدالعزيز في سنة 1912، وهو في بغداد، بأنَّ الشيخ محمد رشيد رضا افتتح مدرسة الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة، وهي أشبه ما تكون بالتعليم الجامعي، ولعله قرأ خبر افتتاحها من مجلة المنار التي كان يصدرها محمد رضا، وكانت تدرس الكيمياء والأحياء واللغة الأجنبية، إضافة إلى العلوم الدينية؛ فسافر إلى القاهرة وزار المدرسة في جزيرة الروضة، وخضع لمقابلة لتحديد مستواه، ولكن الإدارة رفضت قبوله، ولا أحد يعرف حتى اليوم سبب هذا الرفض، مع أنَّ الشيخ رضا يكبر الشيخ الرشيد بست سنوات تقريباً، وقد تكون رسالته المتشددة الآنفة الذكر سبباً لهذا الرفض، أو لأنَّ المدرسة تريد تعليم أبناء المصريين فقط، أو لأنها لم تكن مجانية وكانت تحتاج إلى مساعدات مالية وإلى طلاب ميسوري الحال، ولمن ليس لديه المال الكافي فعليه أن يدرس في جامع الأزهر؛ لأنه كان يتكفّل بتعليم المغتربين بغير مقابل، بل يدفع لهم مبلغاً ييسّر عيشهم في الغربة، وقد تكون سن الشيخ عبدالعزيز هي العائق، لأنَّ من شروط المدرسة يومئذ أن يكون عمر المتقدم ما بين العشرين والخامسة والعشرين، وكان الشيخ عبدالعزيز قد تجاوز هذه السن، والله أعلم.
الرضوخ للواقع
رضخ الشيخ عبدالعزيز للواقع الذي صده عن متابعة تعليمه، ولا ندري لماذا لم يكمل في جامع الأزهر الشريف الذي كان يعجّ بالعلماء والفقهاء في مذاهب المسلمين، ولكنه قرر بعد أسبوع من وصوله إلى القاهرة أن يتوجّه إلى مكة، فوصل إلى جدة وانتقل منها إلى مكة، وبعد موسم الحج سافر إلى مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبقي فيها عشرة أشهر، ودرس في الحرم الشريف لمدة شهرين، ثمَّ عاد إلى مكة ثانية، واتصل بعلمائها وحضر حلقاتها العلمية، والتقى أساتذة المدرسة الصولتية، وقد وجهت له دعوات لحضور احتفالاتها، وشارك في توزيع الجوائز على الطلبة، والمدرسة الصولتية قام بتأسيسها الشيخ محمد رحمة الله، وهو أحد العلماء الهنود الذين قدموا إلى مكة، وتعدُّ من أوائل المدارس شبه النظامية في ذلك العهد، وكانت تدرِّس العلوم الشرعية، وما زالت هذه المدرسة قائمة حتى اليوم.
العودة إلى الكويت
عاد الشيخ عبدالعزيز إلى الكويت في سنة 1913، وعاود تدارس العلم مع الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان، رحمه الله، وكان عضواً في الجمعية الخيرية التي تأسَّست في الكويت عام 1912، وكان يتذاكر فيها مع الشباب المهتمين بالعلم، الفقه والعقائد وعلوم اللغة العربية، واتصل بعلماء الإسلام خارج الكويت من أمثال الشيخ جمال الدين القاسمي في دمشق، وغيره من العلماء .
بسبب نبوغ الشيخ عبد العزيز في العلم الشرعي، تمَّ تعيينه في المدرسة المباركية سنة 1917 مدرساً ومديراً لها خلفاً للأستاذ يوسف بن حمود، وبقي يعلّم ويدير المدرسة المباركية لمدة سنتين، ثمَّ استقال منها، وأنشأ مع زميله الأستاذ عبد الملك الصالح المدرسة العامرية، ولكنه لم يعمل فيها إلا قليلاً واشتغل بالتجارة، حيث استلف مبلغاً من المال وفتح به متجراً يبيع فيه الأرز والقهوة والأقمشة وغير ذلك، كأنه زهد في التعليم وأهله، ثم بعد ذلك أسند له ولي العهد آنذاك الشيخ أحمد الجابر، رحمه الله، مهنة الوعظ في مجلسه.
لم يكن الشيخ عبد العزيز شيخ علم أو تاجراً فقط، بل حمل السلاح ودافع عن وطنه الكويت، حيث شارك في معركة الجهراء عام 1920، وجرح فيها في قصة طويلة رواها الشيخ عبد العزيز في كتابه «تاريخ الكويت».
تأسيس الأحمدية
في عام 1921 سعى الشيخ عبد العزيز لتأسيس مدرسة نظامية، وقد نال ما تمنى، فتمَّ تأسيس المدرسة الأحمدية نسبة للشيخ أحمد الجابر الذي أمر بها، واشتغل الشيخ الرشيد بالتعليم فيها، وقد أسهم في تنمية مهارات الطلاب بالأنشطة والفعاليات، ثمَّ في سنة 1923 قام بتأسيس النادي الأدبي، وألقى فيه أول محاضرة وكان موضوعها الخطابة.
في هذه الفترة دُعِيَ الشيخ عبد العزيز للمشاركة في عديد من الاحتفالات والمناسبات وإلقاء الكلمات، وكان يراسل المجلات العربية وينشر فيها مقالاته، وأصبح مراسلاً لجريدة الشورى المصرية، ويكتب الرسائل الصغيرة في الفتاوى والأحداث الطارئة، حسب ما كان يراه مناسباً.
في عام 1926 قام بتأليف أهم كتاب سيبقى خالداً باسمه هو «تاريخ الكويت»، الذي ساعده على إكماله الشيخ أحمد الجابر، رحمه الله، وأعطاه ألفين وخمسمائة روبية ليكمل هذا المشروع الكبير، وقد جمع مادة الكتاب مما رآه وسمعه من الماضين، وكذلك مما قرأه في الكتب، وهو من المصادر المهمة عن تاريخ تلك الفترة؛ لأنه عالمٌ عرف بالصدق والأمانة العلمية، يقول في مقدمة الكتاب: «لم أزلْ راغباً في تدوين ما علق بأذهان إخواني الكويتيين من أخبار وطني العزيز وحوادثه، وما طرأ عليه من التقلُّبات والتطوُّرات منذ تأسيسه إلى يومنا هذا، علماً مني بأنَّ جمع شتات ذلك أعظم خدمة يقوم بها الوطني لوطنه، وأنفس هدية يقدمها لأبناء جلدته».
مجلة الكويت
بعد إتمام هذا المشروع الكبير أنشأ أول مجلة في تاريخ الكويت، بل في تاريخ الخليج العربي، وسماها «مجلة الكويت»، وكان أول صدورها في مارس من سنة 1928، وهي من أهم إنجازاته، وقد توقفت عن الصدور في مارس عام 1930 لأسباب مختلفة، يقول الشيخ عبدالعزيز في أول عدد منها ويهديها للشيخ أحمد الجابر: «إلى صاحب السمو أمير الكويت المعظم الشيخ أحمد بن جابر آل الصباح.. من أحق يا مولاي بإهداء المجلة إليه منك يا صاحب السمو الأمير الجليل، ولولاك لما صحَّ لها أن تبرز إلى عالم الوجود اليوم، ومن أولى بتقديم غادتها إلى ساحته منك يا صاحب السعادة، وقد مننت عليها بلفتة أزالت كلَّ غمّة في سمائها».
انتشرت «مجلة الكويت» في الخليج بقوة مع كثرة معاناتها المادية، وكان لها وكلاء في إمارة دبي، وهما الأديبان الكويتيان عبدالله الصانع والسيد ياسين الغربلي في وقت مقامهما في الإمارات، كما يظهر هذا في إحدى صفحات المجلة، ومن يتصفح هذه المجلة يجد أنها كانت حاوية للأدب والشعر والتاريخ واللغة والسياسة والعلوم الشرعية، لا يُمَلُّ منها ويستفيد القارئ الكثير بقراءتها.
قال الشيخ عبدالعزيز في أول مقدمة له فيها: «إنَّ إصدار مجلة للكويتيين في الكويت أمنية كان الوصول إلى قمتها من أسمى ما تتوق إليه النفس، ومن أجلّ ما تتمناه في هذه الحياة، غير أنَّ أشباح المثبطات التي ما زلت أبصرها في الطريق كادت ترميني في هوة من اليأس، لولا التشجيع الذي آنسته من رجل الكويت عندما عرضت المشروع عليه، فإنه أخذ بيدي إلى ساحة الأمل، ودكّ كلَّ ما أمامي من عقبات، ولا بدع فالأستاذ الفاضل الشيخ يوسف بني عيسى القناعي هو مصلح الكويت الذي تنضوي إلى رايته جموع العلم والأدب هناك، وها قد صحت العزيمة بفضله، وبفضل إخوانه الكويتيين الأماثل على تحقيق الأمنية بإصدار مجلة شهرية سنتها عشرة أشهر وتعوض القراء عن شهرين بكتاب نافع مفيد، فعسى أن تجد منهم تنشيطاً».
في أحد أعداد «مجلة الكويت»، وجّه الشيخ عبدالعزيز إلى ضرورة الاهتمام بكتب عمان التاريخية، فقال: «ألف في تاريخ قطر عمان عدة مؤلفات تناولت البحث عن حالتها الغابرة، وأخبرنا أديب دبي وشاعرها الفاضل الماجد أحمد بن سلطان بن سليم عن أربعة من تلك المؤلفات منها «تحفة الأعيان في تاريخ عمان»، وثلاثة غيرها، من بينها تأليف جمع الحوادث التي وقعت بينهم وبين البرتغاليين سابقاً»، وقال أيضاً: «إنَّ هناك دواوين لبعض الشعراء ممتعة تدل على ما لعمان من عظمة وماض حميد، وأسف الصديق الفاضل على عدم ظهور شيء منها مطبوعاً إلى اليوم، وناط أمله بسعادة العالِم الكبير سليمان باشا الباروني، ونحن نقول من المؤسف جداً أن تبقى مثل هذه المؤلفات النفيسة مهجورة لا يستفيد منها إلا أفراد قلائل، في حين احتياج الناس على اختلافهم إلى أمثالها من سائر المؤلفات التي تبحث عن غابر البلاد العربية وحاضرها، فعسى أنَّ سعادة الباشا أو من لهم الكلمة النافذة في تلك الأرجاء يتفضلون على الأمة العربية بإبراز تلك الكنوز الثمينة ليذكروا فيشكروا». انتهى كلام الشيخ عبدالعزيز، وأنا أقول إنه صدر كثير منها والحمد لله، وكلمات الشيخ الرشيد نستطيع أن نعرف منها علاقته بأدباء زمانه من أمثال شاعر الإمارات ومؤرخها أحمد بن سليم، والأديب الثائر الليبي سليمان باشا الباروني، وكذلك يمكنكم أن تشعروا بحرقته على تاريخ العرب، واهتمامه بنشره وعدم تركه حتى يضيع مع جملة الكتب الضائعة.
صفات كريمة
هذا، وللشيخ عبد العزيز صفات كثيرة وأخلاق كريمة، يقول عنها الأستاذ محمد ملا حسين: «الشيخ عبدالعزيز هو مثال للتواضع ومعرفة النفس يتكلم بهدوء ووقار، فيستولي على جليسه بلطفه وحيائه ولهجته الصادقة، وكان يلهو بمطالعة الكتب على أنواعها، وإذا خلا إلى نفسه انصرف إلى قلمه وقرطاسه وكتابه».
قام الشيخ عبد العزيز الرشيد برحلات كثيرة إلى البحرين وبغداد والأحساء ونجد، ثمَّ انتقل إلى جاوة في إندونيسيا، وهناك أسَّس مجلة أدبية دينية سمّاها مجلة «الكويت والعراقي» اشترك معه فيها العراقي الأستاذ يونس بحري وصدرت في سبتمبر من عام 1931، ولكنها لم تستمر، وكذلك أصدر مجلة أخرى باسم «التوحيد» وتوقفت هي الأخرى.
وهو في منطقة جاوة الإندونيسية شعر بآلام في صدره، وأحضر له الطبيب، ولكن أتاه القدر المحتوم، ففارق الحياة سنة 1938 وهو في الواحدة والخمسين من عمره بعد سنوات طويلة قضاها في الدعوة والتعليم والوعظ والتأليف، رحمه الله تعالى، وأدخله فسيح جناته.