9,667 عدد المشاهدات
مدارات و نقوش – دبي
سمِّيت “الشرطة” بهذا الاسم نسبة إلى شريط من القماش يُوضَعُ في اليد فوق ثوب رجال الأمن لتمييزهم عن عامة الناس، وذلك في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان. وهم نخبة السلطان من جنده، وهم المكلفون بالمحافظة على الأمن الداخلي بمنع وقوع الجرائم، والقبض على الجناة، وعمل التحريات اللازمة، وتنفيذ العقوبة التي يحكم بها القضاة، وإقامة الحدود. ويطلق على واحد الشرطة شرطي، وعلى جماعة الشرطة شرط وشرطية، وصاحب الشرطة هو رئيسهم وقائدهم، وربما سمِّي أيضاً عامل الشرطة، ومتولي الشرطة، وولي الشرطة. وقد يُسْنَدُ إليه أيضاً القيام بأعمال أخرى مثل: بعض أعمال الحسبة، والإشراف على الأحباس، والمساعدة على تحصيل الأموال، وإصدار الدنانير، وإطفاء الحرائق.
ينقسم تاريخ الشرطة بحسب حضارات الأمم والملوك؛ فلقد كانت الشرطة في العصور القديمة تمارس نشاط الحراسة الخاصة لقلعة الإمبراطور أو المملكة، وكذلك تدور في الأسواق والأحياء لحفظ الأمن وتتبُّع اللصوص.
مصر الفرعونيّة
عرفت مصر الفرعونيّة نظام الشرطة بصورة حراسةٍ على القصور لحماية الملوك، ثمّ توسَّعت فيه وصار لها مهام أخرى تعلّق أغلبها بمفهوم حماية الملك.
أثبت التاريخ أنَّ جهاز الشرطة عرفته مصر مع بدايات الدولة المصرية القديمة عندما وحَّد الملك نارمر (المشهور بمينا أي المؤسِّس) مصر في دولة واحدة يحكمها الفرعون، فظهرت الحاجة الماسة لإدارة تنظِّم أعمال توزيع مياه النيل بين المصريين، فكان جهاز الشرطة الذي اقتصرت مهمته الأولى على الحرص على توزيع مياه النيل بشكل عادل بين جميع المصريين آنذاك. ويذهب الدكتور سليم حسن في موسوعته «تاريخ مصر القديمة» إلى أنَّ أهمية هذا المنصب دعت إلى أن يتولى وزير الفرعون مهام رئيس الشرطة الأعلى في العاصمة، إضافة إلى المحافظة على المؤسَّسات العامة، ومتابعة العاملين في إدارة الدولة وعزل من يثبت فساده، إلى جانب حراسة الفرعون بتشكيل الحرس الخاص به.
ومع الوقت أصبح منصب «رئيس الشرطة» من أهم الوظائف في الدولة المصرية. ومن أطرف مهام الشرطة الفرعونية حماية مقابر الفراعنة؛ حتى لا يتعرَّض لها لصوص الذهب والمقابر، وهي المهمة التي تقوم بها حالياً شرطة الآثار.
الرومان والبيزنطيون
عُرِف نظامُ الشرطة في العصر الروماني، وكانت إدارتها في كلِّ إقليم تُسْنَدُ إلى موظَّفيْن اثنيْن رئيسيْن ينوب عنهما موظَّفٌ يقوم بأعباء الأمن في كلِّ مدينة وقرية.
ووُجِدَ في العصر البيزنطي موظَّفٌ يحمل اسم (الحامي) كانت وظيفته حماية الفقراء من ظلم الأغنياء، ويقوم ببعض أعمال الشرطة.
الشرطة في الإسلام
لم يعرف العرب في جاهليّتهم نظام الشرطة، وعندما قامت دولة الإسلام وجدت هذه الدولة حاجةً لحماية المجتمع الجديد؛ فأنشأت مؤسَّسة الشرطة للمحافظة على الأمن، وتعقُّب المشبوهين، وصيانة العقيدة، غير أنَّ المؤلّفين المسلمين لا يتّفقون على تاريخ إنشائها؛ فنرى أنَّ المقريزي في كتاب (الخطط المقريزية) يقول إنَّ أبا بكر هو أوَّل من أنشأ نظام الشرطة في مكّة لتعقّب الفاسدين، وسمّاها (العسس) ويرى السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء) أنَّ عثمان بن عفّان هو الّذي أنشأ هذا النظام، وعيَّن على رأسه عبد الرحمن بن قنفذ (وهو أوّل قائد شرطةٍ في الإسلام) وسمّاه صاحب الشرطة، ويعود إلى عمر بن الخطّاب فضل إنشاء أوّل حراسةٍ ليليّةٍ خصَّص لها رجالاً يتناوبون في دوريّاتٍ منتظمةٍ للإشراف على الأسواق، وكان يتابع سلامة البيع والشراء، وقد عيَّن على رأس الحرس مولاه أسلم ثمَّ عبد الرحمن بن عوف.
ويُعدُّ عمر بن الخطاب أوَّل من أنشأ حبساً خاصاً بالمتهمين بعد أن كان هؤلاء يُعْزَلون في المسجد، وعُرِف هذا الحبس باسم “السجن”.
وقد احتفظ علي بن أبي طالب لهذه المؤسّسة باسم الشرطة، ويروي الطبري في كتاب (تاريخ الرسل والملوك) أنَّ عليّاً أحدث ما سمِّي «شرطة الخميس» أي شرطة الجيش، وقد بلغ عددها في عهده أربعين ألفاً وعيَّن عليهم قيس بن سعد.
وتوسَّعت الاختصاصات في العهد الأموي، فوضع معاوية نظاماً لمراقبة المشبوهين، وأعدَّ سجّلاً في دمشق يتضمَّن إجراءات مراقبتهم، كما استحدث نظاماً يُشْبه نظامَ الهويّة الشخصية الّتي كان عليهم أن يحملوها معهم، وغيَّر اسم صاحب الشرطة وأصبح يُعْرَف بصاحب الأحداث (وكان يدخل في اختصاصه أيضاً استعمال القوّة لإخماد الفتن والثورات)!
وفي العصر العباسي أُعيد اسم صاحب الشرطة، وتوسَّعت اختصاصاتها؛ إذ أصبح من واجبها القيام بمهامّ حراسة الخليفة وأسرته، وأُلْحِقَ بها ديوانُ الدية وديوانُ النظر في المظالم، وبسبب توسُّع نظام الشرطة نجد أنَّ بغداد قُسِّمَت إلى قسمين كان فيهما شرطة الجانب الشرقي وشرطة الجانب الغربي، وأنشأ المأمون نظام المباحث كما نعرفه اليوم متطوّراً، حتّى إنّه أطلق بعض النسوة لمعرفة تحرُّكات خصومه السياسيين ولمراقبة الأشرار! وتمَّ أيضاً في هذا العصر إنشاء نظام للسجون لا يختلف كثيراً عن النظم المتّبعة حاليّاً. ووُجِدَ في هذا العصر ما سمِّي (المحتسب) الّذي كان يختصُّ بالجرائم المخلّة بأحكام الدين، إلى جانب صاحب الشرطة الّذي كان يختصُّ بالجرائم العاديّة!
وفي العصر الفاطمي قُسِّمَت المدن إلى أحياء، وعُيِّنَ لها رجالٌ يحرسونها ويضبطون ما يقع فيها من جرائم، وأُطْلِقَ عليها اسم (أصحاب الأرباع) ولكنّ الاسم ظلَّ ولاية الشرطة أو الولاية للاختصار.
وفي عصر المماليك اختفى اسم صاحب الشرطة وحلَّ مكانه اسم الوالي (والي الشرطة)، وكان يتبعه وكيل اسمه (النائب) وضبّاط يسمّون (الأعوان والنقباء)، ونقاط للشرطة تسمَّى المراكز. وقد شغل صلاح الدين الأيوبي أثناء شبابه منصب (قائد شرطة دمشق)، واهتمَّ بمحاربة الفساد والرشوة ومظاهر الخلاعة والمجون.
وأمّا في العصر العثماني فقد صارت أعباء الشرطة ملقاةً على عاتق (آغا المستحفظان) وكان أشبه بقائد الشرطة، و(الوالي) الذي كان أشبه بالمحافظ، وكان يتبعهما ضبّاطٌ يسمّون (الأوضباشية) و(القلقات)، وكان بعضهم يرأس نقاطاً للشرطة تدعى أيضاً القلقات ويساعدهم بعض الجنود والخفراء، وفي غير العواصم كانت أعباء الشرطة مسندةً إلى حكّام الأقاليم (الكشّاف) أو (الصناجق) ضمن أعبائهم العسكريّة والإداريّة والماليّة الأخرى، واشتهرت الدولة العثمانية بنظام الجندرمة، وبنظام رجال المباحث الّذين كانوا يسمّون (البصّاصين) وكانوا على درجة كبيرة من سوء السيرة والانحلال!
أنواع الشرطة في الإسلام
عرف العالم الإسلامي إلى جانب شرطة الأمن الداخلي أنواعاً أخرى من الشرطة مثل: الشرطة النهرية، وشرطة الخميس، وشرطة الجيش، والشرطة الخاصة.
وقد تبلورت اختصاصات صاحب الشرطة على مدى العصور الإسلامية، فظهرت وظيفة صاحب الشرطة في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الذي نُظِّمت الشرطة في عهده، ووضحت مهمة الشرطة في العصر الأموي في دمشق، وكان التنسيق وتوزيع الأدوار ومهام الشرطة في غاية التنظيم، ولهم زيهم وملابسهم الخاصة والأسلحة المخصَّصة للشرطة، وكان هناك دار ومقر الشرطة وصاحب الشرطة في دمشق وفي المدن الإسلامية. وفي العصر العباسي صار لكلِّ مدينة شرطة خاصة تخضع لرئيسها، وكان صاحب الشرطة يتخذ نائباً ومساعدين يسمّون «الأعوان»، وكان الشرط يتخذون أعلاماً خاصة، ويلبسون زيّاً خاصّاً بهم، ويحملون تروساً تحمل كتابات باسم صاحب الشرطة، ويحملون في الليل الفوانيس، ويصحبون معهم كلاب الحراسة.
وكان تعيين صاحب الشرطة من اختصاص الوالي أو الأمير أو الخليفة كما في عهد الدولة الأموية، وكان عزل الوالي يتبعه في معظم الأحيان عزل صاحب الشرطة، وكان الوالي يختار لهذه الوظيفة من بين أبنائه أو أقاربه، وصاحب الشرطة يخلف الوالي في السلطة إذا غاب في الحج أو الحرب أو غير ذلك، كما كان ينيبه عنه كثيراً في إمامة الصلاة، وأحياناً كان يوليه الإمارة، وعرف صاحب الشرطة في الدول الإسلامية التي تفرّعت من الخلافة العباسية.
ظهور الشرطة الحديثة
عرف جهاز الشرطة بشكله الحديث ظهوره خلال الفترة المعاصرة. ففي حدود القرن الثامن عشر شهد العالم ولأول مرة انتشار رجال الشرطة الحاملين زيّاً رسميّاً والحاصلين على أجور، بعد أن ظلَّ المتطوعون عماد هذا الجهاز طيلة الفترات السابقة.
وقبل ظهور الشرطة على شكلها الحديث اعتمدت بعض المجتمعات على الميليشيات، لفرض الأمن وتطبيق القانون. وأمام غياب مثل هذه التنظيمات اتجهت بعض المجتمعات إلى حلِّ خلافاتها وفضِّ نزاعاتها عن طريق العنف.
قديماً ببلاد اليونان، عمد القضاة إلى استغلال العبيد لفرض الأمن، حيث شكَّل هؤلاء العبيد نوعاً من الميليشيات التي اُسْتُخْدِمَت أساساً لتأمين الاجتماعات المهمة ومطاردة المجرمين.
استخدام المخبرين
أمّا بالنسبة إلى روما، فقد اتجهت الإمبراطورية إلى الاعتماد على الجيش لتوفير الأمن وفرض القانون. وبالتزامن مع ذلك عمدت السلطات الرومانية إلى استخدام المخبرين لنقل المعلومات المهمة.
في بلاد الصين يعود أوَّل ظهور لتنظيمات مشابهة للشرطة إلى حدود القرن التاسع قبل الميلاد، حيث عمدت ممالك تشو وجين إلى استخدام الولاة لفرض القانون بالبلاد.
وخلال تلك الفترة لم يتردَّد الولاة المنتشرون في مختلف أرجاء البلاد في نقل الأخبار للقضاة، والذين تكفَّلوا بدورهم بمهمة إلى الحكام، ثمَّ يعرضُ هؤلاء كلَّ هذه المستجدات على الإمبراطور.
أوَّل مراكز للأمن
يوم السابع عشر من شهر شباط/فبراير سنة 1800، كانت أوروبا على موعد مع حدث مهم، فخلال ذلك اليوم اعترف نابليون بونابرت، الإمبراطور الفرنسي وأقوى رجل في أوروبا حينذاك، برجال الشرطة ليعلن تكوين أوَّل مراكز للأمن، ومن خلال هذا القرار أمر بونابرت بإنشاء مركز شرطة بكل مدينة يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف ساكن.
وبعد مضي نحو ثلاثين عاماً على قرار نابليون بونابرت، عرفت فرنسا حدثاً مهماً آخر؛ فعلى إثر صدور مرسوم سنة 1829 مُنِحَ رجالُ الشرطة الفرنسيون زيّاً رسميّاً، وأصبحت فرقة باريس أوَّل فرقة شرطة في العالم تعتمد الزيَّ الرسميَّ.
بعد بضعة أشهر فقط عن صدور المرسوم الفرنسي سنة 1829، اتجهت إنجلترا إلى اتخاذ قرار مشابه؛ فمع تزايد نسبة الجريمة بشكل ملحوظ قرَّرت إنجلترا رسميّاً اعتماد مرسوم العاصمة خلال شهر أيلول/سبتمبر سنة 1829، وبموجبه تمَّ اعتماد مفهوم تنظيم رجال الشرطة مدفوعي الأجر من أجل التصدي للجرائم قبل وقوعها والقبض على المسؤولين عنها.
على الطريقة اللندنية
بفضل النجاح الذي حقَّقته شرطة لندن في فرض الأمن، سجَّل مفهوم الشرطة على الطريقة اللندنية انتشاره نحو الولايات الأمريكية، حيث كانت مدينة بوسطن سبّاقة سنة 1834 في تكوين فرقة الشرطة الخاصة بها، وقد تبعتها لاحقاً نيويورك سنة 1844 وفيلاديلفيا سنة 1854.
وخلال بدايتهم رفض رجال الشرطة الأمريكية ارتداء الأزياء الرسمية، لكن مع حلول سنة 1854 فرضت الإدارة الأمريكية رسميّاً قراراً بتعميم ارتداء الزيِّ على أفراد الشرطة. في حين رفض أفراد الأمن بالمناطق الأمريكية النائية، والذين حملوا لقب “الشريف”، ارتداء زيِّ الشرطة الرسميِّ مفضِّلين الاكتفاء بوضع شارة النجمة على صدورهم، لكن مع حلول النصف الثاني من القرن العشرين اتجهت الإدارة الأمريكية رسميّاً إلى فرض ارتداء الزيِّ الرسميِّ على هؤلاء الأعوان.