2,810 عدد المشاهدات
الكاتب: الدكتور محمد أحمد عبد الرحمن عنب – مدرس بكلية الآثار الإسلامية، كلية الآثار، جامعة الفيوم
كان المسلمون دائماً سبّاقين في كافة أَوجه الحَضارة الإنسانية، وظَهر هَذا جَلياً في مَجال الرِّفق بالحيوان، وجاء ذلك بفهمهم لرُوح الإسلام السَّمحة، ونُصوصه الكثيرة التي تَحُضُّ على قيمة الرَّحمة والرِّفق بالحَيوان، ولذا يُعدُّ الرِّفق بالحيوان مِن أَهمِّ سِمات الحضارة الإسلامية التي دَعت إليها تَعاليم الدِّين الإسلامي ونصَّت عليه كتب الفقه الإسلامي. لقد وضع الإسلام مَبدأ الرِّفق بالحيوان مُنذ القِدم خِلافاً لِما يَظنُّه البعض مِن أنَّ الأوربيين هُم أوَّل مَنْ اهتمَّ بِرعاية الحيوان وتَأسيس دُور الرعاية لها، وقد جاءت عشرات النُّصوص تدعو إلى الرَّحمة بالحيوان. وهذه الرَّحمة قد تكون سبباً في دُخول الجَّنة، كَما في قِصة الرَّجل الذي نَزل بِئراً وَسَقى كَلباً كَان يَلهثُ مِن العَطش، فَجَزاه الله عَن ذَلك بِدخُول الجَّنة (1)، وَلقد كَان النَّبي ﷺ أوَّل مَنْ دَعا إلى الرِّفق بالحيوان والعَطف عليه، وقد سار الحُكام والخُلفاء مِن بَعده اقتداءً بِسنته ﷺ عَبر العُصور التَّاريخية؛ وقد تُرجم ذلك إلى أَفعال، حَيث خُصِّصت مُنشآت معمارية مستقلة خاصة برعاية الحيوانات، تِلك التي تَميَّزت بِها الحَضارة الإسلامية عَن غيرها عَبر العُصور التَّاريخية، ومِن أشهر هذه العَمائر «أحواض سَقي الدَّواب»؛ فما هذه العمائر؟ وما شكلها وتكوينها المعماري؟
ملحقات معمارية
أحواض سقي الدَّواب هي أَحواض مُلحقة بالمُنشآت المِعمارية المُختلفة، تَهتمُّ بِشؤون الحيوانات وسقيها، وقد عُرِفَت هَذه الأحواض وانتشرت بكثرة في مِصر وبِلاد الشام خِلال العصرين المملوكي والعُثماني، وهي أحواض معظمها حَجريٌّ وبَعضُها رُخاميُّ، ورُوعِيَ فِيها أن تَكون بالقُرب مِن أطراف المُدن وأبوابها، حَيثُ تَكثُر حركة الخارجين والدَّاخلين مِن المُسافرين والتُّجار، كما اتخذت موضعاً مُتميزاً في العمائر بالواجهات الرئيسة لها، ليَسهل شُرب الدَّواب منها.
التَّكوين المعماري لهذه الأحواض عبارة عن مساحة مُستطيلة أو مُربعة الشكل تُشبه الإيوان مُغلقة مِن ثَلاثة جَوانب، والجَانب الرابع مَفتوح عَلى الطريق؛ لتسهيل دخول الدَّواب المُختلفة للشُّرب مِن هذه الأحواض التي تَتخذ أشكالاً وطُرزاً مُختلفة؛ مُعظمها مستطيل الشكل والقَليل مِنها بَيضاوي أو دَائري، وخُصِّصت بها أماكن مُظلَّلة للدَّواب تَقفُ وتَستظلُّ بها، وَخُصِّصت لهذه الأحواض أَوقاف كَثيرة حَبسها الخيّرون عليها، كما خُصِّص لها قَيِّم أو فرّاش مُهمته الاهتمام بنظافة الحوض وكنسه وغسله، ومُتابعة سَقي الدَّواب وملء الحوض بالماء بصفة دائمة، ومُساعدة الناس للاستفادة من ماء الحوض.
أشهر الأحواض
ومن أشهر أمثلة أحواض سَقي الدَّواب؛ الحَوض الذي أوقفه السُّلطان الأشرف أبوالنصر قايتباى بقَرافة المَماليك بالقاهرة (879هـ/1474م)؛ لتَشرب مِنه الدَّواب أثناء سَيرها وتستريح مِن السَّير وتَستَظلُّ فيه مِن أشعة الشَّمس (2)، ويتكوَّن حوض السلطان قايتباي من إيوان كبير ذي مساحة مستطيلة سَقفها مُسطَّح، ويتصدرها حوض كبير يُمْلَأُ بالماء عَن طريق قصبات مُغيبة أسفل الأرض تنقل المياه مِن مصدرها الأصلي إلى الحوض بواسطة سَواقي (3).
كَما عُرِفَت أَحواض سَقي الدَّواب كَذلك في مَشرق العالم الإسلامي ومغربه، إلا أنها لم تَصل في الفخامة إلى مُستوى أحواض سَقي الدَّواب بالقاهرة؛ حيث تَحتفظُ تُركيا بِنَماذج مِن أحواض سَقي الدَّواب التي ترجع للعصر السُّلجوقي، ومِن أمثلتها الحوض المُلحق بمدرسة شلبي سُلطان في ميدان مِيرزافون. كَما عَرفت بِلاد المَغرب أيضاً هذه الأحواض، وجَاءت مُلحقة بالمساجد، وقد تَكون مُنفصلة عنها، وكانت تُزَوَّدُ بِالمياه مِن أَحواض الأَسبلة أو السقايات عَن طَريق أقصاب فُخارية، تصبُّ في أحواض سِقاية الدَّواب وتَتَّخِذُ شَكلاً معمارياً عِبارة عَن دخلات عميقة وصغيرة، وتُوجَد أسفل هَذه الدخلات في أرضية السقاية أحواضٌ عميقة أخرى ليسهل الشرب منها(4).
هَذا هُو الإسلام دين الإنسانية والرَّحمة، وهَذه هِي الحَضارة الإسلامية.. تلك الحضارة التي أبهرت أعين المستشرقين الغربيين؛ فنقلوا ذلك في كتاباتهم، ورسموا هذه العمائر بفرشاتهم في لوحاتهم التي تقف شاهداً على عظمة الإسلام ورحمة المسلمين. وأختم مَقالي بما قَالته المُستشرقة الأمريكية كِريستين ستيلت: «لقد بُنِيَ الإسلامُ على مبادئ الرِّفق والرَّحمة والعَطف والعَدل، والتي تُعدُّ مِن الأُمور الجيدة؛ هَذه المَبادئ التي تَنتشر مِن خِلال نُصوص الدِّين في القرآن والسُّنة، وأيضاً مِن خِلال ما جاء في التَّاريخ الإسلامي، حيث يأمرنا الإسلام بالعطف والرِّفق تِجاه الحيوانات في كُل الأمور».
المصادر
( 1) علي يوسف المحمدي، الرفق بالحيوان في ضوء الكتاب والسنة، جامعة قطر، ص193.
( 2) للمزيد انظر، مُحمد الششتاوي، مُنشآت الرِّفق بالحيوان في مَدينة القَاهرة في العَصرين المملوكي والعُثماني، رِسالة دُكتوراة، كُلية الآثار، جَامعة القاهرة، 2001م.
( 3) للمَزيد عَن أحواض سَقي الدَّوُاب انظر، سُعاد مُحمد مَاهر، أحواض سَقي الدَّواب خلال العصرين المملوكي والعُثماني بالقاهرة، مجلة الأثريين العرب، القاهرة، ص55-86.
( 4) غزوان مصطفى ياغي، منشآت رعاية الحيوان في العمارة الإسلامية، مجلة المعرفة، العدد 586، تموز 2012م، ص199-200.
مصدر اللوحات
1.https://www.facebook.com/Egypt.Orientalists/photos/a.183604395505143/270245806841001/?type=3.
2.3.4.5.https://www.facebook.com/photo.php?fbid=2048981175373128&set=a.1401786273425958&type=3&theater.