8,259 عدد المشاهدات
قاسم بن خلف الرويس QasemAlRuways@
مدخل تاريخي
في دراسته عن الإعلام السعودي، يؤكِّد الدكتور عبد الرحمن الشبيلي أن الصحافة لا يمكن أن تبدأ من دون توافر حد أدنى من الثقافة والتعليم للقارئ والمحرر، فإذا علمنا أنَّ الشام عرف المطبعة في عام 1706م، فإنَّ الجزيرة العربية لم تعرفها إلا بعد مرور أكثر من سبعين سنة، حيث كانت صنعاء أول مدينة في الجزيرة العربية تنشأ فيها مطبعة وذلك في عام 1877م، في حين لم تصل المطبعة إلى مكة المكرمة إلا بعد مرور خمس سنوات تقريباً على وصولها إلى صنعاء عندما أنشأت الحكومة التركية فيها مطبعة رسمية في عام 1883م/1300هـ؛ فالظروف العلمية والثقافية والاقتصادية في الجزيرة العربية بشكل عام لم تكن تسمح بحركة طباعية أو صحفية في ظل ندرة من يستطيع القراءة والكتابة، لدرجة أنَّ أوَّلَ صحيفة صدرت في أربع صفحات مناصفة بين اللغتين العربية والتركية، وذلك لضمان وجود عددٍ كافٍ من المحررين والقرّاء، في حين لم يستمر عددٌ من الصحف التالية الصدور لهذا السبب.
في حين لم تظهر الصحافة في البلاد، كما يشير محمد عبد الرحمن الشامخ في كتابه «نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية» إلا بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908م/13326هـ، حيث صدرت الجريدة الرسمية «حجاز» في مكة المكرمة، ثمَّ صدرت بعدها صحف أخرى هي «شمس الحقيقة»، «شمس حقيقت»، «الإصلاح الحجازي»، «صفا الحجاز»، «الرقيب» و«المدينة المنورة»، ثمَّ صدرت في عهد الشريف حسين صحيفة «القِبلة» في مكة المكرمة عام 1916م/1334هـ، وظهرت في المدينة المنورة صحيفة «الحجاز»، وفي عام 1920م صدرت صحيفة «الفلاح» ومجلة «مدرسة جرول الزراعية» في مكة المكرمة، وأخيراً صدرت جريدة «بريد الحجاز» في جدة عام 1924م.
وبينما يتفق الباحثون على أنَّ النشأة الحقيقية للصحافة في الدولة السعودية بدأت في أواخر سنة 1924م حين أُنْشِئَت صحيفة أم القرى؛ لأنَّ صدورها كما يشير الشامخ آذن ببدء عهد صحفي جديد اتسم بالاستمرار والاستقرار، وقام فيه أبناء البلاد بالدور الأكبر في ميدان العمل الصحفي.
وقد صدرت إلى جانب هذه الصحيفة صحيفتان أخريان هما صوت الحجاز والمدينة المنورة، وثلاث مجلات هي الإصلاح والمنهل والنداء الإسلامي، فإنَّ الباحثين لم يتحدّثوا عن الإرهاصات السابقة لصدور صحيفة «أم القرى» التي كان لها دورٌ كبيرُ في تبنّي الملك عبدالعزيز فكرة إصدار الجريدة بأسرع وقت ممكن، حيث صدر العدد الأول بعد دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة المكرمة بأسبوع واحد فقط. وعلى الرغم من المعلومات المقتضبة فإنها تدلُّ على أنَّ اهتمام الملك عبدالعزيز بالإعلام، وتطلعه إلى صدور صحيفة تتحدّث باسمه وتنقل صوت دولته إلى العالم، وتصوّر منهجها وسياستها، وتعبِّر عن آرائها وأفكارها في القضايا والأحداث، كان سابقاً لصدور صحيفة أم القرى بسنوات، بل هو سابق لتفكيره في السيطرة على الحجاز وضمّها تحت لواء دولته.
علاقة سلطان نجد وأهلها بالصحافة
من اللافت لنظر الباحثين في شؤون الصحافة في بلادنا، وجود بعض النجديين المهاجرين الذين اشتغلوا بالصحافة في وقت مبكّر قبل توحيد المملكة بسنوات طويلة من أمثال عبدالله المغيرة الذي حصل على امتياز جريدة عربية في إسطنبول باسم (المنبه) أثناء إقامته فيها (1297-1309هـ)، وتمَّ إيقافها قبل صدور العدد الأول، ولكن أحمد باشا الزهير نجح بعد ذلك في إصدار جريدة أسبوعية في إسطنبول عام 1326هـ/1908م اسمها (الدستور)، كما أنَّ عبداللطيف الثنيان أصدر جريدة (الرقيب) في العراق خلال العهد العثماني، وعبدالله الزهير الذي أصدر جريدة (الدستور) العراقية في البصرة عام 1330هـ/1912م، وكذلك سليمان الدخيل الذي أصدر جريدة (الرياض) في بغداد عام 1910م، ويظهر أنها أول جريدة تصدر بهذا الاسم، ثمَّ أصدر مجلة (الحياة) عام 1912م، كما أصدر أيضاً (جزيرة العرب) في مرحلة لاحقة. وكان الدخيل من أبرز الصحفيين الذين أولوا نجد والجزيرة العربية أهمية خاصة في كتاباتهم، ولم تقتصر كتاباته على الصحف التي يصدرها بل امتدت إلى غيرها، حيث يشير في مقالة نشرها عن نجد في مجلة لغة العرب في رجب عام 1329هـ/ يوليو 1911م إلى اهتمام أهل نجد بالجرائد والمجلات، حيث يقول: «وأهل هذه الإمارة يطالعون بلاعج الهوى الجرائد والمجلات، وتأتيهم من كل حدب وصوب…». ويعدُّ ما نشره عن نجد في جريدة الرياض التي أصدرها خلال الفترة (1327-1332هـ/1910-1914م) وغيرها من صحف العراق من أوائل المعلومات التي نشرت في الصحافة عن نجد عموماً أو عن الملك عبدالعزيز خصوصاً بحكم صلته به؛ إذ كان الملك متزوجاً من أخته لؤلؤة صالح الدخيل (ت1324هـ)، وكان قد التقاه وتحدَّث معه في بعض الجوانب السياسية ونشر ذلك في الصحافة.
وبغض النظر عن دقة كلام الدخيل حول انتشار الصحف والمجلات في نجد، إلا أنَّ الملك عبدالعزيز كان مستشعراً لأهمية الإعلام عموماً والصحافة خصوصاً منذ وقت مبكِّر، ولذا كان على اتصال بالجرائد العربية والأجنبية، واطلاع على ما ينشر فيها من معلومات وأخبار، ولا شكَّ أنَّ الجرائد كانت تصل إليه باستمرار عن طريق وكلائه في البحرين والكويت والعراق والهند، وكذلك الشام ومصر في مرحلة لاحقة، بل لم يقتصر اهتمامه بالصحافة على الاطلاع ومتابعة ما يُنْشَر فيها، بل امتد إلى التعاون معها أيضاً. ومن الراجح أنَّ أول مقابلة صحفية أُجريت معه كانت تلك المقابلة التي نشرتها جريدة الدستور العراقية في شهر ذي القعدة عام 1331هـ/أكتوبر 1913م، وأجراها المحرر بالجريدة، إبراهيم عبدالعزيز الدامغ، ونشرتها مجلة لغة العرب (3: 273).
وما يجدر التنبيه عليه أنَّ أخبار الملك عبدالعزيز منذ استعادته الرياض عام 1319هـ/1902م لم تكن غائبة عن الصحافة العالمية؛ فقد نشرت صحيفة ستاندرد standard البريطانية على سبيل المثال في عددها الصادر في 3 مارس 1902م خبراً تحت عنوان «قتال في شبه الجزيرة العربية» تضمَّن معلومات عن استيلاء الملك عبدالعزيز على الرياض.
ومن الشواهد التي تدلُّ على اهتمام الملك عبدالعزيز ومتابعته لما تنشره الصحف، هو وصول الجرائد إليه كلَّ أسبوع؛ إذ يورد الريحاني قول السيد هاشم الرفاعي عندما التقاه في البصرة سنة 1341هـ/1922م: «عظمة السلطان يعرفكم ممّا يطالعه عنكم في الجرائد التي تصله كلَّ أسبوع». ونلاحظ على سبيل المثال إرفاق الملك عبدالعزيز نسخة من جريدة (الفلاح) التي كانت تصدر في مكة المكرمة مع رسالة إلى القنصل البريطاني في البحرين بتاريخ 30 محرم عام 1339هـ، للاطلاع على ما نُشِرَ فيها.
كما أنَّ الريحاني أشار إلى معلومات تؤكِّد اطلاع الملك عبدالعزيز على جريدة (القبلة)، ومتابعة ما يُنْشَر على صفحاتها بخصوصه، واحتفاظه ببعض أعدادها التي تحتوي ذلك. وأمّا فيما يتعلّق بالصحف الأجنبية فتشير المصادر إلى أنَّ زوجة «ديكسون» الوكيل البريطاني في البحرين كانت تقوم بترجمة مقالات صحفية من مجلة فرنسية وتزوِّد الملك عبدالعزيز بها في عام 1342هـ/1922م.
وهكذا نجد أنَّ علاقة الملك عبدالعزيز مع الصحافة في البدايات كانت علاقة تقتصر على الاطلاع والمتابعة بشكل رئيس، وإنْ حدثت لقاءات له مع عدد محدود من الصحفيين وخاصة النجديين الذين عملوا في الصحافة خارج نجد كالدخيل والدامغ، ولكن دون استثمار إعلامي لدور الصحافة أو توظيف سياسي لانتشارها وتأثيرها.
ولعلَّ منشور الملك عبد العزيز الذي وجَّهه لأهل الشام بعد إعلان حكومة دمشق طلب التطوُّع لإنشاء جيش للحجاز، والذي نشرت نصَّه مجلةُ المنار في الجزء الخامس من المجلد الحادي والعشرين لعام 1919م/1337هـ، هو أول منشور إعلامي رسمي للدولة السعودية الحديثة تمَّ توجيهه للخارج من خلال وسائل الإعلام العربية، حيث أكَّد استقلال بلاده التي لا ينازعه فيها منازع، وفنَّد بعض ما يُلفَّق ضده وضد أهل نجد من مقولات باطلة، وبيَّن موقف الشريف حسين منهم وموقفهم منه.
حكومة نجد تنشر أول بلاغ عام في أشهر الصحف
يشير محمد رشيد رضا في مجلة المنار إلى دخول المسألة العربية في طور جديد في عام 1342هـ/1925م؛ بسبب خروج حكومة نجد من عزلتها وتعرُّفها إلى العالم الإسلامي والشعوب العربية، ومد يدها القوية إلى مساعدة البلاد العربية على الاستقلال المطلق الذي عبثت به خيانة أمراء الحجاز، والإلقاء بدلوها بين دلاء الشعوب الإسلامية في مسألة الخلافة، حيث صدر أول بلاغ عام من عاصمة بإمضاء نجل سلطانها، أُرْسِل إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي في 20 رجب سنة 1342هـ الموافق 25 فبراير 1924م، ثمَّ إنَّ مجلة المنار أوردت نصَّ هذا البلاغ الذي كان بتوقيع الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وباعثه مقال نُشِرَ في جريدة المقطم المصرية بتاريخ 21/6/ 1342هـ -27/ 1/ 1924م بعنوان «حديث ملك الحجاز»، وما اطلع عليه في بعض الجرائد السورية والعراقية من تصريحات تكاد تتفق مع هذا الحديث، وقد تضمَّنت أشياء عن سلطان نجد وموقفه من القضية العربية والاتحاد العربي تخالف الحقيقة والتاريخ، وأشار إلى كتب أرسلها سلطان نجد إلى الحسين وأولاده أثناء الحرب العالمية وبعدها، لبناء الوحدة العربية. تلك الكتب المرسلة مع مساعد بن سويلم، والتي نُشِرَت في الصحف حينذاك؛ ومنها المقطم، كما يشير في ثنايا الكلام إلى أنَّ تحت يده من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة والخرمة وعسير ما يدين ملك الحجاز وولده عبدالله، ولكنه يمسك عن نشرها الآن، فإن سمح ملك الحجاز بنشرها نشرناها حتى يعلم العالم الإسلامي الجنايات والدسائس التي يقوم بها أولئك القوم الذين يقلبون الحقائق.
ويبدو أنَّ هذا البلاغ الذي تناقلته الصحف العربية وغير العربية في أنحاء العالم الإسلامي وغير الإسلامي شكَّل منعطفاً تاريخياً مهماً في انفتاح حكومة نجد على الصحافة، والالتفات إلى الاستفادة منها في التعريف بنفسها وبثِّ أفكارها، والدفاع عن سياستها خارج حدودها.
حيث نَجِدُ الحكومة السعودية بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر تنشر بلاغاً آخر من عاصمة نجد بتوقيع الأمير فيصل بن عبدالعزيز أيضاً مؤرخاً في 28 شوال عام 1342هـ/ الموافق 1 يونيو 1924م، وموجهاً إلى العالم الإسلامي والشعب العربي حول الحرص على استقلال العرب وخذلان البعض للعرب، حتى تحوَّلت أراضيهم تحت الوصاية والانتداب، وإنَّ نجد ترحِّبُ بكل عربي لمحافظتها على استقلالها، ثمَّ تحدَّث عن مسألة الخلافة التي يجب عرضها على مؤتمر يمثِّل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحاً يسند هذه الوظيفة السامية إلى من يستطيع أن يصون حقوق المسلمين.
ثمَّ بعد ذلك بنحو شهرين يرسل خبراً من الرياض للنشر في جريدة الأخبار (نُشِرَ في 6 محرم عام 1343هـ/ الموافق 3 أغسطس 1924م)، وفي مجلة المنار وربما في غيرهما من الصحف حول مؤتمر الشورى الذي عُقِد في الرياض في أول شهر ذي القعدة عام 1342هـ، والذي طالب فيه أهل نجد بالغزو على الحجاز؛ ليتمكنوا من الحج الذي حُرِموا منه بسبب تعنُّت الحسين والذي تقرّر فيه ترك الغزو حتى تنتهي الأشهر الحرم، ثمَّ يتقرَّر بعدها ما فيه مصلحة. ولا شك أنَّ نشرَ هذا الخبر كان تمهيداً سياسياً مهماً لإطْلاع العالم على حقيقة الخلاف بين السعوديين والأشراف ووصوله إلى درجة إعلان الحرب.
وفي حين عبَّر أمين الريحاني في رسالة جوابية إلى الملك عبدالعزيز، يُرَجَّحُ أنها في عام 1342هـ/1923م، عن إعجابه بما ينشره الأمير فيصل من حين إلى حين في الجرائد، وخاصة ما جاء بخصوص مؤتمر الخلافة الذي سيُعْقَد في مصر، فإنَّ مجلة المنار أكَّدت ما للبلاغيْن ولخبر مؤتمر الشورى من تأثير كبير في الشعوب العربية والإسلامية، وقد سرَّ به أهلُ الرأي والبصيرة منهم، ولم يقتصر أثره على العرب خاصة، بل ظهر أثره جلياً في إيران والهند أيضاً، فعلقت جريدة اتحاد الإسلامية الإيرانية، وكتبت جمعية الخلافة في الهند إلى سلطان نجد متضامنة، ومقترحة أيضاً أن يجلب للرياض معامل أسلحة من الغرب، وإرسال بعثات علمية من الطلبة النجديين إلى الغرب، ليتعلموا كيفية صنع المخترعات الحديثة والآلات الحربية والمواد الكيميائية. ولعلَّ هذه الانطباعات الإيجابية عن أثر ما نشرته حكومة الملك عبد العزيز بشكل رسمي ممَّن يثق بهم ويتوقَّع منهم الصدق والإخلاص قد ولَّد ردة فعل إيجابية لدى الملك عبد العزيز نحو الدور المهم الذي تلعبه الصحافة في المجال السياسي، وأوحت إليه بضرورة التعجيل بإنشاء جريدة تنقل صوته إلى خارج حدود نجد.
وقد انتهت هذه المرحلة التاريخية، ما قبل ضم الحجاز، والملك عبدالعزيز لم يصطنع جريدة، ولم يبذل للمادحين ولا للناقدين درهماً ولا ديناراً، كما لم يهتم بأقوال الصحف المرجفة التي يهتم بأمرها ساسة الدول الكبرى ويبذلون في سبيلها الملايين، في حين سخّر له الله أقلام كثير من رجال العرب الذين كانوا يعملون لمصلحة العرب، فأغناه الله بهم عن استئجار الأقلام المنافقة التي كان يستأجرها غيره، وكان ذلك ممّا أثنت عليه به مجلة المنار وحمدته له؛ لأنه زعيم صادق القول والفعل لا يهتم بالمظاهر ولا يجنح للعظمة والكبرياء ولا للتمتُّع بالألقاب الفخمة، ولا لتوزيع الألقاب والأوسمة، ولا لبث الدعاية لنفسه، لا باسم الوحدة العربية ولا بعنوان الجامعة الإسلامية. وعلى الرغم من صحة كلام محمد رشيد رضا المنشور في مجلة المنار من أنَّ الملك لم يصطنع جريدة خلال تلك المرحلة؛ فإنَّ بوادر فكرة إصدار الجريدة التي كان رشيد رضا من المهتمين بها قد ظهرت في بعض الوثائق والمصادر.
بوادر فكرة إصدار الجريدة واسمها ومكانها
تورد وثيقة بريطانية يعود تاريخها إلى 31 مايو عام 1922م/ الموافق 4 شوال 1340ه،ـ وهي عبارة عن تقرير مرسل من القنصل البريطاني في جدة «وليم إدوارد مارشال» إلى وزير الخارجية البريطاني «إيرل بلفور» عن الفترة من 11 و31 مايو عام 1922م إشاراتٍ إلى اتصال بين السلطان عبدالعزيز آل سعود والشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المصرية، وعن توقُّع إرسال مدرسين مصريين إلى الأحساء، وصدور صحيفة (الرياض) فيها.
ففي هذه الوثيقة البريطانية ترد أول إشارة وقعنا عليها، وربما هناك إشارات قبلها، فيما يتعلق بوجود تفكير عند الملك عبدالعزيز بإصدار صحيفة اسمها (الرياض) تصدر في الأحساء. فيما نجد في الوثائق البريطانية إشاراتٍ إلى وجود علاقة ومراسلات بين الملك عبدالعزيز والشيخ محمد رشيد رضا تمتد إلى عام 1914م/1332هـ، كما وجدناه في المذكرة التي كتبها يوسف أحمد كانو من البحرين بتاريخ 17 أكتوبر عام 1914م/ الموافق 27 ذي القعدة 1332هـ. وفي إحدى الوثائق نلاحظ إشارة إلى رسالة من الملك عبدالعزيز إلى محمد رشيد رضا مؤرخة في 20 شوال عام 1332هـ/ الموافق 11 سبتمبر 1914م تتضمَّن معلوماتٍ عن تسلُّم الملك عبدالعزيز رسالتين من رشيد رضا مؤرختين في 8 و15 رجب عام 1332هـ، ويشكره فيهما على نصائحه ويدعوه إلى الحذر من المكائد السياسية الغربية، ويؤكد تبنيه لأي إجراء للوقاية من التدخل الأجنبي وحماية الجزء الخاضع له من جزيرة العرب، ويطلب من رشيد رضا معلوماتٍ عن بعض الأشخاص والجمعية التي يمثلونها، وعن القوات اللازمة لتنفيذ الخطة، كما يؤكّد اتفاقه مع الإدريسي وإمام اليمن وعلاقته القائمة مع شريف مكة التي لا تستدعي تدخُّلاً لحلها. وفي رسالة من محمد رشيد رضا إلى الملك عبدالعزيز بتاريخ 3 رمضان 1338هـ نجد تأكيداً على هذه المراسلات التي أشارت إليها الوثائق البريطانية، حيث يومِئ إلى ما كتبه إلى الملك منذ «بضع سنين» بشأن اتحاد أمراء جزيرة العرب والرغبة في استئناف العمل على هذا الاتحاد.
ونجد في رسائل الكاتب والمؤرخ اللبناني/الأمريكي أمين الريحاني إلى الملك عبدالعزيز بعض الإشارات المفيدة في هذا الموضوع؛ ففي رسالة له بتاريخ 28 شوال عام 1341هـ/ الموافق 12 يونيو 1923م نجد اقتراحاً ضمن عشرة مقترحات قدّمها إلى الملك عبدالعزيز، لتحقيق المدنية والعمران للدولة السعودية الناشئة بإنشاء جريدة ولو أسبوعية في الرياض أو القصيم أو الأحساء.
وفي رسالة أخرى بتاريخ 27 رجب عام 1342هـ/ الموافق 2 مارس 1924م يشير إلى تلك المقترحات التي قدَّمها للملك عبدالعزيز والتي سمّاها «اللائحة الإصلاحية» مؤكداً أنه قد يكون فيها ما لا يستطيع مباشرة القيام به وما لا يكون قد جاء وقته، وأنه بذلك أعلم، ملمحاً إلى أثر ما تناقلته الجرائد من خبر وفاته الكاذب، ويؤكّد أهمية إرسال بعض أبناء البلاد النابهين للتعلُّم في الجامعة الأمريكية في بيروت، ليعودوا لخدمة البلاد وسلطانها بما تعلّموه من العلوم النافعة، ويرى أنَّ في ابتعاثهم- مع المكاسب العلمية والوطنية- إعلاناً عن الطموحات والإصلاحات التي يسعى إليها، والبناء والعمران الذي ينشده، ما يؤدي إلى كسب ثقة الناس البعيدين وخاصة أصحاب الجرائد.
وفي رسالة بتاريخ 26 محرم عام 1343هـ/ الموافق 26 أغسطس 1924م يشير إلى أنَّ الأخبار عن الإخوان وأهل نجد لا تصل إليهم إلا عن طريق الأعداء، ولذا فهي مصبوغة بالتحامل، وقد تكون ناقصة أو مبالغ فيها، ويحبِّذ أن يصاحب الحملات العسكرية مَن يكتب أخبارها بكلِّ دقة وصدق وتوثيق، وتُرسَل إلى بعض الجرائد في الشام أو إلى ممثّل الملك فيوزّعها على الجرائد، كما يعبِّر عن سروره بنتائج المؤتمر العام الذي عُقِد بحضور الإمام عبدالرحمن، وحبَّذ مراسلة الجرائد بهذه الأخبار؛ لأنَّ في البلاد كثيرين يتوقون إلى أخبار نجد وسلطانها وأهلها، وأنه لا تقوم دعوة في هذه الأيام بغير وسائل النشر والتشويق، وأنه قائم فيما يستطيع منها دائماً.
رئيس تحرير الجريدة يصل إلى الرياض
الحقيقة أنه لم ينتصف عام 1342هـ/ الموافق لأوائل العام 1923م إلا وقد تبلورت فكرة إصدار الجريدة في ذهن الملك عبدالعزيز، وعزم على إصدار جريدة تطبع على الجيلاتين في عاصمة بلاده باسم (الرياض)، حيث تشير بعض المصادر إلى أنَّ الملك عبدالعزيز قد طلب من «خالد الحكيم» عندما قدم إليه في الأحساء برفقة وكيله في الشام الشيخ «فوزان السابق» أن يبعث له شخصاً مُلِمّاً بالسياسة؛ لكي يتولى مهمة إصدار جريدة في الرياض، فذكر له اسم «يوسف ياسين» فرحَّب به الملك وهو لا يعرفه، فلما عاد الحكيم إلى سوريا أخبر «يوسف ياسين» الذي كان يتطلَّع إلى الالتحاق بخدمة هذا الملك العربي الذي كان محطَّ آمال رجالات العرب آنذاك، فما كان منه إلا أن شدَّ الرحال إلى الرياض في مطلع العام 1343هـ/1924م للقيام بذلك العمل المنشود، ولكن ما إنْ وصل إلى الرياض إلا وقوات الملك عبدالعزيز قد استولت على الطائف، ثمَّ لم تلبث حتى دخلت مكة المكرمة.
*صدور الجريدة من مكة المكرمة
انطلق الملك عبدالعزيز في رحلته التاريخية من نجد إلى الحجاز أو من الرياض إلى مكة المكرمة على ظهور الإبل في يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الآخر عام 1343هـ، وفي ركابه رئيس تحرير جريدته التي عزم على إصدارها في الرياض، وقد وصل إلى مكة المكرمة في السابع من جمادى الأولى عام 1343هـ، ولم تمضِ أيامٌ قليلة، وتحديداً في الخامس عشر من جمادى الأولى عام 1343هـ، إلا ورئيس التحرير يحقِّق رغبة الملك بإصدار الجريدة التي كان يريد إصدارها في الرياض من مكة المكرمة تحت اسم «أم القرى». وهذا التغير في اسم الجريدة ومكانها كان نتيجة طبيعية لتغيُّر الظروف السياسية واختلاف موازين القوى في الجزيرة العربية، وكان من الوعي التاريخي والإعلامي قيام «يوسف ياسين» بنشر توثيقه لتلك الرحلة على حلقات ابتداءً من العدد الأول من الجريدة، لتصبح شاهداً على عمله الصحفي الميداني الأول، ولا يستبعد أنه حرص على توثيق أحداث الرحلة أثناء الطريق؛ بهدف تحويلها إلى مادة صحفية تُنْشَر في الجريدة، وقد حضر من سوريا خصيصاً بناء على طلب الملك لغرض إصدارها.
*العوامل المساعدة على سرعة الإنجاز
وهكذا نرى أنَّ الملك عبد العزيز قد دخل مكة المكرمة وبرفقته رئيس تحرير جريدته الرسمية الذي استقطبه من الشام خصيصاً لأجل ذلك، فلا غرابة أن تصدر «أم القرى» بعد دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة بأسبوع واحد فقط؛ فصدورها السريع لم يكن فجائياً أو وليد الصدفة المحضة، بل كان مرتبطاً بإرهاصات تاريخية متطلعة، وعوامل سياسية مرتبة، إضافة إلى عدة أمور ساعدت على تعجيل صدورها وهي:
أولاً: خبرة «يوسف ياسين» الصحفية؛ فقد مارس الصحافة، وتولى رئاسة تحرير جريدة الصباح، وشارك في التحرير والكتابة لعدد من الصحف العربية، فما كان يصعب عليه إعداد وتحرير المواد الصحفية.
ثانياً: إنَّ «يوسف ياسين» قد قدم من الشام أصلاً للعمل على إصدار جريدة لحكومة سلطان نجد وملحقاتها، فكانت فرصة لإثبات وجوده وكفاءته والبرهنة على قدراته.
ثالثاً: إنَّ معرفة «يوسف ياسين» بإمكانات جريدة «القبلة» ومطبعتها، والتي سبق أن شارك فيها بنشر بعض المقالات أيام لجوئه إلى الحجاز واستقراره في مكة المكرمة بعد معركة ميسلون عام 1920م، ساعدته على المبادرة وسرعة الإنجاز بإصدار الجريدة.
رابعاً: الحاجة الملحة لوجود منبر إعلامي في وقت ما زالت فيه نار الحرب في الحجاز مستعرة، خاصة أنَّ جريدة «بريد الحجاز» المتحدثة باسم الملك علي بن الحسين قد صدرت في جدة بتاريخ 29/4/1343هـ، وكانت إلى يوم صدور «أم القرى» قد أصدرت خمسة أعداد خلال 15 يوماً تقريباً.
الملك عبدالعزيز يرسل الجريدة إلى الريحاني
كنا أشرنا إلى الاقتراح الذي رفعه الريحاني إلى الملك عبدالعزيز بإنشاء جريدة في الرياض أو في القصيم أو في الأحساء في عام 1341هـ/ 1923م، إلا أنَّ الله أراد أن تنشأ هذه الجريدة في مكة المكرمة، فيقوم الملك عبدالعزيز بتاريخ 23 جمادى الأولى عام 1343هـ/ الموافق 20 ديسمبر 1924م يإرسال العدد الأول والثاني من جريدة «أم القرى» إلى الريحاني للاطلاع، وكأنه يقدِّم له البرهان الناصع على تحقيقه لأمنيته بعد مرور عامين تقريباً، لكنه في الحقيقة كان يريد أن يقول له ها نحن أصدرنا جريدة تنشر أخبارنا فلا تعتمد فيما يخصُّنا على غيرها! لأنَّ الريحاني في تلك الأثناء قد قدم إلى الحجاز بهدف السعي للصلح بين الملك عبدالعزيز وعلي بن الحسين المحاصَر في جدة.
الخاتمة
يتضح من خلال ما عرضناه في ثنايا هذا المسرد إرهاصاتٌ تاريخيَّةٌ مهملةٌ لنشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية، تؤكد أنَّ تفكير الملك عبدالعزيز لإصدار جريدة تكون لسان صدق لدولته الناشئة، وصوتاً مسموعاً لأفكاره وسياسته، وناشراً موثوقاً لأخباره وبلاغاته، كان سابقاً لسيطرته على الحجاز بثلاث سنوات تقريباً؛ إذ ظهرت بوادره التي تمكَّنَا من الاطلاع عليها وتوثيقها منذ عام 1340هـ/ 1922م، وتأكَّدت في عام 1341هـ/1923م، وبدأت خطواتها الفعلية باستقطاب رئيس تحرير متخصِّص يصدرها في نجد باسم «الرياض» في عام 1342هـ/1924م، ولكن تطوُّر الظروف السياسية وتحوُّل موازين القوى في الجزيرة العربية لصالح الملك عبدالعزيز خلال وقت قصير، هو ما بين وصول الطلب إلى رئيس التحرير في دمشق وبين وصوله إلى الرياض، جعل تلك الجريدة تصدر في الحجاز باسم «أم القرى» في أسرع وقت، لتصبح الجريدة الرسمية للدولة السعودية منذ 15 جمادى الأولى عام 1343هـ إلى يومنا هذا الذي قاربت فيه الخامسة والتسعين من عمرها.
ولا يفوتنا هنا التنويه بأنه بعد صدور «أم القرى» بنحو 33 سنة، تمَّ التصريح للشيخ حمد الجاسر بإصدار صحيفة في مدينة الرياض باسم «الرياض»، ما زالت مستمرة في الصدور، ومن المفارقات التاريخية أنها تكاد تكون الجريدة الوحيدة التي صدر لها التصريح تحت توقيع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، عندما كان أميراً للرياض، وقد تحوَّلت إلى صحيفة يومية في عام 1385هـ.