12,663 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش «خاص»
عاش العربي والخيل أجمل قصة حب عرفها التاريخ بين الإنسان والحيوان، حتى أضحت شغله الشاغل ومحط اهتمامه والعناية به كل العناية. فقد كان الجوادُ أهمَّ آلات الحروب، ومصدر العزة والكرامة حينما يحمى الوطيس وتشتعل نيران المعارك. ولهذا فقد استحوذ العرب على النصيب الأكبر من العلاقة الوثيقة التي ربطتهم بالخيل دون غيرهم من الشعوب، حتى اقترن الخيل باسمهم، فعرفت باسم «الخيل العربية». قال الجاحظ: «لم تكن أمة قط أشد عجباً بالخيل ولا أعلم بها من العرب، ولذا أضيفت إليهم بكل لسان، ونسبت إليهم بكل مكان، فقالوا: فرس عربي، ولم يقولوا: هندي ولا رومي».
من هنا، فإننا نجد أنَّ الحصان العربي يختلف تماماً عن غيره من السلالات الأخرى، وقد وثَّق ذلك ضابط الفرسان البريطاني أبيتون في كتابه «مشاهدات في ديار العرب»، حيث يقول:
«إنَّ مصطلح الحصان العربي يدلُّ دلالة واضحة على عرق أو سلالة من الخيل تعني الحصان الخاص بالعرب، ولا يمكن تعميم هذه القاعدة على خيول البلدان الأخرى؛ فعندما نتحدَّث عن الحصان الفرنسي أو الحصان الإنجليزي، أو عن أي حصان من البلدان الأخرى، نجد أنه لا توجد ميزة لهذه الخيول يمكن ربطها ببلادها، أما عند القبائل العربية فالحصان العربي هو الحصان الوحيد الذي يشكِّل وحدة متكاملة في ديار العرب؛ فهو معروف لدى سكان الجزيرة العربية كلها، ولهذا فإنَّ التعريف بتراث وتاريخ العرب يتضمَّن لا محالة الإلمام بالمعارف المتكاملة الخاصة بالجواد العربي الأصيل والهجين والفرق بينهما، وما اكتنف ذلك ممّا ورد عن العرب في تمييز الواحد منهما عن الآخر وأسباب ذلك».
العربي والهجين
تأصَّلت معارف الخيل في أذهان العرب منذ القدم، فهم أهل البوادي الذين خبروا الصحراء وكانت الخيل آلة الحرب لهم، ومطيتهم في حلهم وترحالهم، فكانوا على صلة مباشرة بها، من هنا كان العرب يرفعون من قيمة الخيل العربي، ويفضلونه على الهجين الذي اختلط دمه بعروق أخرى. فمعرفة العربي بالفرس هي بمقدار معرفته بأهله وولده. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لعمرو بن معديكرب: كيف معرفتك بالخيل العراب يا عمرو؟ فقال عمرو: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده. فالعرب تعتمد الحصان العربي النقي الأصل والسلالة، الرائع الجمال، والمعرب من الخيل الذي ليس في عرقه هجين، وأعرب الفرس إذا عرف عتقه. وقد عرف ابن البادية العربية التفرقة بين الجواد العربي والهجين، وخبر كليهما بمعرفة جادت بها قريحته وخبرته.
فالجواد العربي: فرس أمه وأبوه متساويان في الأصل، ويسمى العتيق، لعتقه من العيوب، وسلامته من الطعن فيه، والغالب أن يكون متوسط القد، متناسب الأعضاء يعجب كل من يراه. وقد جرت عادة العرب على تنويع التسميات لكل ما له شأن وشأو لديها، فسمت الفرس العربي بتسميات أخرى، منها: العتيق، وهو الكريم الأصل، الرائع الخلقة، الشديد العدو. ومنها: الطرف، وهو الفرس الذي يتساوى فيه الكرم وحسن المنظر. ومنها: الجواد: وهو الفرس الذي يشتمل على كل المواصفات الجيدة.
أمّا الهجين: فهو الفرس الذي يكون أبوه أشرف، أي أكثر أصالة من أمه، وجاءت التسمية من الهجنة، وهي العيب، وهو أفضل من المقرف.
أمّا المقرف: فهو الفرس الذي تكون أمه أشرف عرقاً من أبيه، مأخوذ من القرف، وهو القرب، وجاءت التسمية لقربه من الفرس الهجين.
كرم السلالة
ولم تكثر السلالات في الجاهلية والإسلام، إذ كانت تسمّى بأسماء فرسانها أو الأحداث والوقائع التي خاضتها تلك الخيول، أو مرابطها وصفاتها. كالأغر لشداد بن معاوية، والجرادة لعامر بن الطفيل، والجموح لمسلم بن عمرو الباهلي، وغيرها. غير أنَّ العرب كانت تفضل في الخيل أن يكون نقي الدم غير مختلط بغيره، وأن يكون متولداً في ديار العرب. وممّا يدل على ذلك ما ذكره النويري في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب» أنَّ عمرو بن العاص أهدى لمعاوية بن أبي سفيان ثلاثين فرساً من خيل مصر؛ فعرضت عليه وعنده عتبة بن سفيان بن يزيد الحارثي؛ فقال له معاوية: كيف ترى هذه يا أبا سفيان؟ فإنَّ عمراً قد أطنب في وصفها. فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصف؛ وإنها لسامية العيون، لاحقة البطون؛ مصغية الآذان، قبّاء الأسنان؛ ضحام الرّكبات، مشرفات الحجبات؛ رحاب المناخر، صلاب الحوافر؛ وضعها تحليل، ورفعها تقليل؛ فهي إن طُلِبَت سبقت، وان طَلَبَت لحقت. فقال معاوية: اصرفها إلى دارك، فإنَّ بنا عنها غنىً، وبفتيانك إليها حاجة.
وهذا النصُّ يدلُّ على حرص العرب على أن تكون الخيل متولدة في ديارها. غير أنَّ العرب أصبحت تنسب الفرس لأمه حتى وإن كان من سلالة أخرى، فهم يحصنونها بأمهاتها؛ لأنَّ العرب لا تطلق الفحل على الخيل إلا إذا كان في منتهى الأصالة. ومع ذلك فإنَّ الخيول العربية تعدُّ وحدةً متكاملة متميزة عن غيرها، في الشكل والألوان والمواصفات الشكلية والتشريحية، والنسبة المتقاربة في عدد الكريات الحمراء والبيضاء. جاء في كتاب «تحكيم الجواد العربي بين الأصالة والجمال» ص53: «وأخيراً أخذ بعض المربين يتغاضى عن اسم السلالة، ويطلق على الخيل أسماء عادية مثل: ميسون، وسوسن، ونرجس؛ فنحن يجب أن ننأى بخيلنا عن مثل هذه الأسماء، فهذه أسماء للقطط وليست للخيل، فإن لم تذكر اسم السلالة فلنسمِّها على الأقل بأسماء تراثية: بدر، هايس، ملواح، سمحة، وغيرها من المسميات الأصيلة».
رحلة أصالة
نقلت كتب أنساب الخيل حكاية انتقال الخيل من اليمن إلى بلاد العرب، وذلك أنَّ نبي الله داوود عليه السلام، كان يفضل الخيل على سائر الأموال، فلم يكن يسمع بفرس يذكر بعرق أو عتق أو حسن أو جري إلا بعث إليه حتى جمع ألف فرس لم يكن يومئذ غيرها، فلما قبض الله داوود وورث سليمان ملكه وجلس في مقعد أبيه، قال: ما ورثني داوود مالاً أحب إليَّ من هذه الخيل. فضمَّرها ودربها، ولم يزل معجباً بها حتى قبضه الله.
وكان أوَّل ما انتشر في العرب من خيل سليمان بن داوود، عليهما السلام، هو أنَّ قوماً من الأزد من اليمن قدموا على سليمان وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من أمر دينهم ودنياهم وهموا بالانصراف، قالوا: يا نبي الله، إنَّ بلدنا شاسع، وقد أنفضنا من الزاد، فمُرْ لنا بزاد يبلغنا إلى بلادنا؛ فأعطاهم فرساً من خيله التي ورثها من داوود وقال: هذا زادكم، فإذا نزلتم فاحملوا عليه رجلاً وأعطوه مطرداً وأوروا ناركم، فإنكم لن تجمعوا حطبكم وتوروا ناركم حتى يأتيكم بالصيد.
فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلت شيئاً تقع عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، فيكون معهم منه ما يكفيهم ويشبعهم ويفضل منه إلى المنزل الآخر، حتى قدموا بلادهم. فقالوا: ما لفرسنا هذا إلا زاد الركب فسموه به؛ فأصل فحول العرب من نتاجه. فلما سمعت بنو تغلب أتوا بني أزد فاستطرقوهم؛ فنتج لهم من «زاد الركب» «الهجيس»، فكان أجود من زاد الركب، فلما سمعت بذلك بنو بكر بن وائل أتوا بني تغلب فاستطرقوهم؛ فنتج من الهجيس «الديناري»، فكان أجود من الهجيس، فلما سمعت بذلك بنو عامر أتوا بكر بن وائل؛ فاستطرقوهم على «سبل»، وقيل أيضاً: إنها فرس غني بن أعصر بن مسعد بن قيس بن عيلان، وكانت أجود ما أدرك، فأنتجت «الأعوج الأكبر»، وليس للعرب فحل أشهر ولا أكثر نسلاً منه.