8,007 عدد المشاهدات
الكاتب: رامي ربيع عبد الجواد راشد – مدرس عمارة وفنون المغرب والأندلس كلية الآثار
في القسم الثاني من حديثنا عن مساجد فاس، وما تمثله من قيمة فنية ومعمارية في تاريخ البناء والتشييد العربي الإسلامي عموماً، والأندلسي المغاربي على وجه الخصوص، نتابع استعراض عدد من المعالم التي برز من خلالها فن العمارة الإسلامية، ولم يزل شاهداً حياً على عظمة الهندسة العربية في أوج نهضتها، وما خلَّفته من إرث حضاري لم يزل شاهداً ناطقاً بجماليات تلك الحقبة من التاريخ الإنساني العريق.
2- جامع الأندلس:
يقع هذا المسجد الجامع بعُدوة الأندلسيين بالجهة المقابلة لعُدوة القرويين، ويحظى كذلك بمكانة روحية جليلة في نفوس أهل المدينة عامتهم وخاصتهم، وإن كانت لا تربو – بلا شك – على مكانة صنوه جامع القرويين، إذ يرجع تاريخ بناء هذا الجامع أيضاً إلى عام (245هـ/ 859م)، وهو ذات العام الذي شُرع فيه كذلك بناء جامع القرويين، وذلك على يد مريم بنت محمد الفهري، أخت فاطمة، بانية جامع القرويين، من ذلك المال الذي ورثتاه عن أبيهما([1]).
أيضاً، ومثلما شهد جامع القرويين توسعة كبرى عام (345هـ/ 956م)، في عهد أحمد بن أبي بكر الزناتي، عامل أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر على مدينة فاس، فإن جامع الأندلس شهد هو الآخر توسعة مهمة في نفس المدة، هذا على الرغم من التضارب الحاصل عند ابن أبي زرع الفاسي، والذي يفيد في موضع من كتابه «الأنيس المطرب»، أن الجامع شهد – إلى جانب جامع القرويين – توسعة خلال تلك الفترة، حدودها باقية إلى الآن على حد قوله([2])، وفي موضع آخر يُصرح بقوله: «وأما جامع الأندلس فلم يزل على ما بُني عليه أولاً، لم يزد فيه أحد زيادة إلى سنة ستمئة، فأمر أمير المؤمنين محمد الناصر ببنائه وإصلاحه وتجديد ما تهدم منه»([3]). ولعل مما يرجح أن الجامع شهد زيادة – كجامع القرويين – على عهد أحمد بن أبي بكر الزناتي، تلك الصومعة التي لا تزال باقية إلى الوقت الحاضر، والتي جاءت على غرار صومعة جامع القرويين المؤرخة بعام (345هـ/ 956م)، الصورة (16)، وهو ما يؤكده كذلك الجزنائي بقوله: «يُذكر أن أحد عمّال الناصر لدين الله المَرْواني حين تغلّبوا على بعض بلاد المغرب زاد فيه زيادات من جملتها الصومعة التي فيه، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وثلاثمئة حسبما كُتب في عتبة بابها»([4]).
مما سبق يمكن القول: إن الجامع عرف خلال تلك الفترة زيادة مهمة، بحيث أصبح يتألف بيت الصلاة فيه من ست بلاطات من الشرق إلى الغرب مع صحن فسيح، حسب ما أفاد به أبو عبيد الله البكري (ت 487هـ/ 1094م)، في مسالكه ضمن حديثه عن عدوة الأندلسيين من مدينة فاس([5]).
لم يشهد جامع الأندلسيين – على خلاف جامع القرويين – توسعة أخرى خلال العصر المرابطي، وإنما تشير المصادر التاريخية إلى أنه ظل على ما كان عليه من التوسعة الزناتية إلى أن أُنهي إلى الناصر الموحدي سنة (600هـ/ 1203م)، وأنه يحتاج إلى الإصلاح والبناء، فأمر ببناء الباب الكبير الجوفي المُدَرّج([6])، الصورة (17)، كما أمر ببناء سقاية ومدخل لبيت صلاة النساء يعلوهما مصرية (غُريفة)، لأئمة الجامع عن يمين الخارج من هذا الباب المدرج، إضافة إلى دار وضوء بالقرب من ذلك الباب تحاكي التي بجامع القرويين في سنة (604هـ/ 1207م)([7])، وعلى الرغم من تلك الإفادات التي تؤكد عمليات الإصلاح والتجديد فقط، فهناك من يرى أن الجامع هُدم وأُعيد بناؤه في تلك الفترة على عهد الخليفة الناصر([8])، الشكل (4).
من بين التحف الفنية الفريدة التي ترجع إلى هذه المدة من العصر الموحدي، تلك العنَزة المطلة على صحن الجامع بالبلاط المحوري من بيت الصلاة، الصورة (18)، والتي لا تزال تحمل آثار نقش تسجيلي يقرأ: (وكان الفراغ منها في شهر محرم عام ستة وستماية)([9])، وما تجدر الإشارة إليه هو أن هذه العنَزة هي أقدم مثال قائم لتلك العنَزات بمساجد بلاد المغرب الأقصى، والتي جاءت تتسم بالبساطة من الناحية الفنية، خلافاً لما آل إليه الأمر في العصر المريني([10])، الذي شهد الجامع خلاله أعمال إصلاح وتجديد([11])، وكان من بين آثار ذلك العصر، خزانة الكتب التي ألحقها الأمير أبو سعيد عثمان بن أحمد بن أبي سالم المريني عام (816هـ/ 1413م)، كما هو مسجل بنقشها التأسيسي، الموجود في الوقت الحاضر – في غير موضعه – بحجرة إمام الجامع المجاورة لباب الصومعة، وفيه نقرأ حسب ما وقفت عليه: (الحمد لله وحده أمر بعمل هاذه [كذا] الخزانة السعيدة المباركة مولانا أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين عبد الله أبو سعيد أيد الله أمره وأعز نصره بتاريخ شهر ربيع الثاني من عام ستة عشر وثمان ماية دركنا الله خيرها)([12])، الصورة (19).
فيما يبدو أن الجامع لم يشهد أعمال إصلاح وتجديد خلال العصر السعدي (961 – 1069هـ/ 1553 – 1659م)، وهذا على خلاف الحال في العصر العلوي، إذ قام السلطان المولى إسماعيل بن الشريف ببعض أعمال التجديد، التي كان منها تلك السقاية الملحقة بالبائكة الشمالية من الصحن على يسار المواجه للباب الكبير المدرج، الصورة (20)، حيث لا يزال هناك نقش تسجيلي يفيد بذلك بتاريخ عام (1093هـ/ 1682م)([13]).
وهكذا، فإن ذلك المسجد الجامع بعدوة الأندلسيين من فاس البالي يشهد تاريخاً حافلاً من الأهمية المعمارية والفنية طوال العصور الإسلامية المتعاقبة، وإن كانت لا ترقى في الوقت ذاته إلى تلك الأهمية التي حازها جامع القرويين، صنوه بالعُدوة الأخرى المقابلة.
3- الجامع الكبير بفاس الجديد:
هو المسجد الجامع (الأعظم) بتلك المدينة المَلَكية، التي أسسها الأمير أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق عام (674هـ/ 1275م)، كما سبقت الإشارة إليه، وعن هذا يقول ابن أبي زرع: «ولمّا تمّ سور هذه المدينة السعيدة فاس الجديد بالبناء أمر ببناء الجامع الكبير بها للخطبة، فبُني على يد أبي عبد الله بن عبد الكريم الحدودي وأبي علي ابن الأزرق والي مكناس، والنفقة فيه من مال معصرة مكناسة، ولم يخدم في بناء هاذ [كذا] الجامع مع المعلمين إلا أسرا [كذا] الروم الذين قَدِم بهم من الأندلس، ففي شهر رمضان من سنة سبع وسبعين وستمئة تم الجامع المذكور وصلي فيه»([14]) .
يتكوَّن هذا المسجد الجامع من بيت للصلاة، الصورة (21)، وثلاثة أروقة أخرى حول صحن مكشوف، وتتسم عقود بيت الصلاة الحدوية المدببة، الصورة (22)، بالاتجاه العمودي على جدار القبلة، الشكل (5)، وهي السمة الغالبة في تخطيط المساجد الجامعة بالمغرب الأقصى في العصرين المرابطي والموحدي، إلا أنه على الرغم من هذا، فإن تخطيط هذا الجامع يمكن اعتباره النموذج الأول والأمثل لإحياء النمط القرطبي بتخطيط مساجد بلاد المغرب الأقصى، إذ تميز بيت الصلاة فيه بالاتجاه نحو العمق، اقتداءً بجامع قرطبة منذ عهد الأمير عبد الرحمن الداخل (170 – 171هـ/ 786 – 787م)، الشكلان (5، 6)،
بدلاً من الاتجاه نحو العرض بمساجد المرابطين والموحدين، كما أن الأروقة الثلاثة الأخرى حول الصحن يتكون كل منها من بلاطة واحدة فقط، الشكل (5)، مثلما هي الحال أيضاً بجامع قرطبة ضمن توسعة الأمير عبد الرحمن الأوسط (218 – 234هـ/ 833 – 848م)، الشكل (7)، وخلافاً كذلك لمساجد العصرين المرابطي والموحدي، وأخيراً، فإن كلاً من البلاطتين الطرفيتين من بيت الصلاة أقل اتساعاً من البلاطات الواقعة على يمين ويسار البلاط المحوري الأكثر اتساعاً منها جميعاً، الشكل (5)، وهذا أيضاً تقليدٌ وفيٌّ لتخطيط بيت الصلاة بجامع قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، الشكل (7)، وفي الوقت ذاته على خلاف مساجد المرابطين والموحدين.
كل هذه الخصائص المعمارية مجتمعة تحمل على القول – كما سبق ذكره – بأن هذا المسجد الجامع يُعد النموذج الأول والأمثل لإحياء النمط القرطبي التقليدي في تخطيط مساجد بلاد المغرب، ليس فقط خلال العصر المريني بكل من المغربين الأقصى والأوسط، بل وخلال العصر السعدي كذلك بحاضرة مراكش، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد أن تخطيط وعمارة هذا الجامع إنما كانت على يد المدارس الأندلسية، والقرطبية على وجه التحديد.
أيضاً، من بين الخصائص المعمارية المهمة التي تميز بها هذا الجامع، قبة البهو التي تعلو نهاية البلاط المحوري من جهة الصحن، الصورة (23)، وهي من النوع المعروف بـ«القبة ذات الضلوع المتقاطعة»، والتي ترجع في أصولها إلى القباب الثلاث التي تعلو مربع محراب ومقصورة جامع قرطبة من عهد الحكم المستنصر (351 – 355هـ/ 962 – 966م)، وهذه القبة تؤكد من جانب آخر أثر الحضور الأندلسي القرطبي في عمارة وتخطيط هذا الجامع، كما نلمس هذا التأثير الأندلسي أيضاً في صومعته الشامخة ذات الدخلات الرأسية التي تتخلل واجهتها الشمالية الشرقية، الصورة (24)، على غرار صومعة الخيرالدا بإشبيلية .
يمكن الإشارة أخيراً إلى إحدى التحف الفنية الفريدة التي اختُص بها هذا الجامع، وهي الثريا الكبرى المعلقة بمنتصف البلاط المحوري من بيت الصلاة، الصورة (25)، وهي تحمل نقشاً تسجيلياً يؤرخها بعام (678هـ/ 1279م)، كما جاءت على غرار الثريا الكبرى التي ترجع إلى العصر الموحدي بجامع القرويين، الصورة (9)، بيد أنها أقل شأناً منها، وإن كانت لا تخلو في الوقت ذاته من سمات فنية رائقة، تذكِّر بفنون عصر الخلافة بقرطبة، الصورتان (26، 27)، وهو ما يؤكد مرة أخرى الحضور القوي للمدارس الأندلسية القرطبية في عمارة وفنون هذا المسجد الجامع، الذي دارت بمربع محرابه مقصورة بديعة، الصورة (28)، كانت محل قرار الأمير وحاشيته عبر الباب المفضي إليها من القصر السلطاني بهذه المدينة المَلَكية فاس الجديد.
4- مسجد أبي الحسن:
يقع هذا المسجد بالطالعة الصغرى من عدوة القرويين بفاس البالي، وهو من أعمال السلطان أبي الحسن المريني عام (742هـ/ 1341م)، كما هو منقوش بصورة التحبيس الخاصة بالمسجد، الصورة (29)، وعلى الرغم من صغر مساحة هذا المسجد، الصورة (30)، لكونه من مساجد الفروض، فإن تخطيطه يتسم بالاتزان والانسجام، كما يتبع النمط التقليدي المكون من صحن مكشوف تحيط به الأروقة، الشكل (8).
من أهم ما يتميز به ذلك المسجد، صومعته الرائقة التي تعلو مدخله الرئيس، فهي من جهة تتبع النمط التقليدي لصوامع بلاد المغرب والأندلس، الصورة (31)، ومن ناحية أخرى تدل على تطورات مهمة في أساليب زخرفة الصوامع خلال العصر المريني، من حيث تنوع الشبكات المعينية التي تزين واجهاتها الأربع، فضلاً عن تعميم تكسيتها ببلاطات الزليج متعددة الألوان والأشكال الهندسية، وعلى الأخص منها زخرفة الأطباق النجمية المماثلة لنظيراتها في قصور الحمراء بغرناطة، الصورة (32)، وإضافة إلى الصومعة، فهناك أيضاً تلك الشرافة الخشبية عجيبة النقش، التي تعلو المدخل الرئيس للمسجد، الصورة (33)، وهي من النماذج النادرة بجماليتها الفنية الفائقة في مساجد ذلك العصر المريني، الصورتان (34، 35).
5- جامع الشرابليين:
يقع ذلك الجامع بحومة الشرابليين من عُدوة القرويين، على يمين المنحدر من الطالعة الكبرى إلى قلب المدينة، حيث جامع القرويين، وهو أيضاً من أعمال السلطان أبي الحسن المريني، حسب ما أفاد به ابن مرزوق التلمساني في معرض حديثه عن المساجد والجوامع التي بناها العاهل المذكور بمدينة فاس([15])، وتخطيط هذا الجامع يتبع النمط التقليدي المكون من صحن أوسط مكشوف تحيط به الأروقة، رغم ما أُدخلت عليه من بعض أعمال التوسعة والزيادة في فترات لاحقة من العصر العلوي، خلال عهد كل من المولى محمد بن عبد الله (1171 – 1204هـ/ 1757 – 1789م)([16])، وخلفه المولى سليمان (1206 – 1238هـ/ 1791 – 1822م)([17])، الشكل (9)، كما أن سقايته الملحقة بالطرف الغربي من واجهته الشمالية الغربية، تحمل نقشاً يؤرخها بعام (1255هـ/ 1839م)، من عهد المولى عبد الرحمن بن هشام (1238 – 1276هـ/ 1822 – 1859م).
لم يتبقَّ من آثار العصر المريني بهذا الجامع سوى صومعته البديعة، التي جاءت على غرار صومعة مسجد أبي الحسن، الصورة (31)، حيث لعب الزليج دوراً رئيساً في تكسية واجهاتها الأربع المحلّاة بالشبكات المعينية، الصورة (36)، كما تميزت ببعض النقوش الكتابية المنفذة بالخط الكوفي الهندسي المربع، بطريقة الزليج المقشّر، حيث نقرأ أسفل الواجهة الجنوبية الغربية عبارة (بركة محمد)، الصورة (37)، كما نقرأ أسفل الواجهة الجنوبية الشرقية – مع اتجاه عقارب الساعة – ما نصه: (الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي، رضي الله عنهم أجمعين)، الصورة (38).
([5]) البكري (أبي عبيد الله عبد الله بن عبد العزيز): المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب. جزء من كتاب: (المسالك والممالك)، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، د.ت، ص 116.
([10]) وهو ما يتضح من كلام الجزنائي ضمن وصفه للعنَزة المرينية بجامع القرويين بقوله: (وفيها من غرابة الصنعة ونفاسة الصبغة وإتقان الألصاق ودقة الخرط والنقش وجلالة الإحكاء ما يقضي العجب ويصرح بالإعجاز) . الجزنائي: جني زهرة الآس. ص 73.
([12]) لهذا النقش التسجيلي أهمية تاريخية كبرى، إذ يفيد أن لقب «أمير المؤمنين»، عُرف استخدامه بعد عهد أبي عنان فارس (749 – 759هـ/ 1348 – 1357م)، والذي يعتقد بعض الباحثين أن هذا اللقب كان قاصراً عليه وحده دون غيره من حكام بني مرين السابقين له أو اللاحقين عليه. إسماعيل (عثمان): تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى. مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط1، 1993م، ج 4، ص 67، 233، 453، نفسه: دراسات جديدة في الفنون الإسلامية والنقوش العربية بالمغرب الأقصى. دار الثقافة، بيروت، د.ت، ص 201 – 202، 231 – 233.
([16]) القادري (محمد بن الطيب): نشر المثاني لأهل القرنين الحادي عشر والثاني عشر. تحقيق: محمد حجي، أحمد التوفيق، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مكتبة الطالب للنشر والتوزيع، الرباط، 1407هـ/ 1986م، ج 4، ص 161.
([17]) المشرفي (محمد بن مصطفى): الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعدّ بعض مفاخرها غير المتناهية. دراسة وتحقيق: إدريس بو هليلة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، دار أبي رقراق، الرباط، طـ1، 2005م، ج 2، ص 65، ابن زيدان (عبد الرحمن): الدرر الفاخرة بمآثر الملوك العلويين بفاس الزاهرة. المطبعة الاقتصادية بالرباط، 1356هـ/ 1937م، ص 58، 72.